الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكذلك إذا عرضنا على العقل من فعل الأفعال المتعاقبة مع حدوثها ومن لا يفعل حادثا أصلا، لئلا يكون عدمه قبل وجوده عدم كمال، شهد صريح العقل بأن الأول أكمل".
(1)
يبين ابن تيمية أن الكمال في إثبات قيام الأفعال بذات البارىء سبحانه وتعالى وقدرته على الفعل القائم به والمنفصل عنه، والقدرة على الأفعال الدائمة والمتعاقبة وفعلها دائمة متعاقبة مع حدوثها بخلاف من لا يفعل حادثا أصلا فليس في هذا كمال، لأن فيه نفي للقدرة والفعل مع أن سبب نفيهم للفعل الحادث هو الخوف من عدم الفعل في الأزل فعطلوا لأجل ذلك الله تعالى عن الفعل مطلقا.
وفي إثبات الفعل الحادث بالقدرة الإِلهية إثبات كمال لله تعالى وهو قدرته وفعله لهذه الأفعال وإن لزم من ذلك عدم الفعل في الأزل قبل هذا الفعل الحادث، إذ أن عدم القدرة والفعل المطلقين، ليس كالفعل والقدرة المستمرين في الكمال وإن سبقهما العدم والأدلة النقلية والعقلية الدالة على قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى كثيرة جدا يطول بنا المقام لو حاولنا استقصاءها ومناقشة الأقوال فيها، والرد عليها فاقتصرنا على تلك الإِشارة إلى بعضها بما رأينا فيه كفاية لإِزالة الشبهة التي نحن بصدد الجواب عليها.
الرد على الشبهة الثانية:
قبل الشروع في الرد على الشبهة نبين كيف ترد على كل الروايات التي رويت في النزول فنقول:
(1)
موافقة صريح المعقول (2: 117، 118).
يرى أبو محمد بن حزم أن اختلاف الزمن المحدد في البلاد باختلاف المطالع والمغارب، مما يبعد حمل النزول على الحقيقة لأن تحديد النزول بوقت محدد، كما في ألفاظ الحديث - ثلث الليل الآخر، أو إذا مضى شطر الليل أو ثلثاه، أو مضى ثلثه الأول إلى أن يضىء الفجر، والمتواتر من هذه الروايات: إذا بقى ثلث الليل الآخر
(1)
- وحمله على الحقيقة أي أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا تلك المدة بالنسبة لكل أهل مكان يجعله دائما نازلا، لأن مدة النزول تكون إما سدس الزمان أو ربعه أو سدسه أو ربعه على اختلاف الروايات في ذلك.
إذ أن لفظ الليل والنهار في كلام الشارع إذا أطلق من غروب الشمس إلى طلوعها ومن طلوعها إلى غروبها على الراجح.
(2)
والشبهة المذكورة واردة على كل رواية وليس بالأخذ بأي رواية منها ما ترد به الشبهة. وإنما ترد بما يلي:
قلنا في أثناء الرد على الشبهة الأولى: أن أهل السنة والجماعة يثبتون قيام الأفعال الاختيارية بذاته تعالى، وإثباتهم ذلك له على ما يليق به وينايسب كمال جلاله وعظمته، فإثبات نزول الله تعالى ومجيئه وإتيانه على الوجه الذي يليق به.
فلا يثبتون له مجيئا وإتيانا ونزولا كما يكون للخلق إذا فعلوا ذلك من شغل محل وتفريغ آخر ومن كون ما نزلوا عنه فوق ما نزلوا إليه وغير ذلك مما هو لازم للمخلوقين إذا فعلوا شيئا من ذلك ومثل هذا ممتنع في حق الله تبارك وتعالى والله منزه عما يكون من صفات المحدثين ومن سمات المربوبين.
(1)
انظر شرح حديث النزول لابن تيمية ص (107).
(2)
انظر شرح حديث النزول ص (108، 110).
فمجىء الله تعالى وإتيانه يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده ونزوله كل ليلة كما في الحديث كل ذلك حقيقة من غير أن يلزم فعله ما يلزم المخلوق، إذا فعل مثل ذلك، فالله تعالى يفعل ما ذكر ولا يخلو منه العرش، ولا يكون شيئا من مخلوقاته عاليا عليه فهو بائن من جميع خلقه عال عليهم ومحيط بهم وهو مستو على عرشه تعالى وتقدس.
وفي ثبوت اختلاف الليل في البلاد ودوام استواء الله على عرشه إبطال لحمل النزول على نحو نزول الخلق.
ومن أول النزول أو غيره من صفات الله تعالى وأفعاله خوفا مما يلزم ذلك بالنسبة للخلق إذا فعلوا مثل ذلك أو اتصفوا به، فقد أخطأ حيث ظن أن أفعال الله تعالى وصفاته كأفعال خلقه وصفاتهم، فشبه الله بخلقه فوقع فيما فر منه وجمع بين التعطيل والتشبيه.
وسلف الأمة وأئمتها يعلمون أن الله تعالى إذا وصف نفسه بصفة أو وصفه رسوله صلى الله عليه وسلم بشيء من ذلك أنه ثابت له على ما يليق به فلا يشبه شيئا من صفات خلقه كما لا تشبه ذاته تعالى ذواتهم.
ثم إن في صفات الخلق ما يختلف بعضها عن بعض، فيكون من بعضها ما لا يكون من الآخر، كما في حركة أرواح الآدميين والملائكة فالروح توصف بما يستحيل اتصاف البدن به. فإذا كان هذا في المخلوقات فكيف يستحيل اتصاف الله تعالى بما هو مستحيل بالنسبة للخلق.
يقول ابن تيمية: "وإذا قيل الصعود والنزول والمجىء والإِتيان أنواع جنس الحركة قيل: والحركة أيضا أصناف مختلفة فليست حركة
الروح كحركة البدن ولا حركة الملائكة كحركة البدن. والحركة يراد بها انتقال البدن والجسم من حيز ويراد بها أمور أخرى. كما يقول كثير من الطبائعية والفلاسفة منها الحركة في الكم كحركة النمو، والحركة في الكيف كحركة الإِنسان من جهل إلى علم، وحركة اللون والثياب من سواد إلى بياض. والحركة في الأين كالحركة تكون بالأجسام النامية من النبات والحيوان في النمو والزيادة، أو في الذبول والنقصان وليس هناك انتقال جسم من حيز إلى حيز"
(1)
.
وحيث تبين أن الاختلاف يقع فيما هو داخل تحت مسمى واحد في المخلوقات لكل منها بحسبه.
وعلى هذا فإن ما يوصف به الرب تبارك وتعالى يناسب عظمته وكماله فصفاته أكمل وأعلى وأتم من كل ما يتصف به خلقه، إذ هو واهب الكمال ومبدعه فلا يكون سواه أتم فيه منه.
وقد ذكر سبحانه وتعالى في كتابه وجاء على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ما يدل على قربه من عباده مع أنه مستو على عرشه لكمال قدرته وإحاطة علمه سبحانه فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء يقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}
(2)
.
ويقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}
(3)
.
وروى البخاري بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي
(1)
شرح حديث النزول ص (98)، وانظر ص (82)، من نفس المرجع.
(2)
سورة آل عمران: آية (5).
(3)
سورة البقرة: آية (186).
وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه، وإن تقرب إلي بشبر تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة".
(1)
وقرب العباد من الله تعالى بتقربهم إليه وهذا مما يقربه جميع من يقول إنه فوق عرشه عال على سمواته بائن من خلقه، ومعيته لهم بعلمه وإحاطته وتوفيقه وهدايته ورحمته لعباده وهذا هو المشهور عن سلف الأمة وأئمتها.
(2)
فإن قيل: إذا أثبتم نزول الله تعالى حقيقة في زمن محدد من الليل وسلمتم أن هذه المدة التي ينزل فيها سبحانه تستغرق كل الزمن على أي قول، وقد ورد أن الله سبحانه يقرب عشية عرفة، وينزل إلى السماء الدنيا لأجل الحجاج.
(3)
وهذا الوقت هو بلا شك من أوقات نزوله من الليل في أماكن أخرى في غير عرفة، فكيف يكون قريبا من الحجاج في عرفة ونازلا لإجابة دعاء الداعين والغفران للمستغفرين هناك؟
(1)
صحيح البخاري (4: 196)، صحيح مسلم (4: 2061)، سُنن الترمذي (5: 581)، سُنن ابن ماجه (2: 1255)، مسند أحمد (2: 413، 435، 480، 482، 509، 524، 534)، (3: 40، 122، 127، 1300، 373)، (5: 155، 169، 351).
(2)
انظر الرد على الجهمية للإِمام أحمد ص (39)، تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص (224)، التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر (7: 138، 139)، بيان تلبيس الجهمية لابن تيمية (2: 228، 229)، شرح النووي على مسلم (17: 2، 3)، فتح الباري لابن حجر 13. 386).
(3)
انظر الرد على الجهمية للدارمي ص (35)، شرح حديث النزول لابن تيمية ص (114).
قلنا: ما ذكرتم في هذا الاعتراض لا يرد إلا على من يقول إن نزول الله تعالى وقربه كنزول الخلق ومجيئهم وإنه مثلهم تعالى وتقدس عن مشابهة المحدثين. وأما من يقول: إن نزوله وقربه يناسب كماله وعظمته، ولا يشبه شيئا من أفعال خلقه، فلا يمتنع في حقه تعالى أن يقرب ممن دعاه دون من لم يدعه مع كونهم في مكان واحد، وأن ينزل عشية عرفة وينزل في الوقت نفسه الذي هو ثلث الليل الآخر في مكان آخر فلا يشغله شأن عن شأن. وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم مثل هذا لما سأله أبو رزين
(1)
فقال: أكلنا يرى الله عز وجل يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه قال: "يا أبا رزين أليس كلكم يرى القمر مخليا به؟
قال: قلت بلى يا رسول الله قال: فالله أعظم"
(2)
.
وقال رجل لابن عباس رضي الله عنه: كيف يحاسب الله العباد في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة.
(3)
(1)
هو لقيط بن عامر بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق بن عامر بن عقيل صحابي مشهور من أهل الطائف. وهو وافد بني المنتفق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. روى عنه وكيع بن عدس وابنه عاصم بن لقيط وغيرهما. أنظر أسد الغابة في معرفة الصحابة (4: 266، 267)، (5: 192، 193)، التهذيب لابن حجر (8: 456، 457).
(2)
مسند الإِمام أحمد (4: 11)، وانظر ص (12) من نفس الجزء. سُنن ابن ماجه (1: 64)، وهذا الحديث رواه أحمد عن يزيد بن هانىء عن حماد بن سلمة، عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عدس عن عمه أبي رزين. ورجال هذا الحديث أحتج بهم مسلم ما عدا وكيع وقد ذكره ابن حبان في الثقات.
وقال عنه يحيى بن القطان مجهول الحال. ومعنى الحديث ثابت بالحديث المتفق على صحته. انظر التهذيب (11: 366 - 369)، (3: 11 - 16)، (11: 403، 404، 131).
(3)
انظر شرح حديث النزول لابن تيمية ص (114).
وفي الحديث، والأثر دلالة على إحاطة الله التامة بمخلوقاته فلا يعجز عن شيء ولا يشغله شأن عن شأن فيراه جميعهم كما يراه واحد منهم ويحاسب جميعهم سبحانه كما يحاسب واحدا منهم.
ويبين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم بما يزيل العجب والاستغراب بما هو مشاهد في المخلوقات مع بعضها، فالجموع الكثيرة من الناس ترى القمر في آن واحد من غير تزاحم ولا كلفة تلحقهم عند رؤيته، والله خالق الكل أعظم من ذلك فقدرته لا تقاس بشيء من مخلوقاته، والرسول صلى الله عليه وسلم شبه رؤية الناس لله في وقت واحد برؤيتهم للقمر في مثل ذلك. وليس التشبيه للقمر بالله تعالى وتقدس أن يشبهه شيء من خلقه، وإنما التشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئى بالمرئى.
وورد أحاديث صحيحة تدل على نحو هذا من إحاطة علم الله بخلقه وسعة سمعه لكل المسموعات وإجابته للدعوات.
فروى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال .. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي. وإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي "وقال مرة: فوض إلى عبدي" فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال: هذا لعبدي ولعبدي