الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6 - السمع والبصر
يذهب ابن حزم في سمع الله تعالى وبصره إلى القول بأن الله تعالى سميع بصير بذاته، وهو لم يزل سميعًا للمسموعات بصيرًا للمبصرات يرى المرئيات ويسمع المسموعات ومعنى هذا أنه عالم بكل ذلك كما قال تعالى {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
(1)
.
ولا يقول: إن الله تعالى سميع بسمع، ولا بصير ببصر وحجته عدم ورود النص بذلك
(2)
.
إثبات ابن حزم أن الله تعالى سميع بصير بذاته، دون القول إنه سميع بسمع بصير ببصر يتمشى مع مذهبه الظاهري.
لكننا نراه يخالف هذا المذهب حقيقة حيث جعل الله تعالى سميعًا بصيرًا بذاته ثم أرجع ذلك إلى العلم وليس في ظاهر ما استدل به ما يؤيد هذا.
وهذا المسلك يوافق الكعبي ومن تبعه من المعتزلة البغداديين الذين يرون أن الله تعالى سميع بمعنى أنه عالم بالمسموعات، وبصير بمعنى أنه عالم بالمبصرات
(3)
.
(1)
سورة طه: آية (46).
(2)
انظر الفصل (2: 124، 125، 140، 141، 160)، المحلى (1: 42).
(3)
انظر أصول الدين للبغدادي ص (96 - 98)، والفرق بين الفرق له ص (181)، نهاية الإقدام للشهرستاني ص (341)، الملل له جـ 1 ص (78).
وقد عرفنا ماذهب بن حزم في علم الله تعالى
(1)
وبينا أنه يؤول إلى مذهب أبي الهذيل العلاف من المعتزلة، وأن حقيقة هذا القول تجريد الذات عن الصفات كما هو رأي الفلاسفة.
وأهل الإثبات كلهم على خلاف هذا الرأي.
يقول ابن تيمية: "إثبات كونه سميعًا بصيرًا، وأنه ليس مجرد العلم بالمسموعات والمرئيات هو قول أهل الإثبات قاطبة من أهل السنة والجماعة
(2)
.
وقد وافق أهل الإثبات طائفة من المعتزلة البصريين
(3)
.
قال عبد القاهر البغدادي: "إن البصريين منهم - أي من المعتزلة - مع أصحابنا في أن الله عز وجل سامع للكلام والأصوات على الحقيقة لا على معنى أنه عالم بها"
(4)
.
وقد استدل ابن حزم بقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}
(5)
على جعل سمع الله تعالى للمسموعات وبصره للمبصرات ورؤيته للمرئيات علمه بذلك. وليس في الآية دليل لما ذهب إليه بل دلالتها تخالفه لأن فيها التفريق بين السمع والرؤية ولو كانا بمعنى العلم لما كان لهذا فائدة وكان لغوًا، إذ يكون المعنى، أنني معكما أعلم، وأعلم. وهذا لا يليق بكلام الله تعالى.
(1)
انظر ص (226 - 232).
(2)
شرح الأصفهانية ص (73)، وانظر المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى ص (48).
(3)
انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ص (181)، شرح الأصفهانية ص (73).
(4)
الفرق بين الفرق للبغدادي ص (181).
(5)
سورة طه: آية (46).
ومما يدل على أن سمع الله تعالى وبصره غير علمه تفريقه سبحانه بين السمع والبصر كما في الآية المذكورة وفي غيرها كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا}
(1)
(2)
. وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ}
(3)
(4)
. وقوله {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}
(5)
.
فالآيات تفرق بين العلم وبين السمع والبصر ولا يفرق بين علم وعلم لتنوع المعلومات كما قال: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
(6)
، وقوله:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(7)
. وقال سبحانه: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
(8)
. وفي الآيات السابقة ذكر سمعه لأقوالهم وعلمه ليتناول باطن أحوالهم.
قال أبو منصور الماتريدي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ
(1)
سورة النساء: آية (58).
(2)
سورة المجادلة: آية (1).
(3)
سورة آل عمران: آية (181).
(4)
سورة الزخرف: آية (80).
(5)
سورة العلق: آية (14).
(6)
سورة الشعراء: الآيات (218 - 220).
(7)
سورة الأعراف: آية (200).
(8)
سورة البقرة: آية (227).
الْعَلِيمُ}
(1)
: "أنك أنت "السميع "لدعائهم""العليم" بما نووا وأضمروا"
(2)
.
والآيات عمومًا فيها التفريق بين السمع والبصر والعلم وأن كلا منهما له متعلق يتعلق به يناسبه دون غيره ويتم به من المعنى ما لا يتم بغيره.
والعلم أعم من السمع. والبصر فيتعلق بكل شيء. أي بالواجب والممكن والمستحيل، لأن كل ذلك يصلح أن يكون معلومًا. أما السمع والبصر فيتعلقان بالمسموعات والمبصرات، فلا يجوز أن يكون كل معلوم مسموعًا أو مبصرًا، ويجد الإنسان من نفسه معنى زائدًا على العلم بالدليل أو الخبر عند السمع والبصر لا محالة إن هذه التفرقة مما يشهد بصدقها نظر ذوى الألباب فإنكارها مما لا سبيل إليه إلا عن جحد أو عناد
(3)
.
بعد أن بينا أنه ليس المراد بالسميع والبصير، العلم بالمسموعات والبصرات كما قال ابن حزم نبين أيضًا مخالفتنا لما ذهب إليه من أن الله تعالى سميع، بصير لا بسمع وبصر فنقول: إن الله تعالى سميع
(1)
سووة البقرة: آية (127).
(2)
تأويلات أهل، السُّنة للماتريدي (1: 289).
(3)
انظر الفقه الأكبر للشافعي ص (14)، والإبانة للأشعري ص (42)، والإنصاف للباقلاني ص (37)، والاعتقاد للبيهقي ص (26). والإقتصاد للغزالي ص (98)، وقواعد العقائد له ضمن القصور العوالي (4: 151)، ومناهج الأدلة لابن رشد ضمن فلسفة ابن رشد ص (74)، وغاية المرام للآمدي ص (126، 127)، وشرح الأصفهانية لابن تيمية ص (74)، ومجموع الفتاوى له (3: 133، 134)، و (5: 494)، وشرح المواقف ص (143).
بسمع، وبصير ببصر وهذا مذهب أهل السنة والجماعة. وقد بينا هذا عند الكلام على اتصاف الله تعالى بالصفات
(1)
. وأن المذهب الصحيح هو أن أسماء الله تعالى ليست أعلامًا جامدة فكل اسم مشتق من صفة.
ونريد هنا أن نبين الأدلة على إثبات أن السمع والبصر صفتان قائمتان بذاته تعالى زائدتان على كونه عالمًا
(2)
. زيادة على دلالة سميع وبصير - الواردة في الآيات - على إثبات السمع والبصر.
الدليل الأول:
إن الله تبارك وتعالى لو لم يتصف بالسمع والبصر، لا تصف بضد ذلك، وهو العمى، والصمم، لأن القابل للشيء لا يخلو عنه أو عن ضده والمصحح لكون الشيء سميعًا بصيرًا هو الحياة فإذا انتفت إمتنع إتصاف المتصف بذلك، والجمادات لا توصف بالسمع والبصر لانتفاء الحياة فيها وإذا كان المصحح هو الحياة كان الحي قابلًا لذلك فإن لم يتصف به لزم اتصافه بأضداده.
إذ لو جاز خلو الموصوف عن جميع الصفات المتضادات لزم وجود عين لا صفة لها، وهو جوهر بلا عرض يقوم به. وقد علم بالاضطرار
(1)
انظر ص (194 - 198).
(2)
انظر أصول الدين للبغدادي ص (96 - 98)، ونهاية الإقدام للشهرستاني ص (341، 345، 346)، غاية المرام للآمدي ص (126، 127)، شرح الأصفهانية ص (73، 74)، والدليل الصادق على وجود الخالق لجاب الله (1: 127).
امتناع خلو الجواهر عن الأعراض، وهو امتناع خلو الأعيان والذات عن الصفات ولهذا أطبق العقلاء من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم على إنكار زعم تجويز جوهر خال عن جميع الأعراض
(1)
.
فإن قيل: إن هذه الصفات متقابلة تقابل العدم
(2)
، والملكة
(3)
لا تقابل السلب والإيجاب. وما كان كذلك. إنما يلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر إذا كان المحل قابلًا لهما كالحيوان الذي لا يخلو إما أن يكون أعمى أو بصيرًا، لأنه قابل لهما وما لا يقبل الاتصاف لا بهذا ولا بهذا كالجماد فليس كذلك.
والجواب بإبطال هذا من وجوه كما يقول ابن تيمية: "أحدها أن يقال: الموجودات "نوعان" نوع يقبل الاتصاف بالكمال كالحي ونوع لا يقبله كالجماد، ومعلوم أن القابل للاتصاف بصفات الكمال أكمل ممن لا يقبل ذلك.
وحينئذ: فالرب إن لم يقبل الاتصاف بصفات الكمال لزم انتفاء اتصافه بها. وأن يكون القابل لها - وهو الحيوان الأعمى الأصم الذي
(1)
انظر شرح الأصفهانية ص (74)، مجموع الفتاوى (6: 88)، اللمع للأشعري ص (25)، الإنصاف للباقلاني ص (37)، المعتمد لأبي يعلى ص (50)، نهاية الإقدام للشهرستاني ص (342)، لمع الأدلة للجويني ص (85)، شرح المواقف ص (140، 141)، الدليل الصادق لجاب الله (1: 128).
(2)
العدم: هو أن لا يكون في شيء، ذات شيء من شأنه أن يقبله ويكون فيه. انظر معيار العلم للغزالي ص (272).
(3)
الملكة هي صفة راسخة في النفس تحصل بسبب فعل من الأفعال بعد طول الممارسة فترسخ في النفس كيفية هذه الصفة فتصبح بطيئة الزوال. انظر التعريفات للجرجاني ص (205).
يقبل السمع والبصر - أكمل منه، فإن القابل للسمع والبصر - في حال عدم ذلك - أكمل ممن لا يقبل ذلك. فكيف المتصف بها فلزم من ذلك أن يكون مسلوبًا لصفات الكمال - على قولهم - ممتنعًا عليه صفات الكمال، فأنتم فررتم من تشبيهه بالأحياء فشبهتموه بالجمادات، وزعمتم أنكم تنزهونه عن النقائص، فوصفتموه بما هو أعظم النقص.
الوجه الثاني: أن يقال: هذا التفريق بين السلب والإيجاب وبين العدم والملكة، أمر إصطلاحي، وإلا فكل ما ليس بحي فإنه يسمى ميتًا كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}
(1)
.
الوجه الثالث: أن يقال: نفس سلب هذه الصفات نقص، وإن لم يقدر هناك ضد ثبوتي، فنحن نعلم بالضرورة أن ما يكون حيًّا عليمًا قديرًا متكلمًا، سميعًا بصيرًا أكمل ممن لا يكون كذلك، وأن ذلك لا يقال سميع ولا أصم كالجماد وإذا كان مجرد إثبات هذه الصفات من الكمال، ومجرد سلبها من النقص: وجب ثبوتها لله تعالى لأنه كمال ممكن للموجود ولا نقص فيه بحال بل النقص في عدمه"
(2)
.
(1)
سورة النحل: الآيتان (20، 21).
(2)
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (6: 89، 90) شرح العقيدة الأصفهانية ص (85)، شرح المواقف للإيجي الموقف الخامس في الإلهيات ص (141).
الدليل الثاني:
أن السمع والبصر من صفات الكمال، فإن الحي إذا كان سميعًا بصيرًا أكمل من حي ليس كذلك كما أن الموجود الحي أكمل من موجود ليس بحي وهذا معلوم بضرورة العقل، وإذا كان كذلك فلو لم يتصف الرب تبارك وتعالى به لكان ناقصًا، ويتعالى الله عن كل نقص.
وهذا الاستدلال مبني على أن كل كمال ثبت للممكن المحدث وهو كمال محض لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالا للوجود غير مستلزم للعدم فهو جائز عليه وما كان جائزًا عليه من صفات الكمال فهو واجب له لأنه واجب قديم فهو به أولى من كل ممكن محدث.
وأيضًا لو لم يتصف تعالى بالسمع والبصر لكان السميع البصير من مخلوقاته أكمل منه ومن العلوم في بدائه العقول أن المخلوق المصنوع المفعول لا يكون أكمل من الخالق البارىء الصانع إذ الكمال لا يكون إلا بأمر وجودي والعدم المحض ليس فيه كمال وكل وجود للمخلوق فالله خالقه ويمتنع أن يكون الوجود الناقص مبدعًا وفاعلًا للوجود الكامل
(1)
.
(1)
انظر شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية ص (85، 86)، موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول له (1: 14، 15)، قاعدة في صفة الكلام له ضمن مجموعة الرسائل المنيرية المجلد الأول (2: 80، 81)، الإقتصاد في الإعتقاد. للغزالي ص (99، 100).
الدليل الثالث:
أن نفي السمع والبصر عن حي أوجماد نقص وما انتفى عنه ذلك فلا يجوز أن يحدث عنه شيء، ولا يخلقه ولا يجيب سائلًا لأنه لا يسمع كلام أحد ولا يبصر أحدًا فلا يصلح أن يكون معبودًا كما قال الخليل عليه السلام:{يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}
(1)
وقال لقومه: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}
(2)
ومعلوم أن الدليل غير منقلب على إبراهيم عليه السلام في معبوده لأنه يعبد سميعًا بصيرًا يسمع دعاءه ويبصره فلا يلزم عليه مالزمهم في معبوداتهم من عدم السماع والرؤية، ومن المستقر في الفطر أن ما لا يسمع ولا يبصر لا يكون ربًا معبودًا لأنه لا يسمع كلام أحد ولا يبصر أحدًا فإن لم يكن كالحي الأعمى الأصم كان بمنزلة من هو أقل من ذلك وهو الجماد الذي ليس فيه قبول أن يسمع أو يبصر، ونفى قبول هذه الصفات أبلغ في النقص. وأقرب إلى اتصاف المعدوم ممن يقبلها واتصف بأضدادها إذ الإنسان الأعمى الأصم أكمل من الحجر ونحوه مما لا يوصف بشيء من هذه الصفات، وإذا كان نفي هذه الصفات معلومًا بالفطرة أنه من أعظم النقائص، والعيوب وأقرب شبهًا بالمعدوم كان من المعلوم بالفطرة أن الخالق أبعد عن هذه النقائص والعيوب من كل ما ينفي عنه ذلك، وأن اتصافه تعالى بهذه
(1)
سورة مريم: آية (42).
(2)
سورة الشعراء: آية (72).