الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع عشر في رجوع القادمين من الحبشة إليها والهجرة الثانية
قال ابن سعد: قالوا: لما قدم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مكة من الهجرة الأولى اشتدّ عليهم.
قومهم وسطت بهم عشائرهم ولقوا منهم أذى شديدا. فأذن لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى أرض الحبشة مرة ثانية، فكانت خرجتهم الثانية أعظمها مشقة، ولقوا من قريش تعنيفا شديدا ونالوهم بالأذى واشتد عليهم ما بلغهم عن النجاشي من حسن جواره لهم، فقال عثمان بن عفان: يا رسول اللَّه فهجرتنا الأولى وهذه الآخرة ولست معنا؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أنتم مهاجرون إلى اللَّه تعالى وإليّ، لكم هاتان الهجرتان جميعا» .
قال عثمان: فحسبنا يا رسول اللَّه
[ (1) ] .
قال ابن إسحاق وابن سعد: وكان عدّة من خرج في هذه الهجرة من الرجال ثلاثة وثمانين.
قال ابن سعد: ومن النساء إحدى [ (2) ] عشرة امرأة قرشية وسبع غرائب. وزاد غيرهما على ذلك كما سيأتي بيانه.
وقد روى قصتهم الإمام أحمد عن ابن مسعود، وأبو نعيم والبيهقي عن أبي موسى الأشعري، وابن إسحاق عن أم سلمة، والطبراني وابن عساكر عن جعفر بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنهم قالوا: لمّا نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشيّ، أمنّا على ديننا وعبدنا اللَّه تعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا بينهم أن يبعثوا فينا رجلين جلدين وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستظرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها الأدم فجمعوا له أدما كثيرا ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا عمارة بن الوليد وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلّما النجاشيّ فيهم، ثم قدّما إلى النجاشي هداياه ثم اسألاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلّمهم.
فخرجا حتى قدما على النجاشي ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يدفعا إلى النجاشيّ هديته ويكلّماه وقالا لكل بطريق منهم: أنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم،
[ (1) ] أخرجه ابن سعد في الطبقات 1/ 1/ 138.
[ (2) ] سقط في أ.
وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردّهم إليهم، فإذا كلّمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلّمهم إلينا ولا يكلمهم فإن قومهم أعلى وأعلم بما عابوهم فيه. فقالوا: نعم.
ثم إنهما لمّا دخلا على النجاشي سجدا له وقدّما له هداياهما فقبلها ثم قالا له: أيها الملك أن نفرا من بني عمنا سفهاء فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم جاءوا بدين ابتدعوه لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم عليهم فهم أعلى وأعلم بهم عينا وبما عابوا عليهم وبما عيّبوهم فيه.
ولم يكن شيء أبغض إلى عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد من أن يسمع النجاشيّ كلام جعفر وأصحابه فقال بطارقته: صدقا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم. فأسلمهم إليهما فليردّاهم إلى بلادهم وقومهم.
قال: فأين هم؟ قالا: في أرضك. فغضب النجاشي ثم قال: لاها اللَّه إذن لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فاسألهم عما يقول هذان من أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا غير ذلك منعتهم منهم وأحسنت جوارهم ما جاوروني.
ثم أرسل إلى أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول واللَّه ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كان في ذلك ما هو كائن. فقال جعفر بن أبي طالب: أنا خطيبكم اليوم.
وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله، فدخل جعفر وتبعه المسلمون فسلّم فقالوا: مالك لا تسجد للملك؟ قال جعفر: إنا لا نسجد إلا للَّه عز وجل. فقال النجاشي ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من أهل هذه الملل.
فقال جعفر: أيها الملك كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القويّ الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث اللَّه إلينا رسولا منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى اللَّه لنوحّده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا أن نعبد اللَّه وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فعدّد عليه أمور الإسلام. ثم قال: وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرّحم وحسن الجوار والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، فصدّقناه وآمنا به واتبعناه على ما
جاء به من اللَّه تعالى، فعبدنا اللَّه تعالى وحده ولم نشرك به شيئاً وحرّمنا ما حرم اللَّه علينا وأحللنا ما أحلّ لنا فعدا علينا قومنا فعذّبونا وفتنونا عن ديننا ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة اللَّه وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به من شيء فقال له جعفر: نعم. قال فاقرأه عليّ.
فقرأ عليه صدرا من «كهيعص» فبكى واللَّه النجاشيّ حتى أخضل لحيته وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما يتلى عليهم.
ثم قال له النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج عن مشكاة واحدة.
ثم قال النجاشي لعمرو: أعبيدهم لكم؟ قال: لا. قال: أفلكم عليهم دين؟ قال: لا.
قال: انطلقا فواللَّه لا أسلمهم إليكما أبدا ولا يكادون.
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: واللَّه لآتينّه عنهم غدا بما أستأصل به خضراءهم. فقال له عمارة لا تفعل فإن لهم أرحاما وإن كانوا قد خالفونا. قال: واللَّه لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.
ثم غدا إلى النجاشي فقال: أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قولا عظيما فاسألهم عما يقولون فيه. فأرسل إليهم ليسألهم عنه فاجتمع المسلمون ولم ينزل بهم مثلها. فقال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى ابن مريم إذا سألكم عنه؟ فقالوا: نقول واللَّه ما قال اللَّه تعالى وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن. فقال جعفر: لا يتكلم أحد أنا خطيبكم.
فلما دخلوا عليه فإذا هو جالس في مجلسه وعمرو بن العاص عن يمينه وعمارة عن شماله والقسيسون جلوس سماطين، فقال لجعفر وأصحابه: ما تقولون في عيسى ابن مريم؟
فقال جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا، نقول هو عبد اللَّه ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده الأرض فأخذ منها عودا ثم قال ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود، يا معشر القسيسين والرهبان واللَّه ما يزيدون على الذي فيه. فتناحرت بطارقته حوله حين قال ما قال فقال: وإن نخرتم واللَّه.
ثم قال: مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول اللَّه وأنه الذي نجد في الإنجيل، وأنه الرسول الذي بشر به عيسى ابن مريم، انزلوا حيث شئتم، واللَّه لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا الذي أحمل نعليه. وأمر لنا بطعام وكسوة، ثم قال: اذهبوا فأنتم آمنون. من سبّكم غرم، من سبّكم غرم، من سبّكم غرم. قالها ثلاثا. فما أحب أن لي جبلا من ذهب وأني آذيت رجلا منكم.
وفي رواية أن النجاشي قال للمسلمين: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم. فأمر مناديا ينادي: من آذى أحدا منهم فأغرموه أربعة دراهم. ثم قال: أيكفيكم؟ قلنا: لا. قال: فأضعفوها.
وعند موسى بن عقبة: من نظر إلى هؤلاء نظرة تؤذيهم فقد غرم. أي فقد عصاني.
ثم قال: ردّوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها فو اللَّه ما أخذ اللَّه منيّ الرشوة حين ردّ عليّ ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فيّ فأطيعهم فيه.
فخرجا من عنده مقبوحين مردود عليهما ما جاءا به.
ثم إن الحبشة اجتمعت فقالت للنجاشي: إنك فارقت ديننا- وخرجوا عليه فأرسل إلى جعفر وأصحابه فهيّأ لهم سفنا وقال: اركبوا فيها وكونوا كما أنتم فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا حيث شئتم، وإن ظفرت فاثبتوا. ثم عمد إلى كتاب فكتب فيه: هو يشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبده ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم ثم جعله في قبائه عند المنكب الأيمن وخرج إلى الحبشة وصفّوا له صفين فقال: يا معشر الحبشة ألست أحقّ الناس بكم؟ قالوا: بلى. قال: فكيف رأيتم سيرتي فيكم؟ قالوا: خير سيرة؟
قال فما لكم؟ قالوا: فارقت ديننا وزعمت أن عيسى عبد، هو ابن اللَّه. فقال النجاشي ووضع يده على صدره على قبائه: هو يشهد أن عيسى ابن مريم لم يزد على هذا. وإنما يعني ما كتب.
فرضوا عنه وانصرفوا.
قالت أم سلمة: فأقمنا عنده بخير دار مع خير جار، فو اللَّه أنا على ذلك إذ نزل به رجل من الحبشة ينازعه في ملكه، فو اللَّه ما حزنّا قطّ حزنا كان أشدّ من حزن حزنّاه عند ذلك تخوّفا أن يظهر ذلك الرجل على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. وسار إليه وبينهما عرض النّيل، فقال أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من رجل ينطلق حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ فقال الزبير بن العوام: أنا. قالوا: فأنت. وكان من أحدث القوم سنا. فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليهم حتى خرج إلى ناحية النّيل التي بها يلتقي القوم، ثم انطلق حتى حضرهم.
وقالت: ودعونا اللَّه للنجاشيّ بالظهور على عدوّه والتمكين له في بلاده.
قالت: فو اللَّه أنا على ذلك متوقعون لما هو كائن إذ طلع الزبير بن العوام يسعى فلمع بثوبه وهو يقول: أبشروا فقد ظهر النجاشيّ وأهلك اللَّه عدوّه. قالت: فو اللَّه ما علمتنا فرحنا فرحة قط مثلها. ورجع النجاشي وقد أهلك اللَّه عدوّه ومكن له في بلاده واستوسق عليه أمر الحبشة، وكنا عنده في خير منزل.
وروى الطبراني برجال الصحيح عن أبي موسى الأشعري، والطبراني وأبو الفرج الأموي
عن عبد الرحمن بن أبي ليلى واللفظ لأبي الفرج قال: وكان اللَّه سبحانه وتعالى قد ألقى العداوة بين عمرو وعمارة في مسيرهما قبل أن يقدما على النجاشي، وذلك أن عمرا كان رجلا دميما ومعه امرأته، وكان عمارة رجلا جميلا، فهوي امرأة عمرو وهويته، فعزما على دفع عمرو في البحر فدفع عمارة عمرا في البحر فسبح عمرو ونادى أصحاب السفينة فأخذوه فرفعوه إلى السفينة- فأضمرها عمرو في نفسه ولم يبدها لعمارة، بل قال لامرأته: قبّلي ابن عمك عمارة لتطيب بذلك نفسه. فلما أتيا أرض الحبشة وردّهما اللَّه تعالى خائبين مكر عمرو بعمارة فقال له: أنت امرؤ جميل وهن النساء يحببن الجمال، فتعرّض لامرأة النجاشي فلعلها أن تشفع لنا عند الملك في قضاء حاجتنا. ففعل عمارة وتكرّر تردده إلى امرأة النجاشي وأخذ عطرا من عطرها، فلما رأى عمرو ذلك أتى الملك فذكر له أمر عمارة، فأدركت الملك عزة الملك وقال: لولا أنه جاري لقتلته، ولكن سأفعل له ما هو شر من القتل. فدعا بالسّواحر فأمرهن أن يسحرنه فنفخن في إحليله نفخة طار منها هائما على وجهه حتى لحق بالوحوش بالجبال، فكان إذا رأى آدميّا ينفر منه، وكان ذلك آخر العهد به إلى زمن عمر بن الخطاب، فجاء ابن عمة عبد الله بن أبي ربيعة إلى عمر بن الخطاب واستأذنه في المسير إليه لعله يجده، فأذن له عمر، فسار عبد الله إلى أرض الحبشة فأكثر النّشدة عنه والفحص عن أمره حتى أخبر أنه في جبل كذا يرد مع الوحوش إذا وردت ويصدر معها إذا صدرت، فسار إليه فكمن له في طريقه إلى الماء فإذا هو قد غطّاه شعره وطالت أظافره وتمزقت عنه ثيابه حتى كأنه شيطان، فقبض عليه عبد الله وجعل يذكّره بالرّحم ويستعطفه وهو ينتفض منه وهو يقول أرسلني يا بجير أرسلني يا بجير وأبي عبد الله إن يرسله حتى مات بين يديه.
قال الزهري: فحدثت هذا الحديث عروة بن الزبير فقال: أتدري ما قوله: «ما أخذ اللَّه الرشوة منيّ فآخذ الرشوة فيه ولا أطاع الناس فيّ فأطيع الناس فيه؟» فقلت: لا. قال عروة: فإن عائشة حدثتني أن أباه كان ملك قومه وكان له أخ له من صلبه اثنا عشر رجلا ولم يكن لأبي النجاشي ولد غير النجاشي، فأدارت الحبشة رأيها بينها فقالوا: لو أنّا قتلنا أبا النجاشي وملّكنا أخاه فإن له اثني عشر رجلا من صلبه فتوارثوا الملك لبقيت الحبشة عليهم دهرا طويلا لا يكون بينهم اختلاف، فعدوا عليه فقتلوه وملّكوا أخاه. فمكثوا على ذلك حينا ونشأ النجاشيّ مع عمه فلا يدبّر أمر عمه غيره، وكان النجاشي حازما لبيبا من الرجال، فلما رأت الحبشة مكانه من عمه قالوا: قد غلب هذا الغلام على أمر عمه فما نأمن من أن يملّكه علينا، وقد عرف أنا قتلنا أباه، فلئن فعل لم يدع منا شريفا إلا قتله، فكلّموه فيه فليقتله أو ليخرجه من بلادنا.
فمشوا إلى عمه فقالوا: قد رأينا مكان هذا الغلام منك، وقد عرفت أنا قتلنا أباه وجعلناك مكانه، وإنا لا نأمن من أن يملّك علينا فيقتلنا، فإما أن تقتله وإما أن تخرجه من بلادنا. قال: ويحكم