المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وقد قال قبل ذلك: "مات فيما ذكره صاعد بن أحمد - ابن حزم وموقفه من الإلهيات عرض ونقد

[أحمد بن ناصر الحمد]

فهرس الكتاب

- ‌شكر وتقدير

- ‌المقدمة

- ‌الباب الأول حياة ابن حزم

- ‌الفصل الأول: التعريف بابن حزم

- ‌1 - أصله وأسرته:

- ‌مناقشة قول سانتشث البرنس:

- ‌مناقشة قول ابن سعيد، وابن حيان:

- ‌2 -‌‌ مولدهونشأته:

- ‌ مولده

- ‌(نشأته)

- ‌3 - بداية تعلمه:

- ‌4 - شيوخه:

- ‌5 - مكانته العلمية:

- ‌6 - تلاميذه:

- ‌7 - مصنفاته:

- ‌8 - وفاته:

- ‌الفصل الثاني: عصر ابن حزم

- ‌تمهيد:

- ‌1 - الأحوال السياسية:

- ‌2 - الأحوال الاجتماعية:

- ‌3 - الأحوال العلمية:

- ‌الباب الثاني الإلهيات

- ‌الفصل الأول وجود الله تعالى

- ‌الطريق الأول:طريق حدوث العالم

- ‌الطريق الثاني:هو طريق الاستدلال بما في الفلك من الآثار وما في المخلوقات من الدقة والإتقان والتوافق والاختلاف

- ‌الفصل الثاني: وحدانية الله

- ‌الفصل الثالث التنزيهات

- ‌1 - الجسمية، والعرضية، والزمانية والمكانية والحركة

- ‌2 - الصورة:

- ‌3 - المائية

- ‌4 - صفات الله تعالى من حيث الإِطلاق العام:

- ‌5 - أسماء الله تعالى:

- ‌الفصل الرابع الصفات

- ‌التمهيد

- ‌1 - الحياة

- ‌2 - العلم

- ‌3 - القدرة والقوة

- ‌مذهب ابن حزم في قدرة الله تعالى يتلخص فيما يلي:

- ‌4 - الإِرداة

- ‌الأدلة العقلية على أن الله متصف بالإِرادة:

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع:

- ‌قدم إرادة الله تعالى:

- ‌5 - الكلام

- ‌مسمى الكلام:

- ‌اتصاف الله بالكلام:

- ‌الكلام على القرآن:

- ‌الكلام المتلو والمسموع:

- ‌المكتوب في المصاحف:

- ‌المضاف إلى العباد:

- ‌6 - السمع والبصر

- ‌7 - العز والعزة والكبرياء

- ‌8 - النفس والذات

- ‌(9) الوجه

- ‌الادلة من السنة على إثبات صفة الوجه لله تعالى

- ‌(10) العين والأعين:

- ‌(11) اليد واليدين والأيدي:

- ‌(12) الأصابع

- ‌(13) الجنب

- ‌1)(14)الساق:

- ‌(15) القدم والرجل

- ‌دليل أن استواء الله الوارد بالنص بمعنى العلو:

- ‌(17) النزول:

- ‌ الرد على الشبهة الأولى

- ‌الرد على الشبهة الثانية:

- ‌الرد على الشبهة الثالثة:

- ‌الرد على الشبهة الرابعة:

- ‌الرد على ابن حزم في تأويل النزول:

- ‌18 - الرؤية:

- ‌أولًا: أدلة جواز الرؤية زيادة على ما ذكر ابن حزم:

- ‌(أ) الأدلة النقلية:

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني من أدلة النقل على جواز الرؤية:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع على جواز الرؤية:

- ‌الدليل الخامس:

- ‌الدليل السادس:

- ‌الدليل السابع على جواز الرؤية:

- ‌الدليل الثامن:

- ‌(ب) الأدلة العقلية على جواز الرؤية:

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني:

- ‌ثانيًا: أدلة وقوع الرؤية

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني على وقوع الرؤية:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع:

- ‌الدليل الخامس:

- ‌الفصل الخامس أفعال الله تعالى

- ‌تمهيد:

- ‌1 - القضاء والقدر:

- ‌مذهب ابن حزم في قضاء الله وقدره:

- ‌2 - خلق أفعال العباد:

- ‌3 - الهدي والتوفيق والإضلال:

- ‌ الهدى والتوفيق

- ‌الأضلال:

- ‌4 - التعديل والتجوير:

- ‌5 - تعليل أفعال الله:

- ‌الأدلة على القول بالتعليل:

- ‌الدليل الأول:

- ‌الدليل الثاني:

- ‌الدليل الثالث:

- ‌الدليل الرابع:

- ‌الدليل الخامس:

- ‌الدليل السادس:

- ‌الوجه الأول:نفى لزوم قدم المعلول لقدم العلة من عدة أوجه

- ‌الوجه الثاني:إبطال دعوى أن من يفعل لعلة ليس مختارًا

- ‌الوجه الثالث:إبطال التسلسل اللازم للعلة إذا كانت محدثة

- ‌الوجه الرابع:تسليم التسلسل في إثبات الحكمة:

- ‌6 - اللطف والأصلح:

- ‌7 - إرسال الرسل:

- ‌دليل ابن حزم على وجوب النبوة إذا وقعت:

- ‌الخاتمة

- ‌فهرس المراجع

الفصل: وقد قال قبل ذلك: "مات فيما ذكره صاعد بن أحمد

وقد قال قبل ذلك: "مات فيما ذكره صاعد بن أحمد الجياني في كتاب أخبار الحكماء في سلخ شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة"

(1)

.

وبالنظر إلى رواية ياقوت هذا التاريخ عن صاعد نجد أنها مخالفة لكل من روى عنه نفس هذا التاريخ، ثم تحديد ياقوت عمره باثنتين وسبعين سنة إلا شهرًا في روايته لا تتفق مع ما رواه بأنه ولد في آخر رمضان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وتوفى سلخ شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة، إذ عليه يكون عمره ثلاثا وسبعين سنة إلا شهرًا وهذا ما لم يقله ولا غيره فالتحريف في النسخ ثابت، وهو ظاهر من ذات العبارة في تحديد عمره.

(2)

* * *

(نشأته)

بالنظر إلى رواية صاعد - السابقة - عن أبي محمد في تحديد ميلاده، ندرك أنه ولد في مجتمع ذي شأن عظيم وفي وسط يحرص أفراده كل الحرص على تخليد أخبار مواليدهم فيؤرخون ذلك بالدقة التي وصلتنا عن تاريخ ميلاد أبي محمد. نعم إنه ولد في عهد وزارة أبيه للحاجب المنصور ابن أبي عامر في عصر من أزهى عصور الدولة الأندلسية، فالدار التي ولد فيها أبو محمد بجانب الزاهرة كما حددها في كتابه طوق الحمامة بأنها تقع في الجانب الشرقي بقرطبة في الشارع

(1)

معجم الأدباء لياقوت ج 12 ص 236، 237.

(2)

انظر ابن حزم لأبي زهرة ص 22، 23، وابن حزم الأندلسي ورسالته في المفاضلة بين الصحابة. لسعيد الأفغاني ص 20.

ص: 33

الآخذ من النهر الصغير على الدرب المتصل بقصر الزاهرة.

(1)

وعن صفة هذه الدار يحدثنا في موضع آخر من الطوق عند ذكر قصة الفتاة التي ألفها في أيام صباه. يقول: "فلعهدي بمصطنع كان في دارنا لبعض ما يصطنع له في دور الرؤساء، تجمعت فيه دخلتنا ودخلة أخي رحمه الله من النساء ونساء فتياتنا ومن لاث بنا من خدمنا، ممن يخف موضعه ويلطف محله فلبثن صدرًا من النهار ثم انتقلن إلى قصبة كانت في دارنا مشرفة على بستان الدار، ويطلع منها على جميع قرطبة وفحوصها مفتحة الأبواب فصرن ينظرن من خلال الشراجيب وأنا بينهن فإنى لأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي فيه أنسا بقربها متعرضا للدنو منها، فما هو إلا أن ترانى في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة، فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الزوال إلى غيره".

(2)

تصف لنا هذه القصة القصر الذي عاش فيه أبو محمد وأنه ذو شرفات تطل على قرطبة وما كان يحيط به من الحدائق، ثم الحالة الاجتماعية في هذا القصر الكبير، لأن المنصور عندما بنى الزاهرة، وانتقل إليها أقطع ما حولها لوزرائه وكتابه وقواده فابتنوا به مساكنهم على ما يتلاءم مع - الزاهرة التي كانت في غاية الجمال فتنافس الشعراء بوصفها فكان لها أثر كبير في الحركة الأدبية.

نشأ أبو محمد في هذا البيت في عز وجاه عريض، ومن الغريب سكوت المصادر التي اطعلنا عليها عن "أمه" مع أنه من أبناء كبار

(1)

انظر طوق الحمامة ص 168.

(2)

المرجع السابق ص 249.

ص: 34

الوزراء ثم هي أيضًا أم الوزير أبي محمد ثم العالم الأوحد البحر ذي العلوم والمعارف كما وصفه الذهبي

(1)

.

ولقد كان كتاب ابن حزم "طوق الحمامة" مصدرًا لكثير من معرفة أحواله ولكنه لم يتعرض لذكر أمه، ولعل مرجع ذلك إلى أنه لم يعرفها معرفة واعية وأنها ماتت وهو في سن الطفولة، ولكن الظاهر أنها كانت أسبانية من ذوات الشعر الأشقر فلعله كان صورة في مخيلته فألفه وأحبه ولم يرق له سواه وقد أشرت إلى هذا من قبل.

(2)

ترعرم أبو محمد ربيب النعمة وقد حرص عليه والده فكلف النساء بتربيته وتعليمه يقول عن نفسه: "ولقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلم غيري، لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيّل

(3)

وجهى، وهن علمننى القرآن ورويننى كثيرًا من الأشعار ودربنني في الخط ولم يكن وكدى

(4)

وأعمال ذهني مذ أول فهمي وأنا في سن الطفولة جدًّا إلا تعرف أسبابهن والبحث عن أخبارهن، وتحصيل ذلك وأنا لا أنسى شيئًا مما أراه منهن، وأصل ذلك غيرة شديد طبعت عليها، وسوء ظن في جهتهن فطرت به فأشرفت من أسبابهن على غير قليل".

(5)

عاش أبو محمد حياته الأولى

(1)

سير النبلاء - جزء خاص بترجمة ابن حزم ص 21.

(2)

انظر ص 24.

(3)

تفيل يقال تفيل النبات اكتهل، والشاب زاد، وفلان سمن، انظر لسان العرب جـ 14 ص 50، والقاموس المحيط جـ 4 ص 33.

(4)

وكدى. مرادى وهمى. انظر لسان العرب جـ 4 ص 483. والقاموس جـ 1 ص 346.

(5)

طوق الحمامة لابن حزم ص 140، 141، وانظر أخبار وتراجم أندلسية مستخرجة من معجم السفر للسلفى ص 52، 53.

ص: 35

بين الجوارى في قصر والده لا يغادره ولا يتصل بغير مربياته منهن فقد أدرك مع صغر سنه أن والده جعل منهن رقيبات على حركاته داخل هذا القصر فكان لهذا الأثر الكبير في سلوكه من بعد.

ويحدد لنا أبو محمد حضوره مجلس المظفر بن أبي عامر وأنها أول مرة وصل إلى هذا المجلس وهو في الثالثة عشر من عمره يقول الحميدي: "وأخبرني أبو محمد علي بن الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم أنه سمع أبا العلا صاعد بن الحسن ينشد:

إليك حدوت ناجية الركاب

محملة أماني كالهضاب

بين يدي المظفر في يوم عيد الفطر سنة ست وتسعين وثلاثمائة. قال أبو محمد: وهو أول يوم وصلت فيه إلى حضرة المظفر ولما رآني أستحسنها وأصغى إليها، كتبها لي بخطه وأنفذها إلى"

(1)

. بدأ الوزير أحمد بن سعيد يصطحب ابنه محمد في المجالس العامة، ونرى كيف كان يتذوق الشعر مع صغر سنه مما جعل صاعد بن الحسن يكتب له القصيدة التي ألقاها بين يدي المظفر.

ثم إن والده كان حريصًا على تربيته وتنشئته، فبعد أن تعلم القرآن وحفظ كثيرًا من الأشعار وجهه إلى صحبة رجل مستقيم النفس والخلق فكان لهذه الصحبة الأثر القوي في سلوكه وعفته، يقول عن نفسه أثناء كلامه عن قبح المعاصي: "ومع هذا يعلم الله وكفى به عليما أنى برىء الساحة، سليم الأديم صحيح البشرة، نقى الحجرة، وأنى أقسم بالله أجل الأقسام أنى ما حللت مئزرى على فرج حرام قط، ولا يحاسبني ربي بكبيرة ألزنا مذ عقلت إلى يومي

(1)

جذوة المقتبس للحميدى ص 241.

ص: 36

هذا والله المحمود على ذلك والمشكور فيما مضى والمستعصم فيما بقى .. وكان السبب فيما ذكرته أنى كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة وتمكن غرارة الفتوة مقطورًا محضرًا على بين رقباء ورقائب، فلما ملكت نفسي وعقلت صحبت أبا علي الحسين بن علي الفاسى

(1)

في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن أبي يزيد الأزدى

(2)

شيخنا وأستاذي رضي الله عنه وكان أبو علي المذكور عاقلًا عاملًا عالمًا ممن تقدم في الصلاح والنسك الصحيح في الزهد في الدنيا والاجتهاد للآخرة وأحسبه كان حصورًا لأنه لم تكن له امرأة قط وما رأيت مثله جملة علمًا وعملًا ودينًا وورعًا فنفعني الله به كثيرًا وعلمت موقع الإساءة وقبح المعاصي

(3)

.

كشف لنا أبو محمد سر هذه العفة والاستقامة في تلك الحياة الناعمة في ظل والده الذي أحاطه بالعناية التامة وجعل من مربياته رقيبات عليه فكان حريصا كل الحرص على تنشئته تنشئة قوية في تلك الرفاهية التامة. ثم لما ترعرع قاده تلك القيادة النفسية فوجهه إلى صحبة رجل مستقيم هو أبو الحسين الفاسي.

تلك هي نشأة أبي محمد بن حزم الأولى صافية نقية لا يشوبها كدر، ولكن ذلك العيش الهنىء وتلك السعادة التامة لم يستمرا لهذا

(1)

ستأتي ترجمة مع شيوخ ابن حزم انظر ص 52.

(2)

أبو القاسم هذا مصرى قدم الأندلس سنة 394 هـ روى عن أبي علي بن السكن وأبي العلاء بن ماهان وغيرهما، وحدث عنه أبو عمرو بن الجذاء وقال كان رجلا أديبا شاعرا حلوا حافظا للحديث وأسماء الرجال والأخبار، وخرج من الأندلس وقت الفتنة إلى مصر وبها توفى سنة عشرة وأربعمائة. وكان قد ولد بها ليلة الجمعة مستهل شعبان سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. انظر الصلة لابن بشكوال ج 1 ص 337.

(3)

طوق الحمامة لابن حزم ص 274، 275.

ص: 37

الناشىء الطرى ولا لأصته المترفة. فمنذ بلغ الخامسة عشر من عمره تقريبًا عاش فترة من تاريخ الأندلس مملوءة بالاضطرابات والفتن.

فقد توفي الحاجب المظفر في السادس عشر من شهر صفر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وخلفه أخوه عبد الرحمن بن المنصور وكان على الضد من أبيه، وأخيه فمنه انفتح باب الفتنة العظمى فقد خلط وتسمى ولي العهد وبقى كذلك أربعة أشهر إلى أن قام عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار. يوم الثلاثاء لثمان عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. فخلع هشام بن الحكم وأسلمت الجيوش عبد الرحمن بن محمد ابن أبي عامر فقتل وصلب.

(1)

وتسمى محمد بن هشام بالمهدي، ويصور لنا أبو محمد بن حزم ما جرى لهم في هذا الأثناء بانتقالهم من دورهم المحدثة إلى القديمة فيقول: "ثم انتقل أبي رحمه الله من دورنا المحدثة بالجانب الشرقي من قرطبة في ربض الزاهرة إلى دورنا القديمة في الجانب الغربي من قرطبة ببلاط مغيث في اليوم الثالث من قيام أمير المؤمنين محمد المهدي بالخلافة وانتقلت أنا بانتقاله وذلك في جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة

(2)

.

ذاقت أصة أحمد بن حزم الوزير معه مرارة هذه المحنة بإجلائهم من منازلهم التي سبق وصفها،

(3)

واستقروا في منازلهم القديمة أيام محمد المهدى ولكنها لم تطل فقد ائتمر على الغدر به بعض العبيد العامريين فقتلوه يوم الأحد السابع من ذي الحجة سنة أربعمائة

(1)

انظر جذوة المقتبس للحميدي ص 17، 18.

(2)

طوق الحمامة لابن حزم ص 250، 251.

(3)

انظر ص 33، 34.

ص: 38

وأعادوا هشام بن الحكم المؤيد إلى الأمر، وبعد هذا اشتدت المحنة على الوزير يقول أبو محمد:"ثم شغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام المؤيد بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتحنا بالاعتقال، والترقيب، والإغرام، الفادح، والاستتار، وأرزمت الفتنة وألقت باعها وعمت الناس وخصتنا".

(1)

وفي هذا الأثناء كانت جيوش البربر تحاصر قرطبة مع سليمان بن الحكم بن سليمان، وقد اجتاحها الطاعون يقول أبو محمد:"توفى أخي رحمه الله في الطاعون الواقع بقرطبة في شهر ذي القعدة سنة إحدى وأربعمائة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة".

(2)

ثم ماتت زوجته بعده بسنة،

(3)

ثم دهى صاحبنا بوفاة والده بنفس الشهر الذي ماتت فيه زوجة أخيه تقريبًا، وقد كان امتحانهم مستمرًا إلى حين وفاة والده

(4)

لأنه كان من أجله لولائه لبني عامر.

فكانت هذه الأرزاء التي أصابت ابن حزم عظيمة وفادحة، وقد تبعها حدث دهاه قبل أن يبلغ العشرين من العمر يقول: "وعني أخبرك أني أحد من دهى بهذه الفادحة، وتعجلت له هذه المصيبة وذلك أنى كنت أشد الناس كلفًا وأعظمهم حبا بجارية لي، كانت فيما خلا اسمها نُعْم. وكانت أمنية المتمنى وغاية الحسن خَلْقًا وخُلقًا وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة ففجعتني بها

(1)

طوق الحمامة لابن حزم ص 251.

(2)

المرجع السابق ص 260.

(3)

المرجع السابق نفس الصفحة.

(4)

طوق الحمامة ص 251.

ص: 39

الأقدار، واخترمتها الليالي، ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسنى حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي، ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن. ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعًا طائعًا، وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها، ولا أنست بسواها، ولقد عفى حبي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده".

(1)

ويمكن أن هذا الحادث كان في سنة ثلاث وأربعمائة تقريبًا.

ولم يصف الجو لصاحبنا بعد هذه الرزايا الفادحة بل تتابعت عليه المصائب كنظام انقطع سلكه، فأعقب ما ذكرنا بزمن قليل، انتهاب جند البربر منازلهم، وأجلو منها، وأوثق من يحكى تلك الوقائع من وقعت عليه ومن أثرها حز في نفسه، وهو أبو محمد إذ يقول في الإخبار عن هذه الكارثة:"ثم ضرب الدهر ضرباته وأجلينا من منازلنا، وتغلب علينا جند البربر فخرجت من قرطبة أول الحرم سنة أربع وأربعمائة".

(2)

ويذكر هذه الحادثة في موضع آخر وما جرى له بعدها من تقلبات الأحوال ما بين نكب واعتقال إلى حوالي سنة تسع وأربعمائة فيقول: "ووقع انتهاب جند البربر منازلنا في الجانب الغربي بقرطبة ونزولهم فيها .. وتقلبت بي الأمور إلى الخروج من قرطبة وسكني مدينة

(1)

المرجع السابق ص 216، 217.

(2)

طوق الحمامة ص 252.

ص: 40

المرية

(1)

.. إلى أن انقضت دولة بني مروان، وقتل سليمان الظافر أمير المؤمنين وظهرت دولة الطالبية، وبويع علي بن حمود الحسني المسمى بالناصر بالخلافة، وتغلب على قرطبة وتملكها واستمر في قتاله إياها بجيوش المتغلبين والثوار في أقطار الأندلس، وفي أثر ذلك نكبني خيران صاحب المرية، إذ نقل إليه من لم يتق الله عز وجل من الباغين - وقد انتقم الله منهم - عنى وعن محمد بن اسحاق صاحبي أنا نسعى في القيام بدعوة الدولة الأموية، فاعتقلنا عند نفسه أشهرًا ثم أخرجنا على جهة التعريب فصرنا إلى حصن القصر، ولقينا صاحبه أبا القاسم عبد الله بن هذيل النجيبى المعروف بابن المقفل، فأقمنا عنده شهورًا في خير دار إقامة وبين خير أهل وجيران، وعند أجل الناس همة وأكملهم معروفًا، وأتمهم سيادة ثم ركبنا البحر قاصدين بلنسية

(2)

عند ظهور أمير المؤمنين المرتضي عبد الرحمن بن محمد وساكناه بها".

(3)

لما سكن أبو محمد بن حزم بلنسيه عند المرتضي أصبح وزيرًا

(4)

له وسار مع جيوشه إلى قرطبة ووقفت أمامهم جيوش غرناطة فنشبت الحرب بين الفريقين وانتهت بهزيمة المرتضي لخيانة وقعت بجيشه،

(1)

المرية بالفتح ثم الكسر وتشديد الياء مدينة كبيرة بالأندلس على الساحل الشرقى فيها مرفأ ومرسى للسفن، انظر معجم البلدان ج 5 ص 119. والقاموس جـ 4 ص 395.

(2)

بلنسية مدينة مشهورة بالأندلس تقع شرق قرطبة، برية بحرية تعرف بمدينة التراب، انظر معجم البلدان جـ 1 ص 490، 491.

(3)

طوق الحمامة ص 261، 262.

(4)

انظر ابن حزم الأندلسي لسعيد الأفغاني ص 27. وابن حزم الأندلسي للدكتور عبد الكريم خليفة ص 63.

ص: 41

ووقع أبو محمد في أسر الغرناطيين ثم أطلقوا سراحه.

(1)

وكان ذلك في أواسط سنة تسع وأربعمائة تقريبًا، وقد كان أبو محمد يتوقع دخول قرطبة دخول الفاتحين بهذا الجيش مع المرتضي. وكان على قرطبة آنذاك القاسم بن حمود الذي نادى بالأمان، وعدل عن سياسة الشدة إلى سياسة اللين.

لما سمع ابن حزم بهذا النداء من القاسم بن حمود توجه إلى قرطبة يقول: "دخلت قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة فنزلت على بعض نسائنا".

(2)

عاد ابن حزم إلى قرطبة وهو في السادسة والعشرين من عمره وقد قاسى خلال العشر سنين الماضية من عمره ألوان المحن والصائب فكان لها الأثر القوي على تكوين شخصيته ونضوجه. فتابع بناء حياته التي بها بلغ الآفاق وصار إمامًا فواصل دراساته في الحديث والفقه وأنواع المعارف، ومع هذا لم تنقطع آماله السياسية فكان على صلة بجماعة الأمويين، لأنه يرى أحقيتهم بالإمامة يقول ابن حيان:"وكان مما يزيد في شنئانه تشيعه لأمراء بني أمية ماضيهم وباقيهم واعتقاده بصحة إمامتهم حتى نسب إلى النصب"

(3)

ظل أبو محمد في قرطبة وقد ساءت الأحوال في الأندلس عامة بتعاقب الأمراء من العلويين في هذا الأثناء - القاسم بن حمود، ويحيى بن علي - إلى أن اتفق أهل قرطبة على رد الأمر لبني أمية فبويع من بين ثلاثة اختاروهم، عبد الرحمن بن هشام المستظهر في الثالث

(1)

انظر ابن حزم الأندلسي للدكتور عبد الكريم خليفة ص 54، 55.

(2)

طوق الحمامة ص 252، وانظر أيضًا ص 263 منه.

(3)

تذكرة الحفاظ للذهبي ج 3 ص 1152.

ص: 42

عشر من رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة ثم قتل في نفس العام لثلاث بقين من ذي القعدة.

(1)

وقد توزر له أبو محمد بن حزم ولكنها كانت مدة قليلة.

(2)

انتهت بإلقائه في غياهب السجون هو وابن عمه أبي المغيرة عبد الوهاب، ولا ندري كم لبث أبو محمد في هذا السجن، ولكن عهد المستكفي لم يطل فقد انقضت أيامه في سنة ستة عشر وأربعمائة، ورد الأمر إلى يحيى بن علي الحسيني وكان في مالقه،

(3)

وتأخر عن دخول قرطبة باختياره، وعين عليها أميرًا فأتيح لأبي محمد أن يخرج من السجن ولكن قرطبة كانت في أشد حالات الفوضى والاضطراب.

(4)

فخرج منها ويخبرنا عن نفسه وقد سكن مدينة شاطبه.

(5)

وذلك حين ورد إليه كتاب من صديقه من مدينة المرية يطلب منه أن يصنف له رسالة في الحب ومعانيه وأسبابه وأعراضه.

(6)

ثم يذكر في آخر هذه الرسالة - طوق الحمامة - ما يدل على أنه ما زال خارج وطنه يقول: "والكلام في مثل هذا - الحب ومعانيه وأسبابه - إنما هو من خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم

(1)

انظر جذوة المقتبس للحميدى ص 26.

(2)

انظر تاريخ الحكماء للقفطى ص 232. ومعجم الأدباء لياقوت ج 12، ص 237، وسير النبلاء للذهبى جزء خاص بترجمة ابن حزم ص 26. وتذكرة الحفاظ له جـ 3 ص 1148.

(3)

مالقة بفتح اللام والقاف كلمة عجمية، وهي مدينة بالأندلس على شاطىء البحر انظر معجم البلدان جـ 5 ص 43. والقاموس جـ 3 ص 284.

(4)

انظر جذوة المقتبس للحميدى ص 24، 25. وابن حزم صورة أندلسية للدكتور طه الحاجرى ص 142.

(5)

شاطبة مدينة كبيرة قديمة في شرق الأندلس، انظر معجم البلدان لياقوت جـ 3 ص 309، 310.

(6)

انظر طوق الحمامة ص 51 - 53، 123.

ص: 43

وتذكر فائت لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني، فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار، والجلاء عن الأوطان، وتغير الزمان، ونكبات السلطان وتغير الأخوان، وفساد الأحوال وتبديل الأيام وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد والغربة في البلاد، وذهاب المال، والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا".

(1)

ويقول الدكتور عبد الكريم خليفة: "وهناك إشارة توقت زمن كتابة ابن حزم كتابه طوق الحمامة وأنه كان قبل سنة عشرين وأربعمائة وهي السنة التي مات فيها الحكم بن المنذربن سعيد".

(2)

والإشارة هي: "وحكم المذكور في الحياة في حين كتابتي إليك بهذه الرسالة فقد كف بصره وأسن جدا".

(3)

ويحتمل أن أبا محمد رجع إلى قرطبة بعد بيعة هشام المعتد بالله، لأن أهل قرطبة اتفقوا على رد الأمر لبني أمية لما قطعت دعوة يحيى بن علي من قرطبة سنة سبع عشرة وأربعمائة وبايعوا هشامًا في شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة وأربعمائة، وبقى مترددا في الثغور ثلاثة أعوام غير شهرين. دارت هناك فتن كثيرة إلى أن اتفق أمرهم إلى أن يصير إلى قرطبة قصبة الملك فدخلها يوم منى ثامن ذي الحجة سنة عشرين وأربعمائة.

(4)

وتوزر أبو محمد بن حزم لهشام بن محمد على ما ذكر

(1)

طوق الحمامة ص 323 - 324.

(2)

ابن حزم الأندلسي للدكتور عبد الكريم خليفة ص 59.

(3)

طوق الحمامة لابن حزم ص 131.

(4)

انظر جذوة المقتبس للحميدى ص 27، 28.

ص: 44

ياقوت.

(1)

ولكن مجرى تاريخ حياة أبي محمد الوزارية لم يتغير، فأطيح بعهد هشام المعتد بالله في ذي القعدة سنة اثنين وعشرين وأربعمائة، ونودى في قرطبة بأن لا يبقى بها أحد من بني أمية،

(2)

وبانتهاء المعتد بالله تنتهي وزارة ابن حزم وبعدها ترك السياسة أو تركته على الصحيح كما رأينا، بانتهاء وزارته الأولى بوقوعه بالأسر، ثم قتل المرتضي، والثانية بالسجن والثالثة باطاحة عرش المعتد بالله واجلاء بني أمية من قرطبة ومطاردتهم وهم الذين يتعصب لهم أبو محمد، وينتمي بالولاء لهم. فأدرك بعد تلك التجارب أن في الإعراض عن السياسة ولأوائها راحة لبدنه وهدوء الفكره، وأن في الخلوص إلى العلم وطلبه لذة لا يدركها الملوك، وفي الجهاد الفكري دفاعا عن الدين، وردا على المنحرفين، فاتخذ أبو محمد من الكتاب صديقا أنس غربته، وأمن سريرته فلا يشك في صدق مودته فنال في هذا المسلك ما لم ينله غيره، وإن الناظر إلى حال صاحبنا في نشأته الأولى ثم حاله فيما بعد ذلك ليدهش لما أصابه من تقلبات الأحوال، وعدم تخاذله أمامها ويدرك أن حياته صورة للإرادة التي لا تعرف التردد.

* * *

(1)

انظر معجم الأدباء جـ 12 ص 237.

(2)

انظر جذوة المقتبس ص 28. وابن حزم الأندلسى للدكتور عبد الكريم خليفة ص 61.

ص: 45