الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب التاسع في كيفية إنزال الوحي
قال اللَّه سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ وقال اللَّه تبارك وتعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
وقال ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما: فصل القرآن من الذكر ودفع إلى جبريل فوضعه في بيت العزة من السماء الدنيا في ليلة القدر جملة واحدة، وكان اللَّه ينزله على رسوله بعضه إثر بعض نجوما على مواقع النجوم رسلا لجواب كلام العباد وأعمالهم في عشرين سنة ثم قرأ:
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا.
رواه الحاكم والبيهقي من طريق سعيد بن جبير، والنسائي وابن أبي حاتم والحاكم والبيهقي من طريق آخر، والطبراني من طريق آخر، والبزار من طريق آخر، وابن أبي شيبة من طريق آخر.
رسلا: أي رفقاء.
على مواقع النجوم: أي على مثل مساقطها. يريد: أنزل مفرقا يتلوا بعضه بعضا على تؤدة ورفق.
وهذا. قال الزركشي في البرهان والشيخ في الإتقان: إنه الأصح الأشهر، وقال الحافظ في الفتح: أنه الصحيح المعتمد.
وقيل: إنه نزل إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين في كل ليلة ما يقدر اللَّه تعالى إنزاله في كل سنة، ثم نزل بعد ذلك منجما في جميع السنة.
وقيل إنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما في أوقات مختلفات.
وقيل إنه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وإن الحفظة نزلته على جبريل في عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
تنبيهات
الأول: قيل: السر في إنزاله جملة إلى السماء تفخيم أمره وأمر من أنزل عليه، وذلك بإعلام سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم قد قربناه إليهم لتنزله عليهم، ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت وصوله إليهم منجما بحسب الوقائع
لهبط به إلى الأرض جملة كسائر الكتب المنزلة قبله، ولكن اللَّه باين بينه وبينها فجعل له الأمرين: إنزاله جملة ثم إنزاله مفرقا تشريفا للمنزل عليه. ذكر ذلك أبو شامة رحمه اللَّه تعالى.
وقال الحكيم الترمذي رحمه اللَّه تعالى: إنزال القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا تسليما منه للأمة ما كان أبرز لهم من الحظ بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن بعثته كانت رحمة، فلما خرجت الرحمة بفتح الباب جاءت بمحمد وبالقرآن، فوضع القرآن ببيت العزة في السماء الدنيا ليدخل في حد الدنيا، ووضعت النبوة في قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وجاء جبريل بالرسالة ثم الوحي، كأنه أراد تعالى أن يسلم هذه الرحمة التي كانت حظ هذه الأمة من اللَّه تعالى إلى الأمة.
وقال الإمام أبو الحسن السخاوي في «جمال القرآن» في نزول القرآن إلى السماء جملة تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة وتعريفهم عناية اللَّه بهم ورحمته لهم، ولهذا المعني أمر سبعين ألفا من الملائكة أن تشيع سورة الأنعام! وزاد سبحانه في هذا المعنى بأن أمر جبريل بإملائه على السفرة الكرام وإنساخهم إياه وتلاوتهم له.
قال: وفيه أيضاً التسوية بين نبينا وبين موسى في إنزال كتابه جملة، والتفضيل لمحمد صلى الله عليه وسلم في إنزاله عليه منجما ليحفظه.
الثاني: قال أبو شامة رحمه اللَّه تعالى: الظاهر أنه نزل جملة إلى السماء الدنيا قبل ظهور نبوته صلى الله عليه وسلم. قال: ويحتمل أن يكون بعدها.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: والظاهر الثاني.
وسياق الآثار السابقة عن ابن عباس صريح فيه.
وقال الحافظ: قد أخرج أحمد والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت منه» [ (1) ] . وفي رواية: «وصحف إبراهيم لأول ليلة» .
قال: وهذا الحديث مطابق لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة 185] ولقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر 1] فيحتمل أن تكون ليلة القدر في تلك السنة كانت تلك الليلة، فأنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل في اليوم الرابع والعشرين إلى الأرض أول اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ.
[ (1) ] أخرجه أحمد في المسند 4/ 107 والطبري في التفسير 2/ 84 والبيهقي في الأسماء والصفات (234) .
قال الشيخ: لكن يشكل على هذا ما اشتهر من أنه بعث في شهر ربيع الأول. ويجاب عن هذا بما ذكروه أنه صلى الله عليه وسلم نبئ أولا بالرؤيا في شهر مولده، ثم كانت مدتها ستة أشهر، ثم أوحى إليه في اليقظة، ذكره البيهقي وغيره.
الثالث: قال أبو شامة: إن قيل ما السر في نزوله منجما وهلا نزل كسائر الكتب جملة؟
قلنا: هذا سؤال قد تولى اللَّه جوابه فقال تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان 32] يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل، فأجابهم تعالى بقوله «كذلك» أي أنزلناه كذلك مفرقا «لنثبت به فؤادك» .
أي لنقوي به قلبك، فإن الوحي إذا كان يتجدد في كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه، ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجناب العزيز فيحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ولهذا كان أجود ما يكون في رمضان لكثرة لقائه جبريل. وقيل معنى «لنثبت به فؤادك» : أي لنحفظه لأنه عليه الصلاة والسلام كان أميا لا يقرأ ولا يكتب ففرق عليه ليثبت عنده حفظه بخلاف غيره من الأنبياء فإنه كان كاتبا قارئا فيمكنه حفظ الجميع.
وقال غيره: إنما لم ينزل جملة واحدة لأن منه الناسخ والمنسوخ، ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا، ومنه ما هو جواب لسؤال، ومنه ما هو إنكار على قول قيل أو فعل فعل، وقد تقدم ذلك في قول ابن عباس:«ونزل به جبريل بجواب كلام العباد وأعمالهم» .
وبه فسر قوله تعالى: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ [الفرقان 33] .
فالحاصل: أن الآية تضمنت حكمتين لإنزاله مفرقا.
الرابع: قال الأصفهاني: اتفق أهل السنة والجماعة على أن كلام اللَّه تعالى منزل واختلفوا في معنى الإنزال، فمنهم من قال: إظهار القراءة، ومنهم من قال: أن اللَّه تعالى ألهم كلامه جبريل وهو في السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته، ثم جبريل أداه في الأرض وهو يهبط في المكان.
وفي التنزيل طريقان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل.
والثاني: أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذه الرسول منه.
والأول أصعب الحالين.
وقال الحافظ: جرت العادة بالمناسبة بين القائل والسامع، وهي هنا إما باتصاف السامع
بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول، وإما باتصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني، والأول أشد بلا شك.
وقال الطيبي: لعل نزول القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم إن يتلقفه الملك من اللَّه تعالى تلقفا روحانيا، أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى الرسول ويلقيه عليه.
وقال القطب الرازي في حواشي الكشاف: الإنزال لغة بمعنى الإيواء وبمعنى تحريك الشيء من علو إلى سفل، وكلاهما لا يتحققان في الكلام، فهو مستعمل فيه في معنى مجازي، فمن قال: القرآن معنى قائم بذات اللَّه تعالى: فإنزاله أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى ويثبتها في اللوح المحفوظ، وهذا المعنى مناسب لكونه منقولا عن أول المعنيين اللغويين، ويمكن أن يكون المراد بإنزاله إثباته في السماء الدنيا بعد الإثبات في اللوح المحفوظ، وهذا مناسب للمعنى الثاني، والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يلقفها الملك تلقفا روحانيا أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها عليهم.
وقال الشيخ رحمه اللَّه تعالى في فتاويه: وسألت شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي عن كيفية التلقف الروحاني فقال لي: لا بكيف.
وقال البيهقي رحمه اللَّه تعالى في معنى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ يريد واللَّه تعالى أعلم: إنا أسمعنا الملك وأفهمناه إياه وأنزلناه بما سمع، فيكون الملك منتقلا به من علو إلى سفل.
قال أبو شامة: هذا المعنى مطرد في جميع ألفاظ الإنزال المضافة إلى القرآن أو إلى شيء منه يحتاج إليه أهل السنة المعتقدون قدم القرآن وأنه صفة قائمة بذات اللَّه تعالى.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعا من اللَّه تعالى ما أخرجه الطبراني من حديث النواس بن سمعان رضي اللَّه تعالى عنه مرفوعا: إذا تكلم اللَّه بالوحي أخذت السماء رجفة شديدة من خوف اللَّه تعالى، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجدا فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل، فيكلمه اللَّه تعالى بما أراد فينتهي به على الملائكة فكلما مر بسماء سأله أهلها: ماذا قال ربنا؟ قال: الحق. فينتهي به حيث أمر [ (1) ] .
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رفعه: إذا تكلم اللَّه تعالى بالوحي يسمع أهل السماء صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان فيفزعون ويرون أنه من أمر الساعة فذكر نحو ما سبق. وأصل الحديث في الصحيح [ (2) ] .
[ (1) ] أخرجه أبو داود 2/ 649 من حديث مسلم عن مسروق عن عبد الله مرفوعاً بنحوه.
[ (2) ] في البخاري 13/ 461 كتاب التوحيد.
وقال الإمام العلامة شهاب الدين محمد بن أحمد بن الخليل الخولي- بضم الخاء المعجمة- رحمه اللَّه تعالى: كلام اللَّه تعالى المنزل قسمان: قسم قال اللَّه تعالى لجبريل قل للنبي الذي أنت مرسل إليه: إن اللَّه يقول افعل كذا وكذا وأمر بكذا وكذا- ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبي وقال له ما قال له ربه، ولم تكن العبارة تلك العبارة، كما يقول الملك لمن يثق به قل لفلان يقول لك الملك اجتهد في الخدمة واجمع جندك للقتال. فإن قال الرسول: يقول لك الملك لا تتهاون في خدمتي ولا تترك الجند يتفرق وحثهم على المقاتلة، لا ينسب إلى كذب أو تقصير في أداء الرسالة.
وقسم آخر قال اللَّه تعالى لجبريل: اقرأ على النبي هذا الكتاب. فنزل جبريل بكلام اللَّه تعالى من غير تغيير، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول اقرأه على فلان، فهو لا يغير منه كلمة ولا حرفاً.
قال الشيخ رحمه اللَّه تعالى: القرآن هو القسم الثاني، والقسم الأول هو السنة، كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن.