الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - الأحوال العلمية:
كان الكثير من خلفاء بني أمية في الأندلس من أهل العلم والأدب .. فعبد الرحمن الداخل كان عالمًا وأديبًا شاعرًا.
(1)
ومحمد بن عبد الرحمن
(2)
كان محبًا للعلوم ومؤثرًا لأهل الحديث وقد ناصر بقى بن مخلد
(3)
لما دخل الأندلس بكتاب "مصنف" أبي بكر ابن أبي شيبة وأنكر جماعة من أهل الرأي على بقى ما فيه من الخلاف واستشنعوه ومنحوا من قراءته فاتصل بقى بالأمير محمد فاستحضره وإياهم واستحضر الكتاب كله وجعل يتصفحه جزءا جزءا إلى أن أتى على آخره وقد ظنوا أنه يوافقهم في الانكار عليه ثم قال لخازن الكتب هذا كتاب لا تستغنى خزانتنا عنه فانظر في نسخة لنا. ثم قال لبقى أنشر علمك وارو ما عندك من الحديث وإجلس للناس حتى ينتفعوا بك، ونهاهم أن يتعرضوا له.
(4)
فهذا دليل علم واهتمام، وعناية من الخلفاء بالعلم وأهله وحث على طلبه ولم يكن لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم بل يقرأون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرأون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جاريًا.
(1)
انظر جذوة المقتبس للحميدي ص 9.
(2)
هو محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل توفى سنة 273 هـ. انظر جذوة المقتبس ص 9 - 11.
(3)
هو أبو عبد الرحمن بقى بن مخلد الأندلسى الحافظ أحد الأئمة الأعلام سمع أحمد بن حنبل وكثير من طبقته صنف التفسير الكبير والمسند الكبير يقول ابن حزم أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسير بقى. توفى سنة 276 هـ انظر: شذرات الذهب ج 2 ص 169.
(4)
انظر: جذوة المقتبس للحميدى ص 11.
وكان حالهم في فنون العلوم هو التحقيق والإنصاف، وهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يرى فارغًا عالة على الناس لأن هذا في نهاية القبح.
والعالم عندهم معظم من الخاصة والعامة يشار إليه، ويحال عليه وينبه قدره، وذكره عند الناس، ويكرم في جوار وابتياع حاجة وما أشبه ذلك.
وللفقه عندهم رونق وجاهة، والمنتشر عندهم مذهب الإمام مالك ويقرأون القرآن بالسبع. وكانوا يعنون برواية الحديث، ويتحرون فيها الدقة، وعلم الأصوال عندهم متوسط الحال. والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة. وللشعر عندهم حظ عظيم، وللشعراء من ملوكهم وجاهة.
(1)
وقد عرفنا حالة الأندلس السياسية من أول القرن الرابع إلى ما بعد النصف من القرن الخامس ورأينا أنها في القرن الرابع في غاية من الازدهار والاستقرار السياسي. وقد اقترن هذا بضروب من الازدهار الفكري وذلك في عهد عبد الرحمن الناصر فهو الذي رفع للعلم صرحًا باذخًا فأغدق العطايا على العلماء وأوسع لهم مجالسه وشجعهم على دراسة سائر العلوم الدينية وغيرها كالرياضيات والفلك، كما أشرك بعضًا من علماء اليهود في الثقافة الأندلسية فبدأت في عهده دراسة التوراة والتلمود في أسبانيا، وتكونت في قصر الخليفة الأندلسي العظيم مكتبة كبرى كانت هي الدليل الواضح على الدرجة العليا التي بلغتها الثقافة الأندلسية في
* * * *
(1)
انظر نفح الطيب ج 1 ص 205 - 207.
عهده وكان من حظ الأندلس أن دامت خلافته خمسين سنة.
(1)
ثم جاء بعده ابنه الحكم وهو أعلم الأمويين وأحكمهم على الإطلاق وقد سار على نهج أبيه وأخاف خصومه فعقدوا معه المعاهدات فتفرغ لتنشيط الحركة العلمية - وكان قد بدأ ازدهارها في عهد أبيه - فكان يكلف بعض أتباعه استنساخ كل الكتب القيمة - قديمة كانت أو حديثة - في سائر مدن الشرق يقول عنه ابن حزم: "كان رفيقًا بالرعية محبًا في العلم. ملأ الأندلس بجميع كتب العلم وأخبرني تليد الفتى وكان على خزانة العلوم بقصر بني مروان بالأندلس أن عدد الفهارس التي كانت فيها تسمية الكتب أربعة وأربعون فهرسة في كل فهرسة خمسون
(2)
ورقة ليس فيها إلا ذكر أسماء الدواوين فقط".
(3)
ويقول ابن خلدون: "وكان يبعث في شراء الكتب إلى الأقطار رجالا من التجار ويرسل إليهم الأموال لشرائها حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه وبعث في كتاب "الأغاني" إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني وكان نسبه في بني أمية وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرج إلى العراق وكذلك
(1)
انظر ابن حزم الأندلسى للدكتور زكريا إبراهيم ص 14. وابن حزم الأندلسي ورسالة المفاضلة بين الصحابة لسعيد الأفغاني ص 10.
(2)
روى ابن خلدون عن ابن حزم أن في كل فهرسة "عشرون ورقة" وكذلك المقرى. وأرى أن ما ورد في جمهرة أنساب العرب وهو "خمسون" أصح لكونها نص كلام ابن حزم في كتابه.
انظر: العبر لابن خلدون ج 4 ص 146 ونفح الطيب ج 1 ص 371.
(3)
جمهرة أنساب العرب لابن حزم ص 100.
فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري.
(1)
المالكي في شرحه لمختصر بن عبد الحكم
(2)
وأمثال ذلك وجمع في داره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والاجادة في التجليد فأوعى
(3)
من ذلك كله واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده".
(4)
ويذكر بعض المؤرخين مبلغ اهتمامه بجمع الكتب الكثيرة والنفيسة حتى قيل إنها تبلغ أربعمائة ألف مجلد وأنهم لا نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها. فبالطبع لا يأتي هذا الحرص إلا من عالم ذي غرام بالعلم فهو بحق كان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيًا نسيج وحده يؤكد هذا أنه قلما يوجد كتاب من خزائنه الكثيرة إلا وله فيه قراءة أو نظر في أي فن كان ويكتب فيه نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن.
(5)
(1)
هو محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح أبو بكر التميمى الأبهرى شيخ المالكية في العراق له تصانيف في لضرح مذهب الإمام مالك والرد على مخالفيه منها الأصول، وإجماع أهل المدينة وشرح المختصر الكبير والصغير لابن الحكم. انظر ترتيب المدارك جـ 3 ص 366. وشذرات الذهب ج 3 ص 85، 86 والأعلام ج 6 ص 225.
(2)
هو عبد الله بن عبد الحكم. وبلغ بنوا الحكم بمصر من الجاه والتقدم ما لم يبلغه أحد. وكان لعبد الله مؤلفات منها المختصر الكبير والأوسط والصغير انظر ترتيب المدارك ج 3 ص 364 - 366.
(3)
يقال وعاه يعيه أي حفظه وجمعه. انظر القاموس ج 4 ص 405.
(4)
العبر لابن خلدون جـ 4 ص 146. وانظر نفح الطيب ج 1 ص 362.
(5)
انظر نفح الطيب للمقرى ج 1 ص 371، 372.
وقد تسابق الناس على جمع الكتب، والاعتناء بالمكتبات لما رأوا تلك العناية من أمرائهم. حتى ممن ليس عنده معرفة فيشتري الكتاب الحسن الخط والجيد التجليد بأضعاف ما يستحق إذا اضطره إلى ذلك فراغ في خزانته بمقدار ذلك الكتاب.
(1)
ولكن ما بعد ارتفاع الشمس في كبد السماء إلا زوالها كما يقال فقد توفي الحكم المستنصر سنة 366 هـ وبوفاته انتهى العصر الذهبي للأندلس. فأتى بعده المنصور بن أبي عامر حاجبا للخليفة الصغير المؤيد ابن الحكم. واستبد بالحكم وكان من نتائج هذا الاستبداد أن تعثرت الحضارة الأندلسية في سيرها على أيامه فأحرقت كتب الفلسفة والفلك وغيرها من العلوم التي كانت موجودة في مكتبة القصر بأمره هو نفسه استرضاء منه لجمهور الفقهاء الذين كانوا قد بدأوا يؤلبون عليه العامة.
(2)
ولم تستمر الأحوال بعد ابن أبي عامر فجاء عصر الاضطراب والدمار على قرطبة وغيرها ولا شك في أن لهذا الدمار والتخريب أثرًا قويًّا في إتلاف التراث العلمي الموجود. يقول ابن خلدون في الكلام عن مكتبة المستنصر: "ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقى منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة".
(3)
ولكن ليس في نهب هذه الكتب وبيعها ذهابها وليس في تخريب قرطبة قضاء على العلم بل توزعت تلك الكتب التي كانت محصورة في مكتبة القصر، وتفرق العلماء في سائر مدن الأندلس وقراها وكان
(1)
انظر نفح الطيب للمقرى ج 2 ص 11.
(2)
المرجع السابق جـ 1 ص 205.
(3)
المرجع السابق جـ 1 ص 362 - 363.
في ذلك نشر للعلم والمعرفة في الأندلس - وإن لم يكن كل ذلك إيجابيًا - وقد كان أبو محمد ابن حزم ممن خرج من قرطبة وتجول في مدن الأندلس وقراها - فلم تقترن تلك الاضطرابات بانحلال فكري بل لقد شهدت بلاد الأندلس حتى في عهد الطوائف نهضة علمية كبرى نتيجة للتنافس الشديد بين الدويلات الصغيرة في مضمار العلوم والآداب فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول العالم الفلاني عند الملك الفلاني والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم.
(1)
وأقبل المفكرون في هذا الأثناء على وضع المؤلفات القيمة في كل فن وكان من ذلك أن كتب ابن حزم في تاريخ الأديان وعلم النفس متقدمًا في ذلك على مفكري أوروبا وغيرهم بقرون كثيرة.
(2)
وكتب أبو مروان ابن حيان والحميدي في تاريخ الأندلس وغيرهم كثير كتبوا في كل فن وإن رسالة ابن حزم في علماء الأندلس تعطي صورة وافية عن العلماء الذين كانوا في بلاد الأندلس وأنهم ليسوا بأقل من العلماء الموجودين في الشرق مرتبة وقد وازن بين بعض المشهورين من العلماء في المشرق والمغرب ويقرر أنه لا يوجد رجل يعد من مفاخر الشرق إلا كان له نظير من مفاخر الأندلس.
(3)
فالحاصل أن العلم لم يضعف بضعف السياسة، ولم يأفل نجم العلماء كما أفل نجم السياسيين، ولا شك أن لاحتكاك المسلمين بالنصارى في الأندلس والاحتكاك بين العناصر والسلالات الأخرى والصراع بين أصحاب الفرق والمذاهب المختلفة أثرًا في تنشيط
(1)
انظر نفح الطيب جـ 4 ص 179، 180.
(2)
انظر ابن حزم الأندلسى للدكتور عبد الكريم خليفة ص 135.
(3)
انظر نفح الطيب جـ 4 ص 154 - 171. وانظر ابن حزم الأندلسى للدكتور زكريا إبراهيم ص 26.
الحركة الفكرية في أرجاء بلاد الأندلس على الرغم مما صحبها من مظاهر الصراع والذي نجم عنه ترق في العلوم والآداب، والفنون والصناعات، وقد كانت مدينة قرطبة في أول الأمر مركز ذلك التقدم العلمي وكانت مركز المحدثين والفقهاء والمتكلمين وملتقى الشعراء والأدباء كما كانت في ذلك الوقت أكثر بلاد الأندلس كتبا وأحفلها بالخزائن والمكتبات ثم انتثر كل ذلك في سائر أرجاء الأندلس. وأبو محمد بن حزم ممن عاش الحالتين، فالفترة التي عاش فيها كانت بمثابة فترة انتقال من عهد الخلافة الأموية إلى عهد حكم الطوائف فلم يكن من الغريب على ابن حزم أن يتأثر في تفكيره وأسلوب حياته بما اعتور بلاده من تقلبات وما اختلف عليها من أحداث جعلته لا يستقر بمكان وقد انعكس ذلك على حياته الفكرية فاتسعت آفاقه فألم بالكثير من العلوم والمعارف فهو الإمام المحدث والفقيه المجتهد وهو الأديب الشاعر والفلسفي المنطقي والمؤرخ العالم بالأنساب فكان دوحة وارفة الظلال قد بسقت في مهد العلم ونمت في معدنه وتغذت من نبوعه وبذلك نستطيع أن نقول إنه قد توافرت له أسباب المعرفة كاملة. وكان لما عانى من التشريد والنفي والاشتراك في المؤامرات والتدبيرات التي لم تنجح من جراء الخيانات من ذلك المجتمع عضب اللسان ينازل العلماء والفقهاء ويتحدى بجدله العنيف آراء وعقائد في الفقه والفلسفة والدين فقوبل ذلك من خصومه بالاضطهاد ورموه بالضلال فلم يثن ذلك عزمه ولم يحد من إقدامه فهو المفكر الذي يتحمس لدينه لا تأخذه في الله لومة لائم إلى أن مضى لسبيله.
(1)
(1)
انظر ابن حزم الأندلسي للدكتور زكريا إبراهيم ص 25، 28.