الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس عشر في عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة
قال ابن إسحاق: ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين يعذّبونهم ويفتنونهم عن دينهم فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ممن استضعفوه منهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء الذي يصيبهم ومنهم من تصلّب لهم ويعصمه اللَّه تعالى.
روى ابن إسحاق عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، واللَّه إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه [ (1) ] ويعطشونه حتى ما يقدر يستوي جالسا من شدة الضّرّ الذي نزل به حتى يقولوا له: اللات والعزّى إلهك من دون اللَّه؟ فيقول: نعم حتى إن الجعل ليمرّ بهم فيقولون له:
هذا الجعل إلهك من دون اللَّه فيقول نعم. افتداء منهم مما يبلغون من جهدهم.
وكان أبو جهل الخبيث هو الذي يغري بهم رجال قريش، إذا سمع بالرجل أسلم له شرف ومنعة أنَّبه [وأخزاه] فقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنفيِّلنَّ رأيك ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.
فمن المستضعفين بلال رضي الله عنه، وكان صادق الإسلام طاهر القلب.
قال ابن إسحاق وغيره: فكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظّهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزّى فيقول وهو في ذلك البلاء. أحد أحد أنا كافر باللات والعزّى.
وروى البلاذري عن عمرو بن العاص قال: مررت ببلال وهو يعذّب في الرمضاء ولو أن بضعة لحم وضعت عليه لنضجت وهو يقول: أنا كافر باللات والعزى. وأمية مغتاظ عليه فيزيده عذابا فيقبل عليه فيدغت في حلقه فيغشى عليه ثم يفيق.
وروى ابن سعد عن حسان بن ثابت رضي اللَّه تعالى عنه قال: حججت- أو قال اعتمرت- فرأيت بلالا في حبل طويل يمده الصبيان وهو يقول: أحد أحد أنا أكفر باللات والعزى وهبل ونائلة وبوانة فأضجعه أمية في الرمضاء.
[ (1) ] في أو يجوعونه.
وروى البلاذري عن مجاهد قال: جعلوا في عنق بلال حبلا وأمروا صبيانهم أن يشتدّوا به بين أخشبي مكة- يعني جبليها- ففعلوا ذلك وهو يقول: أحد أحد.
وروى ابن سعد عن عروة قال: كان بلال من المستضعفين من المؤمنين وكان يعذّب حين أسلم ليرجع عن دينه فما أعطاهم قط كلمة مما يريدون، وكان الذي يعذبه أمية بن خلف الجمحي.
وروى البلاذري عن عمير بن إسحاق قال: كان بلال إذا اشتدّ عليه العذاب قال: أحد أحد. فيقولون له: قل كما نقول فيقول: إن لساني لا ينطق به ولا يحسنه.
قال البلاذريّ: وروي أن بلالا قال: أعطشوني يوما وليلة ثم أخرجوني فعذّبوني في الرمضاء في يوم حارّ.
قال ابن إسحاق: وحدثني هشام بن عروة عن أبيه قال: كان ورقة بن نوفل يمرّ ببلال وهو يعذّب وهو يقول: أحد أحد. فيقول ورقة: أحد أحد واللَّه يا بلال. ثم يقبل على أمية بن خلف ومن يصنع ذلك به من بني جمح فيقول: أحلف باللَّه لئن قتلتموه لأتخذنه حنانا.
حتى مرّ أبو بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنهما وهم يصنعون به ذلك، وكانت دار أبي بكر في بني جمح فقال أبو بكر لأمية: ألا تتقي اللَّه في هذا المسكين حتى متى تعذبه؟ قال أنت أفسدته فأنقذه مما ترى. قال أبو بكر: أفعل. عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى على دينك أعطيكه به. قال: قد قبلت. قال: هو لك. فأعطاه أبو بكر غلامه ذلك وأخذ بلالا فأعتقه.
وروى البلاذري بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: لمّا أسلم بلال أخذه أهله فقمطوه وألقوا عليه من البطحاء، وجعلوا يقولون: ربّك اللات والعزى. فيقول أحد أحد. فأتى عليه أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه فقال: علام تعذّبون هذا الإنسان؟ فاشتراه بسبع أواقيّ وأعتقه.
فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قد اشتراه فقال: الشركة يا أبا بكر. فقال: قد أعتقته يا رسول اللَّه.
وروى البلاذري بسند جيد عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس قال: اشترى أبو بكر بلالا بخمس أواقي.
ومنهم خبّاب بن الأرتّ بالمثناة الفوقية.
قال البلاذري: قالوا كان الأرت سواديا، فأغار قوم من ربيعة على الناحية التي كان فيها فسبوه وأتوا به الحجاز فباعوه فوقع إلى سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة. وزعم أبو اليقظان أن خبّابا كان أخا سباع لأمّه.
قال البلاذري: وخبّاب فيما يقول ولده: ابن الأرتّ بن جندلة بن سعد بن خزيمة، من بني سعد بن زيد مناة بن تميم، وإنه وقع عليه سبي فصار إلى أم أنمار مولاته فأعتقته وإنه كانت به رتّة، كان ألكن إذا تكلم بالعربية فسمي الأرتّ.
وروى البلاذري عن كردوس أن خبّابا أسلم سادس ستة.
وروى البلاذري عن الشّعبي قال: أعطوهم ما أرادوا حين عذّبوا إلا خبّاب بن الأرت فجعلوا يلصقون ظهره بالأرض على الرّضف حتى ذهب ماء متنه.
وروى البلاذري عن الشّعبي، ومن طريق آخر عن أبي ليلى الكندي قال، جاء خبّاب إلى عمر رضي اللَّه تعالى عنهما فقال له عمر: ادنه ادنه. فأجلسه على متّكئه وقال: ما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا رجل واحد. قال: ومن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال- وفي رواية الشعبي، عمار بن ياسر قال: ما هو بأحق مني أن بلالا كان له في المشركين من يمنعه. اللَّه به، ولم يكن لي أحد، لقد رأيتني يوما وقد أوقدوا لي نارا ثم سلقوني فيها ثم وضع رجل رجله على صدري فما اتقيت الأرض إلا بظهري ثم كشف خبّاب عن ظهره فإذا هو قد برص.
وروى البلاذري عن أبي صالح قال: كان خباب قينا وكان قد أسلم، فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يألفه ويأتيه فأخبرت بذلك مولاته فكانت تأخذ الحديدة وقد أحمتها فتضعها على رأسه، فشكا ذلك إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم انصر خبّابا فاشتكت مولاته رأسها وهي أم أنمار فكانت تعوي مع الكلاب، فقيل لها اكتوي فكان خباب يأخذ الحديدة قد أحماها فيكوي بها رأسها.
قال محمد بن عمر الأسلمي وكان الذي يعذّب خبابا حين أسلم ولازم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص. وقيل وهو الثبت الأسود بن عبد يغوث.
وروى البخاري ومحمد بن عمر الأسلمي والبيهقي عن خبّاب رضي اللَّه تعالى عنه قال: أتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو متوسد برده في ظل الكعبة ولقد لقينا من المشركين شدة شديدة فقلت: يا رسول اللَّه ألا تدعو اللَّه لنا؟ فقعد محمرّا وجهه فقال: إن كان من كان قبلكم ليمشّط أحدهم بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم وعصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأس أحدهم فيشقّ باثنتين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمنّ اللَّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضر موت لا يخاف إلا اللَّه والذئب على غنمه
[ (1) ] .
ومنهم صهيب بن سنان الرومي.
روى ابن سعد عن عروة قال: كان صهيب من المستضعفين من المؤمنين الذين كانوا يعذبون في اللَّه.
ومنهم عامر بن فهيرة.
[ (1) ] أخرجه البخاري 7/ 202 (3852) .
قال البلاذري: قالوا كان عامر من المستضعفين فكان يعذّب بمكة ليرجع عن دينه حتى اشتراه أبو بكر وأعتقه.
وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي- بضم القاف وكسر الظاء المشالة المعجمة- قال: كان عامر بن فهيرة يعذّب حتى لا يدري ما يقول.
ومنهم أبو فكيهة واسمه أفلح ويقال يسار. وكان عبدا لصفوان بن أمية فأسلم حين أسلم بلال، فمرّ به أبو بكر رضي الله عنه وقد أخذه أمية بن خلف فربط في رجله حبلا وأمر به فجرّ ثم ألقاه في الرمضاء فمر به جعل فقال: أليس هذا ربك فقال: اللَّه ربي خلقني وخلقك وخلق هذا الجعل فغلط عليه وجعل يخنقه ومعه أخوه أبي بن خلف يقول: زده عذابا حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره. فأخرجه نصف النهار في شدة الحر مقيدا إلى الرمضاء ووضع على بطنه صخرة فدلع لسانه فلم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق فمرّ به أبو بكر رضي الله عنه فاشتراه وأعتقه.
وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: كان أبو فكيهة يعذّب حتى- لا يدري ما يقول.
ومنهم عمار بن ياسر وأبوه وأمه سميّة وأخوه عبد الله رضي الله عنهم.
روى البلاذري والبيهقي عن مجاهد قال: أول من أظهر الإسلام أبو بكر وبلال وخبّاب وصهيب وعمار، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الآخرون فألبسوا دروع الحديد وصهروا في الشمس حتى بلغ الجهد منهم، وجاء أبو جهل إلى سميّة فطعنها في قلبها فهي أول شهيدة في الإسلام.
وروى ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: أخبرني من رأى عمار بن ياسر متجردا في سراويل. قال: ونظرت إلى ظهره فإذا فيه حبط فقلت: ما هذا؟ قال: هذا ما كانت قريش تعذّبني في رمضاء مكة.
وروى البلاذري عنه أيضاً قال: كان عمار يعذّب حتى لا يدري ما يقول.
وروى البلاذري عن أم هانئ رضي الله عنها أن عمار بن ياسر وأباه ياسرا وأخاه عبد الله ابن ياسر وسميّة بن عمار كانوا يعذّبون في اللَّه فمر بهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة.
فمات ياسر في العذاب وأغلظت سمية لأبي جهل فطعنها في قلبها فماتت، ورمي عبد الله فسقط [ (1) ] .
[ (1) ] أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 383 وأبو نعيم في الحلية 1/ 140 وذكره ابن حجر في المطالب (4034) والمتقي الهندي في الكنز (37366- 37368) وابن كثير في البداية والنهاية 3/ 59.
ومنهم جارية بني المؤمل بن حبيب.
قال البلاذري: وكان يقال لها فيما ذكر أبو البختريّ: لبيبة، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب فكان عمر يعذّبها حتى يفتر فيدعها ثم يقول: أما إني أعتذر إليك بأني لم أعدك إلا سآمة فتقول: كذلك يعذبك ربك إن لم تسلم.
وروى ابن سعد عن حسان قال: قدمت مكة معتمرا والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يؤذون ويعذّبون، فوقفت على عمر وهو متوزر يخنق جارية بني عمرو بن المؤمل حتى تسترخي في يديه فأقول قد ماتت. فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم زنّيرة- بزاي فنون مشددة مكسورتين فمثناة تحتية ساكنة وهي في اللغة الحصاة الصغيرة ويروي: زنبرة بزاي مفتوحة فنون ساكنة فباء موحدة- الرومية كان عمر بن الخطاب وأبو جهل يعذّبانها.
قال البلاذري: قالوا وكان أبو جهل يقول ألا تعجبون لهؤلاء واتباعهم محمدا؟ فلو كان ما أتى به محمد خيرا وحقا ما سبقونا إليه أفسبقتنا زنّيرة إلى رشد وهي من ترون. وكانت زنيرة قد عذّبت حتى عميت فقال لها أبو جهل: إن اللات والعزّى فعلتا بك ما ترين. فقالت، وهي لا تبصر: وما تدري اللات والعزى من يعبدهما، ولكن هذا أمر من السماء وربيّ قادر على أن يرد بصري. فأصبحت تلك الليلة وقد رد اللَّه بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد فاشتراها أبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه فأعتقها.
ومنهم أم عنيس- بعين مهملة مضمومة فنون فمثناة تحتية فسين مهملة- ويقال عبيس بباء موحدة فمثناة تحتية. أمة لبنى زهرة، وكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها فابتاعها أبو بكر.
ومنهم النّهدية وابنتها. وكانت مولّدة لبني نهد بن زيد فصارت لامرأة من بني عبد الدار فكانت تعذبهما وتقول: واللَّه لا أقلعت عنكما أو يعتقكما بعض من صبأ بكما. فمر بهما أبو بكر رضي الله عنه وقد بعثتهما في طحين لها وهي تقول: واللَّه لا أعتقكما أبدا فقال: حل يا أم فلان فقالت حل أنت واللَّه أفسدتهما فأعتقهما. قال: فبكم هما؟ قالت: بكذا وكذا. قال: قد أخذتهما به وهما حرّتان أرجعا إليها طحينها قالتا: أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها قال: أو ذاكما إن شئتما.
ومنهم أم بلال حمامة. ذكرها أبو عمر في الدّرر فيمن كان يعذّب في اللَّه فاشتراها أبو بكر وأعتقها. وأهملها أبو عمر في الاستيعاب واستدركوها على الاستيعاب.
والحاصل مما تقدم: أن أبا بكر رضي الله عنه اشترى جماعة ممن كان يعذب في اللَّه تعالى، وهم بلال وأمه وعامر بن فهيرة وأبو فكيهة وجارية بني المؤمل والنهدية وابنتها وزنّيرة.