الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه، والتأويل الأخير أصح من الأول لأن قوله: أنزل علي آنفا يدفع كونها نزلت قبل ذلك، بل نقول: نزلت في تلك الحالة وليس الإغفاء إغفاءة نوم بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا. انتهى.
السابع: مجيء الوحي كدوي النحل.
روى الإمام أحمد والحاكم، عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم «إذا أنزل عليه يسمع عند وجهه كدويّ النحل» [ (1) ] .
الثامن: العلم الذي يلقيه اللَّه تعالى في قلبه وعلى لسانه عند الاجتهاد في الأحكام.
لأنه اتّفق على أنه صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد أصاب قطعا وكان معصوما عن الخطأ وهذا خرق للعادة في حقه صلى الله عليه وسلم دون الأمة، وهو يفارق النّفث في الرّوع من حيث حصوله بالاجتهاد والنفث بدونه. قال في إرشاد الساري: ويعكر عليه أن الظاهر من كلام الأصوليين أن اجتهاده صلى الله عليه وسلم والوحي قسمان. انتهى.
هذا ما وقفت عليه من صفات الوحي.
وأما صفة حامله: فمجيء جبريل عليه الصلاة والسلام في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح يتناثر من أجنحته اللؤلؤ والياقوت، وقد وقع ذلك مرتين: مرة في السماء ليلة المعراج، ومرة في الأرض، كما سيأتي بسط ذلك في أبواب المعراج.
ومجيئه في صورة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشّعر.
وفي صورة دحية الكلبي.
ومجيئه في صورة رجل غير دحية.
نزول الوحي على لسان ملك الجبال كما سيأتي بيان ذلك في باب سفره إلى الطائف ونزوله على لسان إسرافيل، كما تقدم بيان ذلك.
تنبيهات
الأول: ذكر الإمام الحليمي رحمه اللَّه تعالى أن الوحي كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم على ستة وأربعين نوعا، فذكرها. قال الحافظ: وغالبها من صفة حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر.
الثاني: استشكل تشبيه مجيء الوحي بصلصلة الجرس إذ المحمود لا يشبّه بالمذموم،
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 1/ 34.
إذ حقيقة التشبيه: إلحاق ناقص بكامل، والمشبّه الوحي وهو محمود، والمشبّه به صوت جرس وهو مذموم، لصحة النّهي عنه والتّنفير من موافقة ما هو عليه والإعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم، فكيف يشبّه ما فعله الملك بأمر تنفر منه الملائكة؟
والجواب: بأنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبّه بالمشبه به في الصفات كلها، بل ولا في أخسّ وصف له بل يكفي اشتراكهما في صفة ما، فالمقصود هنا بيان الحسّ فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم، والحاصل أن الصوت له جهتان: جهة قوة وجهة طنين، فمن جهة القوة وقع التشبيه، ومن جهة الصوت وقع التنفير عنه، وعلّل بكونه مزمار الشيطان.
قيل: ويحتمل أن يكون النهي وقع بعد السؤال.
قال الحافظ: وفيه نظر.
قال ابن بطال: وعلى مثل هذه الصفة تتلقى الملائكة الوحي من اللَّه تعالى، وقال التوربشتي: وهذا الصوت من الوحي تشبيها بما يوحى إلى الملائكة على ما
رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قضى اللَّه في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله، كأنها سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم. قالوا: الحق وهو العليّ الكبير» .
رواه البخاري وغيره.
قال القاضي: ما جاء من مثل ذلك يجري على ظاهره وكيفية ذلك وصورته مما لا يعلمه إلا اللَّه تعالى أو من أطلعه اللَّه تعالى على شيء من ذلك من ملائكته ورسله، وما يتأوّل هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان، إذ جاءت به الشريعة ودلائل العقل لا تحيله انتهى.
والصلصلة المذكورة: قيل صوت الملك بالوحي. وقيل صوت حفيف أجنحة الملائكة. قال الخطّابي: يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد.
قوله: خضعانا- بفتحتين، وبضم أوله وسكون ثانيه: مصدر بمعنى خاضعين.
كأنه: أي القول المسموع.
الصّفوان: الحجر الأملس.
الثالث: الحكمة في تقديم الصلصلة أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره، فلما كان الجرس لا تحصل صلصلته إلا بتدارك وقع التشبيه به دون غيره من الآلات.
الرابع: دلّ
قوله «وهو أشدّه عليّ»
أن الوحي كله شديد ولكن هذه الصفة أشدها، وهو
واضح لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود، والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع بوصف القائل لغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.
قال الإمام البلقيني: وسبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدّمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به، كما في حديث ابن عباس: كان يعالج من التنزيل شدة.
قال الإمام البلقيني: وسبب ذلك أن الكلم العظيم له مقدّمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به، كما في حديث ابن باس: كان يعالج من التنزيل شدة.
قال: وقال بعضهم: وإنما كان أشدّه عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع. انتهى.
الخامس: قيل إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد. قال الحافظ: وفيه نظر. والظاهر أنه لا يختص بالقرآن كما في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبّة المتضمّخ بالطيب. وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزّلفى.
السادس: عبّر
بقوله: «فيفصم عنيّ وقد وعيت»
بالماضي وفي:
«فيكلّمني فأعي»
بالاستقبال. لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل حالة المكالمة وإنه كان في الأول قد تلبس بصفات الملائكة فإذا عاد إلى حالته الجبلّية كان حافظا لما قيل له، فعبّر عنه بالماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة.
السابع: قال إمام الحرمين [ (1) ] : تمثّل جبريل رجلا معناه أن اللَّه تعالى أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعد.
وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام [ (2) ] : فإن قيل إذا أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحية فأين تكون روحه: أفي الجسد الذي يشبّه بجسد دحية؟ أم في الجسد الذي خلق عليه له ستمائة جناح؟ فإن كان في الجسد الأعظم فما الذي أتى إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم جبريل، لا
[ (1) ] عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن محمد، العلامة إمام الحرمين، ضياء الدين، أبو المعالي بن الشيخ أبي محمد الجويني مولده في المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة. وتوفى أبوه وله عشرون سنة، فأقعد مكانه للتدريس فكان يدرس ويخرج إلى مدرسة البيهقي حتى حصل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الاسفراييني الإسكاف. ومن تصانيفه «النهاية» جمعها بمكة وحررها بنيسابور و «الأساليب في الخلاف» و «البرهان» في أصول الفقه. الطبقات لابن قاضي شهبة 1/ 255، 256، وطبقات الشافعية للسبكي 3/ 249، ووفيات الأعيان 2/ 341.
[ (2) ][عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن، الشيخ الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء، عز الدين، أبو محمد، السلمي، الدمشقي ثم المصري](1) . ولد سنة سبع أو ثمان وسبعين وخمسمائة، وتفقه على الشيخ فخر الدين بن عساكر (2) والقاضي جمال الدين بن الحرستاني (3) ، وقرأ الأصول على الآمدي (4) وبرع في المذهب، وفاق فيه الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير، والحديث، والفقه، والأصول، والعربية، واختلاف الناس ومآخذهم، حتى قيل: إنه بلغ رتبة الاجتهاد. قال الشيخ قطب الدين اليونيني: كان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنوادر والأشعار. وقال الشريف عز الدين: حدث، ودرس، وأفتى، وصنف، وتولى الحكم بمصر مدة. [انظر الطبقات لابن قاضي شهبة 2/ 109، 110، 111، وطبقات الشافعية للسبكي 5/ 80] .
من جهة روحه ولا من جهة جسده، وإن كانت في الجسد المشبّه بجسد دحية فهل يموت الجسد الذي له ستمائُة جناح كما تموت الأجساد إذا فارقتها الأرواح؟ أم يبقى حيّا خاليا من الروح المتنقلة بالجسد المشبّه بجسد دحية؟
قلت: لا يبعد أن يكون انتقالها من الجسد الأول غير موجب لموته لأن موت الأجساد بمفارقة الأرواح ليس بواجب عقلاً، وإنما هو بعادة مطّردة أجراها اللَّه في أرواح بني آدم، فيبقى ذلك الجسد حيّا لا ينقص، من معارفه وطاعاته شيء، ويكون انتقال روحه إلى الجسد الثاني كانتقال أرواح الشهداء إلى أجواف الطيور الخضر. انتهى.
وقال الشيخ سراج الدين البلقيني في كتابه «الفيض الجاري على صحيح البخاري» :
يجوز أن يكون الآتي هو جبريل بشكله الأول، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل، وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته، ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منفوشا، فإنه بالنفش تحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغيّر وهذا على سبيل التقريب.
وقال العلامة علاء الدين القونوي [ (1) ] شارح الحاوي في كتاب «الأعلام بإلمام الأرواح بعد الموت على الأجسام» : قد كان جبريل عليه الصلاة والسلام يتمثّل في صورة دحية وتمثّل لمريم بشرا سويّا، وفي الممكن أن يخص اللَّه بعض عباده في حال الحياة بخاصة لنفسه الملكيّة القدسية وقوة لها يقدر بها على التصّرف في بدن آخر غير بدنها المعهود مع استمرار تصرفها في الأول. وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سمّوا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر تشبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، وقد أثبت الصوفية عالما متوسّطا بين عالمي الأجساد والأرواح، وبنوا على ذلك تجسّد الأرواح وظهورها في صور مختلفة من عالم المثال، وقد يستأنس لذلك بقوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا
فتكون الروح الواحدة كروح جبريل مثلا في وقت واحد مدبّرة لشبحه الأصلي، ولهذا الشبح المثال، وينحلّ بهذا ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال: أين كان يذهب ما قد اشتهر نقله عن بعض الأئمة أنه سأل بعض الأكابر عن جسم جبريل فقال: أين كان يذهب جسمه الأول- الذي يسدّ الأفق بأجنحته لمّا تراءى للنبي صلى الله عليه وسلم في صورته الأصلية- عند إتيانه إليه في صورة دحية؟ وقد تكلف بعضهم الجواب عنه بأنه يجوز أن يقال:
[ (1) ] محمود بن علي بن إسماعيل بن يوسف، العالم، محب الدين أبو الثناء بن الإمام العلامة علاء الدين، التبريزي، القونوي الأصل المصري. ولد بمصر سنة تسع عشرة وسبعمائة، وتوفي والده وهو صغير، فاشتغل، وأخذ عن مشايخ العصر، ودرس وأشغل، وأفتى، وصنف. ذكره رفيقه الإسنوي في طبقاته، وبالغ في المدح له والثناء عليه، فقال: كان صاحب علم وعمل وطريقة لا عوج فيها ولا خلل. كان عالما بالفقه وأصوله، فاضلا في العربية والمعاني والبيان، صالحا، مجتهدا في العبادة والتلاوة، كثير الاشتغال والإشغال محافظا على أوقاته، توفي في ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وسبعمائة. الطبقات لابن قاضي شهبة 3/ 72، 73، وطبقات الشافعية للسبكي 6/ 247. وطبقات الأسنوي
كان يندمج بعضه في بعض إلى أن يصغر حجمه فيصير بقدر صورة دحية، ثم يعود وينبسط إلى أن يصير كهيئته الأولى.
وما ذكره الصوفية أحسن، ويجوز أن يكون جسمه الأول بحاله لم يتغير، وقد أقام اللَّه له شبحا آخر وروحه متصرّفة فيهما جميعا في وقت واحد. انتهى.
وقال العلامة شمس الدين بن القيّم في كتاب الرّوح: للروح شأن غير شأن الأبدان، فتكون في الرفيق الأعلى وهي متصلة ببدن الميت بحيث إذا سلّم المسلّم على صاحبها رد عليه السلام وهي في مكانها هناك، وهذا جبريل رآه النبي صلى الله عليه وسلم وله ستمائة جناح منها جناحان سدّ الأفق، وكان يدنو من النبي صلى الله عليه وسلم حتى يضع ركبتيه على ركبتيه ويديه على فخذيه، وقلوب المؤمنين تتسع للإيمان بأن من الممكن أنه كان يدنو هذا الدنوّ وهو في مستقره من السموات.
وفي الحديث في رؤية جبريل: «فرفعت رأسي فإذا جبريل صافّ قدميه بين السماء والأرض يقول: يا محمد أنت رسول اللَّه وأنا جبريل، فجعلت لا أصرف بصري إلى ناحية إلا رأيته كذلك» .
وإنما يأتي الغلط هنا من قياس الغائب على الشاهد، فيعتقد أن الروح من جنس ما يعهد من الأجسام التي إذا شغلت مكانا لم يمكن أن تكون في غيره. وهذا غلط محض.
وقال الحافظ: إنّ تمثّل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنّسا لمن يخاطبه، والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط. واللَّه أعلم. انتهى.
الثامن: قال الحافظ: ودويّ النحل في حديث عمر لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين والصلصلة بالنسبة إلى مقامه صلى الله عليه وسلم.
التاسع: في بيان غريب ما سبق:
روح القدس: جبريل عليه الصلاة والسلام لأنه خلق من محض الطهارة.
نفث في روعي: يعني جبريل أوحى إليّ من النفث بالفم المثلثة، وهو شبيه بالنفخ، وهو أقل من التفل، لأن التّفل لا يكون إلا ومعه شيء من الريق.
الرّوع- بضم الراء: النّفس.
الصلصلة [ (1) ] : صوت الحديد إذا حرّك، يقال صلّ الحديد وصلصل، والصلصلة أشد من الصّليل.
[ (1) ] انظر لسان العرب 4/ 2486.
الجرس: مثال يشبه الجلجل الذي يعلقه الجهّال في رؤوس الدواب.
يفصم عني: بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة أي يقلع وينجلي، ويروى بضم أوله من الرباعي وفي رواية بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمفعول وأصل الفصم القطع. وقيل بالفاء: القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة، فعبّر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود، والجامع بينهما بقاء العلقة.