الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في بعض ما سمع من الهواتف وتنكس الأصنام
روى ابن سعد عن تميم الدري قال: كنت بالشام حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم فخرجت إلى بعض حاجتي فأدركني الليل فقلت: أنا في جوار عظيم هذا الوادي فلما أخذت مضجعي إذا مناد يناديني لا أراه: عذ باللَّه فإن الجن لا تجير أحدا على اللَّه. فقلت: أيم تقول؟ فقال: قد خرج رسول الأميين رسول اللَّه وصلينا خلفه بالحجون وأسلمنا واتبعناه، وذهب كيد الجن ورميت بالشهب فانطلق إلى محمد وأسلم.
فلما أصبحت ذهبت إلى دير أيوب فسألت راهبا وأخبرته الخبر فقال: صدق، نجده يخرج من الحرم ومهاجره الحرم، وهو خير الأنبياء فلا تسبق إليه.
قال تميم: فتكلفت الشخوص حتى جئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
تفسير الغريب
مضجعي: بفتح الجيم، وحكي الكسر.
أيم: قال في النور: وجدته بخط ابن قرقول مضبوطا بفتح الباء وإسكان الميم وأظنه وهما، والصواب بفتح الهمزة وتشديد الياء وإسكانها وهما لغتان. والميم مفتوحة. قال في النهاية: أصله أي ما. أي: أي شيء هو، فخفف الياء وحذف ألف ما.
الحجون: بفتح الحاء وضم الجيم: جبل بمكة.
دير أيوب: قرية بحوران.
تسبق: بضم أوله وفتح الموحدة مبني للمفعول.
الشخوص: بضم الشين والخاء المعجمتين فواو ساكنة فصاد مهملة: يقال شخص من البلد شخوصا إذا ذهب. غيره: أزعجه.
وروى البخاري عن عبد الله بن عمر مختصرا، وابن إسحاق عن عبد الله بن كعب مولى عثمان بن عفان، وابن الجوزي عن محمد بن كعب القرظي، وأبو يعلى، والبيهقي والخرائطي عن سواد بن قارب مطولا قال ابن عمر ومحمد: إن عمر بينما هو جالس في الناس في مسجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ أقبل رجل من العرب، قال الخشني: وهو سواد بن قارب.
انتهى. داخل المسجد يريد عمر بن الخطاب، فلما نظر عمر إليه قال: إن الرجل لعلى شركه ما فارقه بعد أو لقد كان كاهنا في الجاهلية. فسلم الرجل ثم جلس فقال له عمر: هل أسلمت؟
قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فهل كنت كاهنا في الجاهلية؟ فقال له الرجل: سبحان اللَّه يا
أمير المؤمنين! لقد خلت في واستقبلتني بأمر ما أراك قلته لأحد من رعيتك منذ وليت ما وليت.
فقال عمر: اللَّهم غفرا قد كنا في الجاهلية على شر من هذا، نعبد الأصنام والأوثان حتى أكرمنا اللَّه تعالى برسوله وبالإسلام. قال: نعم يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية.
قال: فأخبرني ما جاءك به صاحبك.
قال: جاءني قبيل الإسلام بشهر أو شيعه. انتهى.
وقال سواد بن قارب [ (1) ] : بينا أنا ذات ليلة بين النائم واليقظان إذ أتاني رئي فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب أتاك رسول من لؤي بن غالب، يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته.
فرفعت رأسي وجلست فأدبر وهو يقول:
عجبت للجن وتطلابها
…
وشدها العيس بأقتابها
تهوي إلى مكة تبغي الهدي
…
ما صادق الجن ككذابها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
…
ليس قداماها كأدبارها
[ (2) ] قال: فقلت دعني أنام فإني أمسيت ناعسا.
قال: فلما كانت الليلة الثانية أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وأخبارها
…
ورحلها العيس بأكوارها
تهوي إلى مكة تبغي الهدى
…
ليس ذوو الشر كأخيارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
…
ما مؤمنو الجنّ ككفّارها
[ (3) ] .
[ (1) ] سواد بن قارب الدوسي أو السدوسي. قال البخاري وأبو حاتم والبرزنجي والدارقطني. له صحبة. [الإصابة 3/ 148] .
[ (2) ] الأبيات في الروض الأنف 1/ 243.
[ (3) ] الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام 1/ 243 وتروى:
عجبت للجن وإبلاسها
…
وشدها العيس بأحلاسها
تهوى إلى مكانة تبغي الهدي
…
ما مؤمنو الجن كأنجاسها
وتروى في الروض الأنف 1/ 243 وتروى:
عجبت للجن وإبلاسها
…
وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكانة تبغي الهدي
…
ما طاهر الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
…
ليس ذنابا الطير من رأسها
قال: قلت دعني أنام فإني أمسيت ناعسا. فلما كانت الليلة الثالثة أتاني فضربني برجله وقال: قم يا سواد بن قارب فاسمع مقالتي واعقل إن كنت تعقل، إنه قد بعث رسول من لؤي بن غالب يدعو إلى اللَّه وإلى عبادته ثم أنشأ يقول:
عجبت للجن وتجساسها
…
وشدها العيس بأحلاسها
تهوي إلى مكة تبغي الهدي
…
ما خير الجن كأنجاسها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
…
وارم بعينيك إلى رأسها
[ (1) ] فقمت وقلت: وقد امتحن اللَّه قلبي. فرحلت ناقتي ثم أتيت المدينة فإذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله فدنوت منه فقلت: اسمع مقالتي يا رسول اللَّه. قال: هات.
فأنشأت أقول:
أتاني رئيي بعد هدء ورقدة
…
ولم يك فيما قد بلوت بكاذب
ثلاث ليال قوله كل ليلة
…
أتاك رسول اللَّه من لؤي بن غالب
فشمرت عن ذيل الإزار ووسطت
…
بي الذعلب الوجناء بين السباسب
فأشهد أن اللَّه لا رب غيره
…
وأنك مأمون على كل غائب
وأنك أدنى المرسلين وسيلة
…
إلى اللَّه يا ابن الأكرمين الأطايب
فمرنا بما يأتيك من وحي ربنا
…
وإن كان فيما جاء شيب الذوائب
وكن لي شفيعا حين لا ذو قرابة
…
بمغن قتيلا عن سواد بن قارب
[ (2) ] قال: ففرح رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمقالتي فرحا شديدا حتى رئي الفرح في وجوههم.
قال عبد الله: فقال عمر عند ذلك يحدث الناس: واللَّه إني لعند وثن من أوثان الجاهلية في نفر من قريش يقال لهم آل ذريح قد ذبح لهم رجل من العرب عجلا فنحن ننتظر قسمه ليقسم لنا منه إذ سمعت من جوف العجل صوتا ما سمعت قط أنفذ منه وذلك قبل الإسلام بشهر أو شيعه وهو يقول يا آل ذريح. وفي لفظ. يا جلبح، أمر نجيح، رجل فصيح يقول.
لا إله إلا اللَّه.
[ (1) ] الأبيات في الروض الأنف 1/ 243.
عجبت للحين وتنفارها
…
وشدها العيس بأكوارها
تهوي إلى كلمة تبغي الهوى
…
ما مؤمنو الجن ككفارها
فارحل إلى الصفوة من هاشم
…
ليس قداماها كأدبارها
[ (2) ] الأبيات في الروض الأنف 1/ 244.
وروى هشام بن محمد بن السائب عن عدي بن حاتم [ (1) ] قال: كان لي عسيف من كلب يقال له حابس بن دغنة فبينا أنا ذات يوم إذا به مروع الفؤاد فقال: دونك إبلك. فقلت: ما هاجك؟ فقال بينا أنا بالوادي إذا أنا بشيخ من شعب جبل تجاهي كأن رأسه رخمة فانحدر عما تزل عنه العقاب وهو مترسل غير منزعج حتى استقرت قدماه في الحضيض وأنا أعظم ما أرى فقال.
يا حابس بن دغنة يا حابس
…
لا تعرضن لفعلك الوساوس
هذا سنا النور بكف قابس
…
فاجنح إلى النور ولا تعابس
قال: ثم غاب فروحت إبلي وسرحتها إلى غير ذلك الوادي، ثم اضطجعت فإذا راكب قد ركضني فاستيقظت فإذا هو صاحبي وهو يقول:
يا حابس اسمع ما أقول ترشد
…
ليس ضلول حائز كمهتد
لا تتركن نهج الطريق الأقصد
…
قد نسخ الدين بدين أحمد
قال: فأغمي علي ثم أفقت.
وروى ابن دريد في الأخبار المنثورة عن ابن الكلبي قال: كان خنافر بن التوأم كاهنا، فنزل واديا مخصبا وكان له رئي في الجاهلية ففقده في الإسلام قال: فبينا أنا ليلة في الوادي إذ هوى علي هوي العقاب قال خنافر: فقلت: شصار؟ قال: اسمع أقل. قلت: قل أسمع. قال: عه تغنم لكل ذي أمد نهاية، وكل ذي ابتداء إلى غاية. قلت: أجل. قال: كل دولة إلى أجل، ثم يتاح لها حول، وقد انتسخت النحل ورجعت إلى حقائقها الملل، إني آنست بالشام نفرا من آل العوام، حكاما على الحكام، يرددون ذا رونق من الكلام، ليس بالشعر المؤلف. ولا السجع المتكلف، فأصغيت فزجرت، فعاودت فظلعت، فقلت: بم تهينمون، وإلام تعتزون، فقالوا خطاب كبار. جاء من عند الملك الجبار، فاسمع يا شصار، لأصدق الأخبار، وأسلك واضح الأخيار، تنج من اوار النار.
فقلت: وما هذا الكلام؟ قالوا: فرقان بين الكفر والإيمان. أتى به رسول الله من مضر، ثم من أهل المدر، ابتعث فظهر. فجاء بقول قد بهر، وأوضح نهجا قد دثر، فيه مواعظ لمن اعتبر.
[ (1) ] عدي بن حاتم بن عبد الله بن سعيد بن حشرج بن امرئ القيس بن عدي الطّائي الجواد ابن الجواد. وفد في شعبان سنة سبع، قيل: لما وفد نزع له النبي صلى الله عليه وسلم وسادة كانت تحته فألقاها له حتى جلس عليها. ولما ارتدّت العرب ثبت عدي وقومه على الإسلام، وشهد فتح المدائن، وشهد مع على حروبه. وكان أول صدقة قدم بها على أبي بكر صدقة عدي وقومه. وفقئت عينه يوم الجمل. عاش مائة وعشرين سنة. قال ابن سعد: توفي سنة ثمان وستين. [انظر الخلاصة 2/ 223/ 224.]
قلت: ومن هذا المبعوث بالآي الكبر. قال: أحمد خير البشر، فإن آمنت أعطيت الشبر، وإن خالفت أصليت سقر، فآمنت يا خنافر وأقبلت إليك أبادر فجانب كل نجس كافر، وشايع كل مؤمن طاهر، وإلا فهو الفراق. قال: فاحتملت حتى أتيت معاذ بن جبل بصنعاء فبايعته على الإسلام وفى ذلك أقول:
ألم تر أن اللَّه عاد بفضله
…
وأنقذ من لفح الجحيم خنافرا
دعاني صار للتي لو دفعتها
…
لأصليت جمراً من لظى الهول جائرا
وروى محمد بن عمر الأسلمي وأبو نعيم وابن عساكر عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن قوما من خثعم كانوا عند صنم لهم جلوسا وكانوا يتحاكمون إلى أصنامهم، فبينما هم عند صنمهم إذ سمعوا هاتفا يقول:
يا أيها الناس ذوو الأجسام
…
ومسندو الحكم إلى الأصنام
أكلكم أوره كالنعام
…
ألا ترون ما أرى أمامي
من ساطع يجلو دجى الظلام
…
ذاك نبي سيد الأنام
أعدل في حكم من الأحكام
…
يصدع بالنور وبالإسلام
من هاشم في ذروة السنام
…
مستعلن بالبلد الحرام
جاء بهدم الكفر بالإسلام
…
أكرمه الرحمان من إمام
قال أبو هريرة: فأمسكوا ساعة حتى حفظوا ذلك ثم تفرقوا، فلم يمض بهم ثلاث حتى فجأهم خبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه قد ظهر بمكة.
وروى ابن شاهين عن أبي خيثمة عبد الرحمن بن أبي سبرة قال: كان لسعد العشيرة صنم يقال له قراض يعظمونه وكان سادنه رجلا منهم يقال له ابن وقشة قال عبد الرحمن فحدثني ذباب بن الحارث قال: كان لابن وقشة رئي من الجن يخبر بما يكون فأتاه ذات ليلة فأخبره بشيء فنظر إلي فقال: يا ذباب اسمع العجب العجاب، بعث محمد بالكتاب يدعو بمكة فلا يجاب. فقلت له ما هذا؟ قال: لا أدري كذا قيل لي. فلم يكن إلا قليل حتى سمعنا بمخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وثرت إلى الصنم فكسرته ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وقلت في ذلك:
تبعت رسول اللَّه إذ جاء بالهدى
…
وخلفت قراضا بدار هوان
ولما رأيت اللَّه أظهر دينه
…
أجبت رسول اللَّه حين دعاني
وروى الخرائطي عن سفيان الهذلي قال: خرجنا في عير لنا إلى الشام، فلما كان بين
الزرقاء ومعان وقد عرسنا إذا بفارس يقول وهو بين السماء والأرض: أيها النيام هبوا فليس هذا بحين رقاد، وقد خرج أحمد وطردت الجن كل مطرد. ففزعنا ونحن رفقة حزاورة كلهم قد سمع بهذا، فرجعنا إلى أهلنا فإذا هم يذكرون خروج النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى الطبراني وأبو نعيم والبيهقي عن عبد الله العماني أن مازنا الطائي كان بأرض عمان، وكان يسدن الأصنام لأهله، وكان له صنم يقال له بادر. قال مازن: فعترت ذات يوم عتيرة، وهي الذبيحة، فسمعت صوتا من الصنم يقول: يا مازن أقبل إلي أقبل، تسمع ما لا يجهل، هذا نبي مرسل، جاء بحق منزل، فآمن به كي تعدل، عن حر نار تشعل، وقودها بالجندل.
قال مازن: فقلت واللَّه إن هذا لعجب. ثم عترت بعد أيام عتيرة أخرى فسمعت صوتا أبين من الأول وهو يقول:
يا مازن اسمع تسر،
…
ظهر خير وبطن شر
بعث نبي من مضر،
…
بدين اللَّه الكبر
فدع نحيتا من حجر،
…
تسلم من حر سقر
قال مازن: فقلت واللَّه إن لهذا لعجب وإنه لخير يراد بي. وقدم علينا رجل من الحجاز فقلت: ما الخبر وراءك؟ قال: خرج رجل بتهامة يقول لمن أتاه: أجيبوا داعي اللَّه يقال له أحمد.
فقلت: هذا واللَّه نبأ ما سمعت. فرحلت حتى أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فشرح لي الإسلام فأسلمت وقلت:
كسرت بادر أجذاذا أو كان لنا
…
ربا نطيف به ضلا بتضلال
بالهاشمي هدانا من ضلالتنا
…
ولم يكن دينه مني على بال
يا راكبا بلغن عمرا وإخوتها
…
أني لمن قال ربي بادر قالي
قال مازن: فقلت: يا رسول اللَّه إني امرؤ مولع بالشراب والطرب وشرب الخمر والهلوك من النساء وألحت علينا السنون فأذهبن الأموال وأهزلن الذراري والرجال وليس لي ولد، فادع اللَّه أن يذهب عني ما أجد ويأتيني بالحيا ويهب لي ولدا. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
«اللهم أبدله بالطرب قراءة القرآن وبالحرام الحلال وأته بالحيا، وهب له ولدا
[ (1) ] . قال مازن:
فأذهب اللَّه عني كل ما كنت أجد، وأخصب عمان وتزوجت أربع حرائر ووهب لي حيان بن
[ (1) ] أخرجه أبو نعيم في الدلائل 1/ 33 والبيهقي في دلائل النبوة 12/ 36 وذكره الهيثمي في الجمع 8/ 248.
مازن وأنشأت أقول:
إليك رسول اللَّه سقت مطيتي
…
تجوب الفيافي من عمان إلى العرج
لتشفع لي يا خير من وطئ الثرى
…
فيغفر لي ربي فأرجع بالفلج
إلى معشر خالفت في اللَّه دينهم
…
فلا رأيهم رأيي ولا شرجهم شرجي
وكنت امرأ بالزغب والخمر مولعا
…
شبابي حتى آذن الجسم بالنهج
فبدلني بالخمر خوفا وخشية
…
وبالعهر إحصانا فحصن لي فرجي
فأصبحت همي في الجهاد ونيتي
…
فلله ما صومي ولله ما حجي
وروى ابن سعد وأبو نعيم عن نفيل بن عمرو الهذلي قال: ذبحت ذبيحة على صنم فسمعت من جوفه: العجب كل العجب، خرج نبي من بني عبد المطلب، يحرم الزنا ويحرم الذبح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب. فتفرقنا فقدمنا مكة فلم نجد من يخبرنا بخروج محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لقينا أبا بكر الصديق فقلنا يا أبا بكر خرج بمكة أحد يدعو إلى اللَّه تعالى يقال له أحمد؟ قال: وما ذاك؟ فأخبرته الخبر، قال: نعم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وهو رسول اللَّه.
وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف عن جندل بن نضلة أنه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: كان لي صاحب من الجن فأتاني فدهمني وقال:
هب فقد لاح سراج الدين
…
بصادق مهذب أمين
فارحل على ناجية أمون
…
تمشي على الصحصح والحزون
فانتبهت مذعورا فقلت: ماذا؟ فقال: وساطح الأرض، وفارض الفرض لقد بعث محمد في الطول والعرض، نشأ في الحرمات العظام، وهاجر إلى طيبة الأمينة، فسرت وإذا بهاتف يقول:
يا أيها الراكب المزجي مطيته
…
نحو الرسول لقد وفقت للرشد
وروى البيهقي وابن عساكر عن ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول اللَّه خرجت في الجاهلية أطلب بعيرا لي شرد فهتف لي هاتف في الصبح يقول:
يا أيها الراقد في الليل الأجم
…
قد بعث اللَّه نبيا في الحرم
من هاشم أهل الوفاء والكرم
…
يجلو دجنات الدياجي والظلم
فأدرت طرفي فما رأيت له شخصا فقلت:
يا أيها الهاتف في داجي الظلم
…
أهلا وسهلا بك من طيف ألم
بين هداك اللَّه في لحن الكلم
…
ماذا الذي تدعو إليه تغتنم
وإذا أنا بنحنحة قائل يقول: ظهر النور وبطل الزور وبعث محمد بالحبور ثم أنشأ يقول:
الحمد للَّه الذي
…
لم يخلق الخلق عبث
أرسل فينا أحمدا
…
خير نبي قد بعث
صلى عليه اللَّه ما
…
حج له ركب وحث
ثم لاح الصباح فوجدت البعير.
وروى أبو سعد النيسابوري في الشرف عن الجعد بن قيس قال: خرجنا أربعة أنفس نريد الحج في الجاهلية، فمررنا بواد من أودية اليمن، فلما أقبل الليل استعذنا بعظيم الوادي وعقلنا رواحلنا فلما هدأ الليل ونام أصحابي إذا هاتف من بعض أرجاء الوادي يقول:
ألا أيها الركب المعرس بلغوا
…
إذا ما وقفتم بالحطيم وزمزما
محمدا المبعوث منا تحية
…
تشيعه من حيث سار ويمما
وقولوا له إنا لدينك شيعة
…
بذلك أوصانا المسيح ابن مريما
وروى أبو نعيم عن خويلد الضمري قال: كنا عند صنم جلوسا إذ سمعنا من جوفه صائحا يصيح: ذهب استراق السمع ورمي بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد ومهاجره إلى يثرب يأمر بالصلاة والصيام والبر وصلة الأرحام فقمنا من عند الصنم فسألنا فقالوا: خرج نبي بمكة اسمه أحمد.
وروى ابن جرير والطبراني وابن أبي الدنيا وأبو نعيم والخرائطي عن العباس بن مرداس السلمي رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان أول إسلامي أن أبي لما حضرته الوفاة أوصاني بصنم له يقال له ضمار فجعلته في بيت وجعلت آتيه كل يوم، فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم كنت في لقاح لي نصف النهار إذا طلعت علي نعامة بيضاء مثل القطن عليها راكب أبيض عليه ثياب بيض فقال:
يا عباس بن مرداس ألم تر أن السماء كفت حراسها، وأن الحرب جرعت أنفاسها، وأن الخيل وضعت أحلاسها، وأن الذي جاء بالبر والتقى يوم الاثنين في ليلة الثلاثاء صاحب الناقة القصواء.
فخرجت مرعوبا قد راعني ما سمعت وما رأيت، حتى جئت وثنا ضمار وكنا نعبده ونكلم من جوفه، فدخلت فكنست ما حوله ثم تمسحت به وقبلته فإذا صائح من جوف الصنم بالليل وهو يقول:
قل للقبائل من سليم كلها
…
هلك الأنيس وعاش أهل المسجد
أودى ضمار وكان يعبد مرة
…
قبل الكتاب إلى النبي محمد
إن الذي ورث النبوة والهدى
…
بعد ابن مريم من قريش مهتدي
قال: فكتمته الناس فلم أحدث به أحدا فلما رجع الناس من غزوة الأحزاب، فبينا أنا في إبلي بطريق العقيق من ذات عرق راقد سمعت صوتا شديدا فرفعت رأسي فإذا رجل على جناح نعامة وهو يقول: النور الذي وقع يوم الاثنين ليلة الثلاثاء مع صاحب الناقة العضباء في دار بني أخي العنقاء. فأجابه هاتف على شماله أبصره:
بشر الجن وأبلاسها، أن المطي قد وضعت أحلاسها، وكلأت السماء حراسها.
قال: فوثبت مذعورا وعلمت أن محمدا مرسل.
وقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وأنشدته شعرا قلته وهو:
لعمرك إني يوم أجعل جاهلا
…
ضمارا لرب العالمين مشاركا
وتركي رسول اللَّه والأوس حوله
…
أولئك أنصار له ما أولائكا
كتارك سهل الأرض والحزن يبتغي
…
ليهلك في كل الأمور المهالكا
فآمنت باللَّه الذي أنا عبده
…
وخالفت من أمسى يريد المهالكا
ووجهت وجهي نحو مكة قاصدا
…
أبايع بين الأخشبين المباركا
نبي أتى من بعد عيسى بناطقٍ
…
من الحق فيه الفضل فيه كذلكا
أمين على الفرقان أول شافع
…
وأول مبعوث يجيب الملائكا
تلاقي عرى الإيمان بعد انتفاضها
…
فأحكمها حتى أقام المناسكا
وروى أبو نعيم عن راشد بن عبد ربه قال: كان الصنم الذي يقال له سواع بالمعلاة تدين له هذيل وبنو ظفر من سليم فأرسلت بنو ظفر راشد بن عبد ربه بهدية بني سليم إلى سواع، قال: فأتيته فألفيت مع الفجر إلى صنم قبل سواع فإذا صارخ يصرخ من جوفه: العجب كل العجب، خروج نبي من بني عبد المطلب يحرم الزنا والربا والذبح للأصنام، وحرست السماء ورمينا بالشهب ثم هتف صنم آخر من جوفه: ترك الضمار وكان يعبد، وخرج نبي اسمه أحمد، نبي يصلي الصلاة ويأمر بالزكاة والصيام والصلة للأرحام. ثم هتف من جوف صنم آخر هاتف:
إن الذي ورث النبوة والهدى
…
بعد ابن مريم من قريش مهتدي
قال راشد: فألفيت عند سواع مع الفجر ثعلبين يلحسان ما حوله ويأكلان ما يهدى إليه
ثم يعرجان عليه ببولهما فعند ذلك يقول راشد:
أرب يبول الثعلبان برأسه
…
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
وذلك عند مخرج النبي صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن الجوزي عن بشير الهذلي قال: خرجنا من عيراتنا إلى الشام فلما كنا بين الزرقاء ومعان وقد عرسنا من الليل إذا نحن بفارس يقول: أيها الناس هبوا فليس هذا بحين رقاد، قد خرج أحمد وطرد الجن كل مطرد، ففزعنا ونحن رفقة حزاورة كلهم قد سمع هذا فرجعنا إلى أهلينا فإذا هم يذكرون اختلافا بمكة بين قريش بسبب نبي قد خرج من بني عبد المطلب اسمه أحمد.
وروى الروياني وابن عساكر عن خريم بن فاتك [ (1) ] ، والطبراني وابن عساكر من طريق آخر عنه، قال: بينا أنا في طلب نعم لي إذ جنني الليل بأبرق العذيب فناديت بأعلى صوتي:
أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهائه، وإذا هاتف يقول:
ويحك عذ باللَّه ذي الجلال
…
منزل الحرام والحلال
ووحد اللَّه ولا تبالي
…
ما كيد ذي الجن من الأهوال
إن تذكر اللَّه على الأميال
…
وفي سهول الأرض والجبال
قد صار كيد الجن في سفال
…
إلا التقى وصالح الأعمال
فقلت له:
يا أيها الهاتف ما تقول
…
أرشد عندك أم تضليل
فقال:
هذا رسول اللَّه ذو الخيرات
…
جاء بياسين وحاميمات
وسور بعد مفصلات
…
يأمر بالصلاة والزّكاة
ويزجر الأقوام عن هنات
…
قد كن في الأنام منكرات
فقلت: من أنت؟
فقال: أنا مالك بن مالك الجني.
وفي رواية الروياني عن عمرو بن أثال قال: بعثني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على جن نجد فانبعثت راحلتي فقلت:
[ (1) ] خريم: بالتصغير، ابن فاتك الأسدي، أبو يحيى، وهو خريم بن الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك، نسب لجد جده، صحابي، شهد الحديبية، ولم يصح إنه شهد بدرا، مات بالرّقة في خلافة معاوية. [التقريب 1/ 223.]
أرشدني راشد هديت
…
لا جعت ولا عريت
ولا برحت سيدا مقيتا
قال فاتبعني وهو يقول:
صاحبك اللَّه وسلم نفسكا
…
وبلغ الأهل وأدى حلكا
آمن به أفلح ربي حقكا
…
وانصره أعز ربي نصركا
فقلت: لو كان لي من يكفيني إبلي هذه لأتيته حتى أومن به. قال: أنا أكفيكها حتى أؤديها إلى أهلك سالمة. فاعتقلت بعيرا منها ثم أتيت المدينة فوافيت الناس يوم الجمعة وهم في الصلاة فقلت: يقضون الصلاة ثم أدخل، فبينا أنا أنيخ راحلتي إذ خرج إلي أبو ذر. وعند الروياني: أبو بكر الصديق- فقال: ادخل فقد بلغنا إسلامك. قلت: لا أحسن الطهور فعلمني فدخلت المسجد ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر كأنه البدر وهو يقول: «ما من مسلم توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى صلاة يحفظها ويعقلها إلا دخل الجنة» [ (1) ] .
فلما رآني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: ما فعل الشيخ الذي ضمن لك أن يؤدي إبلك إلى أهلك سالمة؟ أما إنه قد أداها إلى أهلك سالمة. قلت: رحمه الله. قال: أجل رحمه اللَّه تعالى
[ (2) ] .
وروى الأموي والفاكهي وأبو نعيم عن ابن عباس وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه تعالى عنهما قالا: لما ظهر أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قام رجل من الجن على أبي قبيس فقال:
قبح اللَّه رأي كعب بن فهر
…
ما أرق العقول والأحلام
دينها أنها تعنف فيها
…
دين آبائها الحماة الكرام
حالف الجن جن بصرى عليكم
…
ورجال النخيل والآطام
توشك الخيل أن تروها تهادى
…
تقتل القوم في حرام بهام
هل كريم منكم له نفس حر
…
ماجد الوالدين والأعمام
ضارب ضربة تكون نكالا
…
ورواحا من كربة واغتمام
فأصبح هذا الحديث قد شاع بمكة، وأصبح المشركون يتناشدونه بينهم وقالوا:
[ (1) ] أخرجه الطبراني في الكبير 4/ 251 وأبو نعيم في الدلائل 1/ 31 وذكره الهيثمي في المجمع 8/ 252 والمتقي الهندي في الكنز (18980- 37042) .
[ (2) ] أخرجه الطبراني في الكبير 4/ 252 والحاكم في المستدرك 3/ 621 وذكره الهيثمي في المجمع 8/ 251 والمتقي الهندي في الكنز (37041) .