الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دليل أن استواء الله الوارد بالنص بمعنى العلو:
هو أن استواء الله على العرش الوارد بالنص جاء مقيدا بعلى وإذا قيد بها فلا يحتمل من المعانى إلا العلو والارتفاع والاعتدال ونحو هذا، ولا يكون بمعنى الانتهاء إلا إذا جاء مطلقا.
يقول ابن القيم: "إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه "نوعان" مطلق ومقيد. فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى}
(1)
وهذا معناه كمل وتم، يقال استوى النبات واستوى الطعام.
وأما المقيد فثلاثة أضرب:
أحدها مقيد "بإلى" كقوله "ثم استوى إلى السماء. واستوى فلان إلى السطح إلى الغرفة. وقد ذكر سبحانه هذا المعدى بإلى في موضعين من كتابة في البقرة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} .
(2)
والثاني في سورة السجدة {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} .
(3)
وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.
والثاني مقيد بعلى كقوله: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}
(4)
وقوله {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}
(5)
وقوله {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} .
(6)
وهذا أيضا معناه العلو
(1)
سورة القصص آية (14).
(2)
سورة البقرة آية (29).
(3)
سورة فصلت آية (11).
(4)
سورة الزخرف آية (13).
(5)
سورة هود آية (44).
(6)
سورة الفتح آية (29).
والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.
الثالث: المقرون بواو "مع" التي تعدى الفعل إلى المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها. وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم، وليس فيها معنى استولى البتة، ولا نقله أحد من أئمة اللغة الذين يعتمد قولهم، وإنما قاله متأخروا النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية".
(1)
وعلى هذا فحمل ابن حزم "استواء الله على العرش" الثابت بالنص على الانتهاء مما لايصح لغة، لأنه جاء مقيدا بعلى فتحدد معناه بالعلو، أو الارتفاع، أو الاستقرار، أو الصعود.
وما أحتج به من أن الاستواء في اللغة يقع على الانتهاء، صحيح لكنه فيما ورد مطلقا أما إذا قيد فيختلف معناه بحسب الحال التي ورد فيها ويؤيد صحة تفسير الاستواء بالعلو والارتفاع والصعود ما ورد بالنص من علو الله تعالى وارتفاعه فوق العرش مباينا للخلق.
يقول تعالى {يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} .
(2)
وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
(3)
وقوله {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}
(4)
وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}
(5)
(6)
وقوله {أَأَمِنْتُمْ مَنْ
(1)
مختصر الصواعق المرسلة (2: 320)، وانظر فوائد قرآنية لابن سعدي ص (34)، الأسئلة والأجوبة الأصولية لابن سلمان ص (161).
(2)
سورة آل عمران آية (55).
(3)
سورة الأنعام آية (18).
(4)
سورة النحل آية (55).
(5)
سورة فاطر آية (10).
(6)
سورة المعارج الآيتان (3، 4).
فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}.
(1)
وغير هذه الآيات في هذا المعنى كثير.
ومن الأحاديث ما روى مسلم بسنده عن معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي جارية ترعى غنما لي قبل أحد والجوانية
(2)
فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون لكني صككتها صكة فأتيت رسول الله صلى الله عليه فعظم ذلك على. قلت يا رسول الله أفلا أعتقها قال "ائتنى بها" فأتيته بها فقال لها "أين الله؟ " قالت: في السماء. قال "من أنا؟ " قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة"
(3)
.
وما روى مسلم أيضا بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم. كيف تركتم عبادى؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون"
(4)
(1)
سورة الملك الآيتان (16، 17).
(2)
موضع بقرب أحد إلى شمال المدينة المنورة. انظر معجم البلدان لياقوت (2: 175).
(3)
صحيح الإِمام مسلم (1: 381، 382)، وانظر سنن الدارمي (2: 187)، مسند الإِمام أحمد (2: 291)، موطأ الإِمام مالك (2: 776، 777) ورد الدارمي على المريسي ص (24)، الرد على الجهمية له ص (17)، التوحيد لابن خزيمة ص (121)، كتاب العلو للعلي الغفار للذهبي ص (17، 16).
(4)
صحيح الإِمام مسلم (1: 439)، وانظر صحيح البخاري (1: 77). (2: 145)، (4: 199، 208)، موطأ مالك (1: 170)، مسند أحمد (2: 257، 312، 486)، كتاب التوحيد لابن خريمة ص (117)، العلو للعلى الغفار للدهبي ص (19).
والأحاديث الدالة على أن الله تعالى في السماء مباين لخلقه عال عليهم كثيرة جدا.
وفيما ذكرنا من الآيات والأحاديث المصرحة بالرفع إلى الله والفوقية له، والصعود والعروج إليه وكونه في السماء دلالة صريحة على أن الله تبارك وتعالى في السماء بذاته دون الأرض مستو على العرش.
يقول الدارمي: "فالله تبارك وتعالى فوق عرشه فوق سمواته بائن من خلقه فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد. وعلمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد لا يبعد عنه شىء {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} .
(1)
سبحانه وتعالى عما يصفه المعطلون علوا كبيرا".
(2)
ويقول أبو الحسن الأشعرى: "فالسموات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السموات قال: أأمنتم من في السماء لأنه مستو على العرش الذي فوق السموات، وكل ما علا فهو سماء فالعرش أعلى السموات وليس إذا قال: أأمنتم من في السماء يعنى جميع السموات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السموات ألا ترى أن الله عز وجل ذكر السموات فقال:{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}
(3)
ولم يرد أن القمر يملأهن جميعا وأنه فيهن جميعا، ورأينا المسلمين جميعا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو السماء لأن الله عز وجل مستو على العرش لم يرفعوا أيديهم نحو العرش كما لا يحطونها إذا دعوا إلى الأرض".
(4)
في ذكرنا لقولي الدارمي والأشعرى بيان لمذهبهما في علو الله تعالى
(1)
سورة سبأ آية (3).
(2)
الرد على الجهمية للدارمي ص (18).
(3)
سورة نوح آية (16).
(4)
الإبانة للأشعري ص (31).
على خلقه وبينونته منهم، واستوائه على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه، وهذا مذهب السلف عامة فهم يثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تحريف ولا تعطيل.
روى عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك
(1)
رحمهما الله لما سئل عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
(2)
قال: "الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله تعالى الرسالة، وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ وعلينا التصديق
(3)
.
ويروى أيضا جواب مالك عن هذا السؤال بقوله: "الكيف غير معقول والاستواء منه غير مجهول، والإِيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
(4)
(1)
هو أبو عثمان ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ مولى آل المنكدر التيميين "تيم قريش" وهو المعروف بربيعة الرأي، أدرك جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وعنه أخذ مالك بن أنس وغيره وكان فقيه أهل المدينة. قال عنه مالك ذهبت حلاوة الفقه منذ مات ربيعة الرأي. وقال سوار بن عبد الله القاضي ما رأيت أحدًا أعلم من ربيعة الرأي. توفي سنة 136 من الهجرة. انظر وفيات الأعيان (2: 288 - 290)، ميزان الاعتدال (3: 44)، شذرات الذهب (1: 194).
(2)
سورة طه آية (5).
(3)
العلو للعلي الغفار للذهبي ص (98)، اجتماع الجيوش الإِسلامية ص (75)، وانظر شرح حديث النزول لابن تيمية ص (32).
(4)
الرد على الجهمية للدارمي ص (27)، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (7: 138، 151)، عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية المجلد الأول (1: 110، 111)، العقيدة الحموية لابن تيمية ضمن المجموعة الكبرى (1: 443)، نقض المنطق له ص (3)، وانظر العلو للعلي الغفار للذهبي ص (104)، اجتماع الجيوش الإِسلامية ص (81).
فهذا هو مذهب السلف في صفات الله تعالى التي وصف بها نفسه يفهمون معناها الذي تدل عليه ولا يكيفونها بما يعقلون من صفات المحدثين لعلمهم أن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شىء من خلقه تعالى وتقدس عن صفات المخلوقين. ولا يؤولونها عن معانيها الظاهرة المتبادرة من ألفاظها إلا إذا ثبت عندهم أن هذا الظاهر غير مراد.
يقول الشيخ محمد الأمين الشنقيطى: "إنه ينبغى للمؤولين أن يتأملوا آية من سورة الفرقان وهي قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} .
(1)
ويتأملوا معها قوله تعالى في سورة فاطر {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
(2)
فإن قوله في الفرقان {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} بعد قوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَن} يدل دلالة واضحة أن الله الذي وصف نفسه بالاستواء خبير بما يصف به نفسه لا تخفى عليه الصفة اللائقة من غيرها ويفهم منه أن الذي ينفى عنه صفة الاستواء ليس بخبير نعم والله هو ليس بخبير".
(3)
في كلام الشنقيطي بيان لخطورة تأويل الاستواء بغير ما يدل عليه حقيقة؛ لأن في ذلك مخالفة بوصف من وصف نفسه - وهو العليم الخبير - بغير ما وصف به نفسه.
ونرى بهذا القدر كفاية لبيان أن الله تعالى مستو علي عرشه بذاته، لا على معنى الاستيلاء، ولا على معنى نفى الاعوجاج وعلى هذين المعنيين رد الإمام ابن حزم ولا نخالفه في ذلك حيث إنا لا نرى صحة
(1)
سورة الفرقان آية (59).
(2)
سورة فاطر آية (14).
(3)
منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات للشنقيطي (26).
القول بهذين القولين.
وأما رده على من استدل بقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} .
(1)
بأن الله في مكان دون مكان، فلا نوافقه على هذا النفى المطلق وإنما نقول إن لفظ مكان من الألفاظ المجملة التي تحتمل معاني يصح إطلاقها على الله تعالى، وأخرى ينزه الله عز وجل عنها لأنها من صفات المحدثين، ومن سمات المربوبين.
يقول ابن تيمية: "قد يراد بالمكان ما يحوى الشىء، ويحيط به وقد يراد به ما يستقر الشىء عليه بحيث يكون محتاجا إليه وقد يراد به ما كان الشىء فوقه وإن لم يكن محتاجا إليه، وقد يراد به ما فوق العالم وإن لم يكن شيئا موجودا.
فإن قيل هو في مكان بمعنى إحاطة غيره به، وافتقاره إلى غيره فالله منزه عن الحاجة إلى الغير وإحاطة الغير به ونحو ذلك.
وإن أريد بالمكان ما فوق العالم وما هو الرب فوقه. قيل إذا لم يكن إلا خالق أو مخلوق، والخالق بائن من المخلوق كان هو الظاهر الذي ليس فوقه شىء، وإذا قال القائل هو سبحانه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه فهذا المعنى حق سواء سميت ذلك مكانا أو لم تسمه.
(2)
وقول ابن تيمية هذا يوضح موقف السلف من القول بأن الله تعالى في مكان، ببيان الجائز عليه من معنى هذا الإِطلاق المجمل ثم إن مذهب السلف إثبات أن الله تعالى في جهة العلو بائن من خلقه
(1)
سورة طه آية (5).
(2)
منهاج السُّنة النبوية لابن تيمية (1: 183)، وانظر المنتقى من منهاج الاعتدال (ص 81)، مختصر الصواعق المرسلة (1: 155، 116)، شرح العقيدة الواسطية للهراس (ص 75).
فهو تبارك وتعالى وحده فوق المخلوقات فلا شىء من مخلوقاته يحصره أو يحيط به بل هو العالى عليها والمحيط بها يقول صلى الله عليه وسلم "إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته
…
الحديث.
(1)
وقد شبه صلى الله عليه وسلم رؤية الله تعالى برؤية القمر وهو في جهة العلو من الرائين.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "إنكم سترون ربكم عيانا".
(2)
وفى هذا إثبات للرؤية البصرية التي لا تتم إلا على ما كان في جهة من الرائى.
وقد ذكرنا الكثير من أدلة علو الله على خلقه، وليس في إثبات أن الله في جهة العلو قدح في تنزيهه لأنه أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم ثم إن جهة العلو هي أشرف الجهات وأكملها "وكل كمال ثبت لموجود من غير استلزام نقص فالخالق تعالى أحق به وأكمل فيه منه".
(3)
(1)
صحيح البخاري (1: 76، 77، 79)، (3: 85)، (4: 200). وانظر صحيح مسلم (1: 163 - 167)، (4: 2279، 2280)، سُنن أبي داود (4: 233)، سُنن الترمذي (4: 685 - 689، 691، 692)، سنن ابن ماجة (1: 63، 64)، (2: 1450، 1451)، مسند الإِمام أحمد (3: 16)، (13: 4).
(2)
صحيح البخاري (4: 200).
(3)
رسالة في إثبات الاستواء والفوقية لأبي محمد الجويني ضمن المجموعة المنيرية المجلد الأول (1: 185)، رسالة الإرادة والأمر لابن تميمة ضمن المجموعة الكبرى (1: 382)، قاعدة في صفة الكلام له ضمن المنيرية المجلد الأول (2: 81)، موافقة صحيح المنقول له (1: 119)، انظر كتاب بيان المعاني في شرح عقيدة الشيباني ص (5/أ)، رسالة التوحيد لمحمد عبده ص (33، 34).
يقول ابن رشد في كلامه على الجهة: "وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه، حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كأبى المعالى ومن اقتدى بقوله وظواهر الشرع كلها تقتضى إثبات الجهة مثل قوله تعالى: "ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية".
(1)
ومثل قوله "يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون".
(2)
ومثل قوله تعالى "تعرج الملائكة والروح إليه".
(3)
ومثل قوله تعالى: "أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور"
(4)
إلى غير ذلك من الآيات التي إن سلط التأويل عليها عاد الشرع كله مؤولا، وإن قيل فيها إنها من المتشابهات عاد الشرع كله متشابها لأن الشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تنزل الملائكة بالوحى إلى النبيين، وأن من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإِسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى قرب من سدرة المنتهى. وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك، والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية، ونحن نقول إن هذا كله غير لازم فإن الجهة غير المكان، وذلك أن الجهة هي إما سطوح الجسم نفسه المحيطة به وهي ستة وبهذا نقول إن للحيوان فوقا وأسفلا ويمينا وشمالا وأماما وخلفا. وإما سطوح جسم آخر محيط بالجسم ذات الجهات الست.
(1)
سورة الحاقة: آية (17).
(2)
سورة السجدة: آية (5).
(3)
سورة المعارج: آية (4).
(4)
سورة الملك: آية (16).
فأما الجهات التي هي سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا، وأما سطوح الأجسام المحيطة به فهي له مكان، مثل سطوح الهواء المحيطة بالإِنسان، وسطوح الفلك المحيطة بسطوح الهواء هي أيضا مكان للهواء. وهكذا الأفلاك بعضها محيطة ببعض ومكان له وأما سطح الفلك الخارج فقد تبرهن أنه ليس خارجه جسم، لأنه لو كان ذلك كذلك، لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر ويمر الأمر إلى غير نهاية، فإذًا سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا، إذ ليس يمكن أن يوجد فيه جسم
…
إلى أن قال - فقد ظهر لك من هذا أن إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل وأنه الذي جاء به الشرع وانبنى عايه، وأن إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع
(1)
.
يقرر ابن رشد في كلامه هذا صحة إثبات الجهة لله تعالى من غير أن يلزم من ذلك إثبات المكان المحيط بمن فيه أي بالأجسام التي هو حاوٍ لها وينفى أن يكون سطح آخر أجسام العالم مكانا لعدم وجود جسم فيه.
فإن قيل: كأن ابن رشد يقول إن الفلك الخارج الذي ليس على سطحه جسم قد أحاط بما دونه من الأفلاك، وعلى هذا فما تقولون به من إثبات جهة العلو لا يتم لأن إحاطة هذا الفلك الخارج بما دونه من الأفلاك يجعل بعض هذا الفلك بالنسبة لبعض أجزاء الأفلاك الأخرى في جهة السفل وهذا مما لا تقولون به.
(1)
مناهج الأدلة لابن رشد ضمن فلسفة ابن رشد ص (83 - 85) ونقله عنه ابن القيم في اجتماع الجيوش الإِسلامية ص (229 - 231)، وانظره في مختصر الصواعق المرسلة (1: 174).
قلنا: إن إثباتنا لجهة العلو تامة حتى مع ما ذكرتم، لأن هذه الأفلاك المستديرة الكرية الشكل ليس لها إلا جهتان فقط، علو وسفل.
فالعلو فيها: هو جهة المحيط وهو المحدب.
والسفل فيها: جهة، المركز وهو الوسط من الداخل الذي تكون أبعاد سطح الكرة عنها متساوية، إذا كانت كرة تامة، وأما إذا كان في الكرة تسطيح تغيرت الأبعاد عن هذا المركز، فلا تكون متساوية تماما وعلى كل فسطح الكرة الخارجى هو جهة العلو، ومركزها هو جهة السفل وإن تفاوتت الأبعاد عن هذا المركز.
وأما الجهات الست فهي للحيوان كما ذكر هذا ابن رشد، وهي بحسب النسب والإضافات، فيكون يمين هذا ما يكون يسار هذا، ويكون فوق هذا ما يكون تحت ذاك وهكذا، ولا يكون هذا بالنسبة للأفلاك فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل دائما.
فالأرض مثلا محاطة بالسماء وليس جزء من السماء مع هذه الإِحاطة واقعا تحت الأرض، لأن السماء بالنسبة إلى من هو على ظهر الأرض في أي جزء منها في جهة العلو، لأنه فوق محيطها المحدب، وليس هو في مركزها الذي يمثل جهتها السفلى.
وأما ما يتصور في الذهن من أن من يكون على جزء من الأرض يكون شىء من السماء المحيطة بالأرض تحته فلا اعتبار لهذا التصور، إلا إذا اعتبرنا من نكس فجعل رأسه إلى الأرض ورجلاه إلى السماء أن تكون السماء تحته ولا يقول بهذا إلا من انقلبت عنده الحقائق.
يقول ابن تيمية: " .. الفلك هو فوق الأرض مطلقا، وأهل
الهيئة
(1)
يقولون: لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقى في الخرق شىء ثقيل كالحجر ونحوه لكان ينتهى إلى المركز حتى لو ألقى من تلك الناحية حجر آخر لا التقيا جميعا في المركز، ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين لا التقت رجلاهما، ولم يكن أحدهما تحت الآخر بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك كالمشرق والمغرب.
فإنه لو قدر أن رجلا في المشرق في السماء أو في الأرض، ورجلا في المغرب في السماء أو في الأرض لم يكن أحدهما تحت الآخر، وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جنبه مما يلى السماء أو مما يلى الأرض.
وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه الآخر إلا من الجهة العليا، ولم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين:
أحدهما: أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات.
الثاني: أنه إذا قصد السفل بلا علو كان منتهى قصده المركز"
(2)
وقبل هذا يجب أن نعلم أن العالم جميعه علويه وسفليه بالنسبة إلى خالقه تبارك وتعالى في غاية الصغر كما قال تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
(1)
الهيئة مصدر هاء، وهيىء، وهيؤ. حال وكيفيته وصورته وعلم الهيئة. علم الفلك وهو علم يبحث فيه عن أحوال الأجرام البسيطة العلوية والسفلية من حيث الكمية والكيفية والوضع والحركة اللازم لها وما يلزم منها. أنظر محيط المحيط ص (949)، الرائد لجبران مسعود ص (1580).
(2)
عرش الرحمن ضمن مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (4: 123، 124)، وانظر رسالة في إثبات الاستواء والفوقية لأبي محمد الجويني ضمن الرسائل المنيرية المجلد الأول (1: 186 - 187).
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
(1)
.
وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوى السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض"
(2)
.
وروى مسلم أيضا بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يطوى الله عز وجل السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوى الأرضين بشماله ثم يقول: أنا الملك. أين الجبارون؟ أين المتكبرون".
(3)
ففي الآية والأحاديث ما يبين صغر السموات والأرضين بالنسبة لله تبارك وتعالى. مع ما نعرف - وهو القليل جدا - من عظم هذه الأجرام "تبارك الله رب العالمين"
(4)
(1)
سورة الزمر: آية (67).
(2)
صحيح الإِمام مسلم (4: 2148)، وانظر صحيح البخاري (3: 130) (4: 193، 194)، سُنن الدارمي (2: 325)، سُنن ابن ماجه (1: 71، 72)، مسند الإِمام أحمد (2: 347).
(3)
صحيح الإِمام مسلم (4: 2148)، وانظر الرد على الجهمية للدارمي ص (11)، ورد الدارمي أيضًا على المريسي ص (31، 32)، المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى ص (56)، شرح حديث النزول لابن تيمية ص (116)، العقيدة الحموية له ضمن المجموعة الكبرى (1: 454).
(4)
سورة الأعراف: آية (54).