الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رياضا معشبة وحياضا رواء، فأكلوا وشربوا وسمنوا. فقال لهم: ألم ألقكم على تلك الحالة فجعلتم لي إن وردت بكم رياضا معشبة وحياضا رواء، أن تتبعوني؟ قالوا: بلى. قال: فإن بين يديكم رياضا أعشب من هذه وحياضا أروى من هذه فاتبعوني. فقالت طائفة: صدق واللَّه لنتبعنّه. وقالت طائفة: رضينا بهذا نقيم عليه.
تنبيهات في بعض فوائد الحديث
الأول: المثل: بفتح المثلثة والمراد به هنا: الصفة العجيبة الشأن، أي صفتي وصفة ما بعثني اللَّه به من الأمر العجيب الشأن كصفة رجل أتى قوما إلى آخره.
والهدى والعلم: أي الطريقة والعمل. روى: «من ازداد علما ولم يزدد هدى لم يزدد من اللَّه إلا بعدا» .
والغيث: المطر، وإنما اختير الغيث على سائر أسماء المطر ليؤذن باضطرار الخلق إليه حينئذ. قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا [الشورى 28] وقد كان الناس في الزمن الأول قبل المبعث وهم على فترة من الرسل قد امتحنوا بموت القلب وذهاب العلم حتى أصابهم اللَّه برحمة من عنده فأفاض عليهم سجال الوحي السماويّ، فأشبهت حالهم حال من توالت عليه السّنون وأخلفتهم المخايل حتى تداركهم اللَّه بلطفه وأرخت عليهم السماء عزاليها، ثم كان حظّ كل فريق من تلك الرحمة على ما ذكره من الأمثلة والنظائر.
قال القرطبي والنووي تبعا للقاضي: ضرب النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء به من الدّين مثلا بالغيث العام الذي يأتي الناس في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال الناس قبل مبعثه، فكما أن الغيث يحيى البلد الميّت فكذا علوم الدين تحيي القلب الميت، ثم شبّه السامعين له بالأرض المختلفة التي نزل الغيث بها، فمنهم العالم المعلّم فهو بمنزلة الأرض الطيبة التي شربت فانتفعت في نفسها وأنبتت فنفعت غيرها.
ومنهم الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه غير أنه لم يعمل بنوافله ولم يتفقّه فيما جمع لكنه أدّاه لغيره فهو بمنزلة الأرض التي يستقرّ فيها الماء فينتفع الناس به، وهو المشار إليه بقوله «نضر اللَّه امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها» [ (1) ] .
ومنهم من سمع العلم فلا يحفظه ولا يعمل به ولا ينقله لغيره، فهو بمنزلة الأرض السّبخة أو الملساء التي لا تقبل الماء أو تفسده على غيرها.
[ (1) ] أخرجه الشافعي في ترتيب المسند 1/ 16 والترمذي 5/ 34 (2658) وأبو داود 4/ 68 (3660) وابن ماجة 1/ 84 (230) وأحمد في المسند 5/ 183.
قال الحافظ: وإنما أفرد الطائفتين الأولتين الممدوحتين لاشتراكهما في الانتفاع بهما، وأفرد الطائفة الثالثة المذمومة لعدم النّفع بها.
ثم ظهر لي إن في كل مثل طائفتين، فالأول قد أوضحناه والثاني: الأول منه من دخل في الدين ولم يسمع العلم، أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلمه، وأشير إليها
بقوله صلى الله عليه وسلم: «من لم يرفع بذلك رأسا»
[ (1) ] أي أعرض عنه فلم ينتفع به ولا نفع. والثانية منه: من لم يدخل في الدين أصلا بل بلغه فكفر به، ومثالها الأرض الصمّاء الملساء المستوية التي تمرّ عليها الماء فلا تنتفع به، وأشير إليها
بقوله صلى الله عليه وسلم: «ولم يقبل هدى اللَّه الذي أرسلت به» .
وقال الطّيبيّ: قال المطهّريّ: اعلم أنه ذكر في الأرض ثلاثة أقسام، وفي تقسيم الناس باعتبار قبول العلم قسمين: أحدهما من فقه في دين اللَّه إلى آخره. والثاني: من لم يرفع بذلك رأسا، يعني تكبّر ولم يقبل الدّين، يقال: لم يرفع فلان رأسه بهذا أي لم يلتفت إليه من غاية تكبّره، وإنما ذكره كذلك لأن القسم الأول والثاني من أقسام الأرض كقسم واحد من حيث إنه ينتفع به والثاني لا ينتفع به، وكذلك الناس قسمان: أحدهما من يقبل العلم وأحكام الدين.
والثاني: من لا يقبلهما، وهذا يوجب جعل الناس في الحديث على قسمين: أحدهما ينتفع به والثاني لا ينتفع به. وأما في الحقيقة فالناس على ثلاثة أقسام: فمنهم من يقبل العلم بقدر ما يعمل به ولم يبلغ درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس فهو القسم الأول، ومنهم من يقبل من العلم بقدر ما يعمل به وبلغ أيضا درجة الفتوى والتدريس وإفادة الناس، فهو القسم الثاني، ومنهم من لا يقبل العلم، وهو القسم الثالث.
قال الطيبي: اتفق الشارحون على هذا الوجه الثاني، وظاهر الحديث ينصر الوجه الأول، لأن الشّطر الأول من التمثيل مركب من أمرين، وذلك أن
معطوف على
«أصاب أرضا»
والضمير في منها يرجع إلى مطلق الأرض المدلول عليه بقوله أرضا، ثم قسمت الأرض الأولى بحرف التعقيب في
«فكانت»
وعطف كانت على كانت قسمين، فيلزم اشتمال الأرض الأولى على الطائفة الطيبة وعلى الأجادب، والثانية على عكسها، فالواو في
«وكانت»
ضمّت وترا إلى وتر، وفي «وأصابت» شفعا إلى شفع، نظيره قوله تعالى: وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ [فاطر 19] وقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [الأحزاب 35] قال في الكشاف: الفرق بين عطف الإناث على الذكور وعطف الزوجين على الزوجين أن الإناث والذكور جنسان مختلفان إذا اشتركا في حكم لم يكن بد من توسط العاطف بينهما، وأما العاطف الثاني فمن باب عطف الصفة على
[ (1) ] أخرجه البخاري 1/ 211 (79) ومسلم 4/ 1787 (15- 2282) .
الصفة بحرف الجمع وكأن معناه: إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ اللَّه لهم.
وأيضا أن أصل التمثيل مركّب من أمرين: الهدى والعلم لتغايرهما في الاعتدال، ويعضده مراعاة معنى التقابل بين الكلامين من إثبات الكلأ وإمساك الماء في إحداهما ونفيهما في الآخر على سبيل الحصر بقوله صلى الله عليه وسلم:«إنما هي قيعان» ثم تعقيبهما بالتفصيل في
قوله: «فذلك مثل من فقه في دين اللَّه ونفعه»
إلى آخر الحديث لأنه ذكر المثل فيه مرتين.
ويؤيده ما ذكر النووي أن رعوا بالراء من الرعي. هكذا هو في جميع نسخ مسلم. ووقع في البخاري: «وزرعوا» وكلاهما صحيح. وإنما قلنا هذه الرواية تؤيد ما ذكرنا لأن في الكلام حينئذ لفّا ونشرا فإن
«رعوا»
مناسب لأنبتت الكلأ
و «فشربوا وسقوا»
للأجادب وأمسكت الماء.
فيكون الضمير في نفع اللَّه بها ل
«أرض»
[ (1) ] ومعنى كليهما صحيح، لأن زرعوا متعلّق بالأول لا بالأجادب فإنه لا تكفي الشرب والسّقي فضلا عن الزرع.
فعلى هذا يكون قد ذكر في الحديث الطرفان: الغالي في الاهتداء والغالي في الضلال، فعبّر عمن قبل هدى اللَّه والعلم بقوله:«فقه في الدين» إلى آخره. وكنى عمن أبى قبولهما بقوله «لم يرفع بذلك رأسا» وبقوله ولم يقبل هدى اللَّه لأن الثاني عطف تفسيريّ للأول، وترك الوسط وهو قسمان: أحدهما: الذي ينتفع بالعلم في نفسه فحسب، والثاني: الذي لم ينتفع هو بنفسه ولكن نفع الغير.
وفي الحديث إشعار بأن الاستعدادات ليست بمكتسبة، بل هي مواهب ربّانية يختصّ بها من يشاء، وكمالها أن يفيض اللَّه تعالى عليها من المشكاة النبوية، فإذا وجد من يشتغل بغير الكتاب والسّنة وما والاهما علم أنه تعالى لم يرد به خيرا، فلا يعبأ باستعداده الظاهر، وأن الفقيه هو الذي علم وعمل وعلّم وفاقد أحدها فاقد هذا الاسم، وأن العالم العامل ينبغي أن يفيد الناس بعلمه كما يفيدهم بعمله، ولو أفاد بالعمل فحسب لم يحظ منه بطائل كأرض معشبة لا ماء فيها فلا يمرى مرعاها ولو اقتصر على القول لأشبه السّقي مجرّدا عن الرعي، فيشبه أخذه المستسقي، ولو منعهما معا كان كأرض ذات ماء وعشب حماها بعض الظّلمة عن مستحقّيها كما قال القائل:
ومن منح الجهّال علما أضاعه
…
ومن منع المستوجبين فقد ظلم
الطائفة، هنا: القطعة من الأرض.
قبلت: بفتح القاف وكسر الموحدة من القبول.
[ (1) ] في ألأرضا.
الكلأ: بالهمز بلا مد.
وقوله: العشب: من ذكر الخاص بعد العام، لأن الكلأ يطلق على النّبت الرّطب واليابس معا والعشب للرطب فقط.
أجادب [ (1) ]- بالجيم والدال المهملة جمع جدب بفتح الدال على غير قياس: وهي الأرض الصّلبة التي لا ينصبّ منها الماء.
فنفع اللَّه بها: أي الأجادب وفي رواية: «به» أي الماء.
رعوا: من الرعي وفي رواية: «زرعوا، من الزرع. قال النووي: كلاهما صحيح، ورجح القاضي الأول بلا مرجّح، لأن رواية زرعوا يدل على مباشرة الزرع ليطابق في التمثيل مباشرة طلب العلم، وإن كانت رواية رعوا مطابقة لقوله أنبتت، لكن المراد أنها قابلة للإنبات.
قيعان: بكسر القاف: جمع قاع وهو الأرض المستوية الملساء التي لا تنبت شيئا.
فقه: بضم القاف أي صار فقيها.
الثاني: في بعض فوائد الحديث الثاني:
قال الأشرف:
ذكر العينين إرشاد إلى أنه صلى الله عليه وسلم متحقق عنده جميع ما أخبر عنه من الأمور تحقق من رأى شيئاً بعينه لا يعتريه وهم ولا يخالطه شك.
وقال القاضي والنووي والطّيبي:
قوله: «أنا النّذير العريان»
مثل سائر يضرب لشدة الأمر ودنوّ المحذور وبراءة المحذّر عن التّهمة. وأصله: أن الرجل إذا رأى العدو وقد هجم على قومه وأراد أن يفاجئهم، وكان يخشى لحوقهم عند لحوقه تجرّد عن ثوبه وجعله على رأس خشبة وصاح ليأخذوا حذرهم ويستعدوا قبل لحوقهم، وإنما يفعل ذلك لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظرا، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهّب للعدو.
وقيل: الأصل فيه: أن رجلاً لقى جيشا فسلبوه وأسروه فانفلت إلى قومه فقال: إني رأيت الجيش وسلبوني فرأوه عريانا فتحققوا صدقه لأنهم كانوا يعرفونه ولا يتهمونه في النصيحة ولا جرت عادته بالتعري، فقطعوا بصدقه لهذه لقرائن، فضرب صلى الله عليه وسلم لنفسه ولما جاء به بذلك لما أبداه من المعجزات والخوارق الدالة على القطع بصدقه. تقريبا لأفهام المخاطبين بما يألفونه ويعرفونه.
[ (1) ] اللسان 1/ 557.
وقال الطيبي: وهذا التشبيه من التشبيهات المفرّقة، شبّه ذاته صلى الله عليه وسلم بالرجل، وما بعثه اللَّه تعالى به من إنذار القوم بعذاب اللَّه القريب بإنذار الرجل قومه بالجيش المصبّح، وشبّه من أطاعه من أمته ومن عصاه بمن كذّب الرجل في إنذاره وصدّقه.
وفي قول الرجل: أنا النذير العريان إلخ أنواع من التأكيد: أحدها: «بعيني» لأن الرؤية لا تكون إلا بها. وثانيها: قوله: «إني» و «أنا» وثالثها:
«العريان»
فإنه دال على بلوغ النهاية في قرب العدوّ. وفي ذلك تنبيه على أنه الذي يختص في إنذاره بالصدق والذي لا شبهة فيه، وهو الذي يحرص جدا على خلاص قومه من الهلاك.
وقال في الفرقة الأولى:
«فأطاعني»
وقابله في الثانية ب
«كذّب»
ليؤذن بأن الطاعة مسبوقة بالتصديق، ويشعر بأن التكذيب مستتبع للعصيان، كأنه جمع في كل من الفرقتين بين المعنيين. وإلى المعنيين أشار بقوله صلى الله عليه وسلم:«من أطاعني» إلى آخره. وأتبع قوله:
«اجتاحهم»
قوله
«أهلكهم»
إعلاما بأنه أهلكهم عن آخرهم فلم يبق منهم أحد.
الجيش- بجيم فمثناة تحتية فشين معجمة.
بعيني: روى بالإفراد وبالتثنية.
النّجاء النجاء- بالمد فيهما، وبمد الأولى وقصر الثانية، وبالقصر فيهما تخفيفا، نصبا على المصدر أي أنجو النجاء أو على الإغراء أي اطلبوا النجاء تسرعوا الهرب.
أدلجوا: بهمزة فسكون أي ساروا أول الليل كله على الاختلاف في مدلول هذه اللفظة.
مهلهم- بفتحتين- والمراد به الهينة والسكون. وبفتح أوله وسكون ثانيه: الإمهال وليس مرادا هنا.
الطائفة هنا: الفرقة.
صبّحهم: أتاهم صباحا هذا أصله، ثم كثر استعماله حتى استعمل فيمن طرق بغتة في أي وقت كان.
اجتاحهم: بجيم فمثناة فوقية فألف فحاء مهملة أي استأصلهم من جحت الشيء أجوحه إذا استأصلته والاسم الجائحة وهي الهلاك، وأطلقت لأنها مهلكة.
الثالث: في بعض فوائد الحديث الثالث:
قال القاضي ناصر الدين البيضاوي في شرح المصابيح رحمه اللَّه تعالى: هذا الحديث يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون حكاية سمعها جابر من النبي صلى الله عليه وسلم فحكاها. وثانيهما: أن يكون إخبارا بما شاهده هو نفسه وانكشف له.
وقول بعض الملائكة: «إن العين نائمة والقلب يقظان» مناظرة جرت بيانا وتحقيقا لما أنّ النفوس القدسية الكاملة لا يضعف إدراكها بضعف الحواس واستراحة الأبدان.
والفاء في «فمن أطاع محمدا» فاء السببية، أي لمّا كان الرسول يدعوهم إلى اللَّه تعالى بأمره وهو سفير من قبله فمن أطاع فقد أطاع اللَّه، ومن عصاه فقد عصى اللَّه.
وقال الطيبي: قوله: «مثل كمثل رجل» مطلع للتشبيه، وهو مبني على أن هذا التشبيه ليس من التشبيهات المفرّقة كقول امرئ القيس:
كأنّ قلوب الطير رطبا ويابسا
…
لدى وكرها العنّاب والحشف البالي
شبّه القلوب الرطبة بالعناب، واليابسة بالحشف على التفريق، بل هو من التمثيل الذي ينتزع فيه الوجه من أمور معدودة متوهّمة منضمّ بعضها مع بعض إذا لو أريد التفريق لقيل: مثله كمثل داع بعثه رجل ومن ثمّ قدّمت الملائكة في التأويل الردّ على الداعي وعلى المضيف، وروعي في التأويل أدب حسن، حيث لم يصرح المشبّه بالرجل لكن لمّح في قوله:«من أطاع اللَّه» ما يدل على أن المشبّه من هو. ونظيره في التمثيل قوله تعالى: «إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ» قال في الكشاف: ولي الماء الكاف وليس الغرض تشبيه الدنيا بالماء ولا بمفرد آخر يتمحّل لتقديره، ومما هو بين في هذا قول لبيد:
وما الناس إلا كالديار وأهلها
…
بها يوم حلّوها وغدواً بلاقع
لم يشبّه الناس بالديار وإنما شبّه وجودهم فيها وسرعة زوالهم وفنائهم بحلول أهل الديار فيها ووشك نهوضهم عنها وتركها خلاء خاوية.
وتحريره أن الملائكة مثّلوا سبق رحمه اللَّه تعالى على العالمين بإرسال الرحمة المهداة للخلق كما قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء 107] ثم إعداده الجنة للخلق ودعوته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى الجنة ونعيمها وبهجتها، ثم إرشاده للخلق بسلوك الطريق إليها واتباعهم إياه بالاعتصام بالكتاب والسنة المدليان إلى العالم السفلي، وكأن الناس واقعون في مهواة طبيعتهم، ومشتغلون بشهواتها، وأن اللَّه تعالى يريد بلطفه رفعهم فأدلى حبل القرآن والسنّة إليهم ليخلّصهم من تلك الورطة، فمن تمسك بها نجا وحصل في الفردوس والجناب الأقدس عند مليك مقتدر، ومن أخلد إلى الأرض هلك وأضاع نصيبه من رحمة اللَّه تعالى: بحال مضيف كريم بنى دارا وجعل فيها من ألوان الأطعمة المستلذّة والأشربة المستعذبة ما لا يحصى ولا يوصف ثم بعث داعيا إلى الناس يدعوهم إلى الضيافة إكراما لهم، فمن تبع الداعي نال من تلك الكرامة، ومن لم يتبع حرم منها.
ثم إنهم وضعوا مكان حلول سخط اللَّه تعالى بهم ونزول العقاب السّرمد عليهم قولهم:
«لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة» لأن فاتحة الكلام سيقت لبيان سبق الرحمة على
الغضب فلم يطابق أن لو ختم بما يصرّح بالعذاب والغضب، فجاءوا بما يدل على المراد على سبيل الكناية.
وقولهم: «محمّد فرق بين الناس» كالتذييل للكلام السّابق، لأنه مشتمل على معناه ومؤكد له في حضور الملائكة ورجع بعض الكلام على بعض، وتمثيلهم ذلك ووضعهم المظهر موضع المضمر في مواضع من الحديث، وتكرير الألفاظ مرة بعد أخرى، وفي تقديم المجمل ممثّلا به وتأويله، دلالة على الإرشاد التام وإزاحة للعلل وإيقاظ للسامعين من رقدة الغفلة وسنة الجهالة، وحثّ لهم على الاعتصام بالكتاب والسّنة والإعراض عما يخالفهما من البدعة والضلالة.
المأدبة: قال ابن خطيب الدهشة في تقريبه بالفتح والضم: الطعام يدعى إليه الناس.
أوّلوها: أي فسّروا الحكاية أو التمثيل بمحمد صلى الله عليه وسلم، من أوّل تأويلا إذا فسّر بما يؤول إليه الشيء، والتأويل في اصطلاح العلماء: تفسير اللفظ بما يحتمله احتمالا غير بيّن.
فرّق: روى بالتشديد أي على صيغة الفعل وبالسكون على المصدر وصف به للمبالغة كالعدل، أي هو الفارق بين المؤمن والكافر والصالح والفاسق، إذ به تميزت الأعمال والعمّال.
الرابع: في بعض فوائد الحديث الرابع:
قوله صلى الله عليه وسلم:
«مثلي»
أي في دعاء الناس إلى الإسلام المنقذ لهم من النار ومثل ما تزيّن لهم أنفسهم من التمادي على الباطل
«كمثل رجل»
إلى آخره والمراد تفسير الجملة بالجملة، لا تمثيل فرد بفرد.
قال النووي: مقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبّه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الآخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك ومنعه إياهم، والجامع بينهما اتباع الهوى وضعف التمييز وحرص كل من الطائفتين على هلاك نفسه.
وقال القاضي: أبو بكر بن العربي: هذا مثل كثير المعاني، والمقصود أن الخلق لا يأتون ما يجرّهم إلى النار على قصد الهلكة، وإنما يأتونه على قصد المنفعة واتباع الشهوة، كما أن الفراش يقتحم النار لا ليهلك فيها بل لما يعجبه من الضياء، وقد قيل إنها لا تبصر بحال وهو بعيد. وإنما قيل إنها تكون في ظلمة فإذا رأت الضياء اعتقدت أنه كوّة يستظهر منها النور فتقصده لأجل ذلك فتحترق وهي لا تشعر، وقيل إن ذلك لضعف بصرها فتظن أنها في بيت مظلم وأن السراج كوّة فترمي نفسها إليها وهي من شدة طيرانها تجاوزه فتقع في الظّلمة فترجع فتحترق.
وقيل: إنها تتضرر بشدة النور فتقصد إطفاءه فشدة جهلها تورّط نفسها فيما لا قدرة لها عليه.
وقال الغزالي: التمثيل واقع على صورة الإكباب على الشهوات من الإنسان بإكباب الفراش على التهافت في النار، ولكن جهل الآدمي أشدّ من جهل الفراش، لأنها باغترارها بظاهر الضوء إذا احترقت انتهى عذابها في الحال، والآدمي يبقى في النار مدة طويلة أو أبدا.
وقال الطيبي: تحقيق التشبيه الواقع في هذا الحديث يتوقف على معرفة معنى قوله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة 229] وذلك أن حدود اللَّه هي محارمه ونواهيه كما في الحديث الصحيح: «إلا أن حمى اللَّه محارمه» ورأس المحارم حبّ الدنيا وزينتها واستبقاء لذتها وشهواتها، فشبّه صلى الله عليه وسلم تلك الحدود ببياناته الشافية الكافية من الكتاب والسنة باستيقاد الرجل النار، وشبّه فشوّ ذلك الكشف في مشارق الأرض ومغاربها بإضاءة تلك النار ما حول المستوقد، وشبّه الناس وعدم مبالاتهم بذلك البيان والكشف وتعدّيهم حدود اللَّه تعالى وحرصهم على استيفاء تلك اللذات والشهوات ومنع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إياهم عنه بأخذ حجزهم: بالفراش اللاتي يقتحمن في النار ويغلبن المستوقد على دفعه إياها عن الاقتحام، وكما أن المستوقد كان غرضه من فعله انتفاع الخلق به من الاهتداء والاستدفاء وغير ذلك، والفراش بجهلها جعلته سببا لهلاكها: كذلك كان القصد بتلك البيانات اهتداء الأمة واحتماءها عما هو سبب هلاكهم، وهم مع ذلك لجهلهم جعلوها موجبة لتردّيهم.
وفي قوله:
«آخذ بحجزكم»
استعارة مثّلت حالة منعه صلى الله عليه وسلم الأمة عن الهلاك بحالة رجل أخذ بحجزة صاحبه الذي يهوي. أن يهوي في قعر بئر مردية.
والفاء في قوله:
فصيحة كما في قوله تعالى: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ [الحجرات 12] . فإنه تعالى لما سأل بقوله: «أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» فأجابوا لا. قال: فإذا كان كذلك «فَكَرِهْتُمُوهُ» وكذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما
قال للناس: «مثلي ومثلكم»
أي صفتي وصفتكم. ثم شرع في بيان المشبّه بقوله:
«مثل رجل»
إلخ، وعلم منه ما يقابله من التشبيهات على ما بيّناها آنفا، أتى بما هو أهمّ وأولى منها وهو قوله:
بالفاء. كأنه قيل: إذا صح هذا التمثيل وأنا مثل المستوقد وأنتم كالفراش تقتحمون في النار فأنا آخذ بحجزكم.
ولهذه الدقيقة التفت من الغيبة في قوله
«مثل الناس»
إلى الخطاب في قوله:
كما أنك إذا أخذت في حديث من لك عناية بشأنه، والحال أنه مشتغل بشيء
يورّطه في الهلاك، ثم إنك من غاية رأفتك عليه وشدة حرصك على نجاته تجد في نفسك أنه حضر عندك فتتحرى خلاصه.
استوقد: بمعنى أوقد، ولكن الأول أبلغ كعفّ واستعف.
والإضاءة: فرط الإنارة، واشتقاقه من الضوء وهو ما انتشر من الأجسام النيّرة يقال:
أضاءت النار وأضاءت غيرها يتعدى ولا يتعدى، فإن جعل متعديا يكون: ما حوله مفعولا به، وإن جعل لازما يجوز أن يكون ما حوله فاعلا له على تأويل الأماكن، ويجوز أن يكون فاعله ضمير النار، وما حوله ظرف، فيجعل حصول إشراق النار في جوانبها بمنزلة حصولها نفسها فيها مبالغة.
وحول الشيء، جانبه الذي يمكنه أن يحوّل إليه، أو سمي بذلك اعتبارا بالدوران والإطافة، ويقال للعام: حول. لأنه يدور.
وفي رواية مسلم: «ما حولها» فيكون الضمير راجعا إلى النار وفي رواية البخاري: «ما حوله» كما في التنزيل والضمير راجع إلى المستوقد.
الجنادب: جمع جندب وفيها ثلاث لغات: جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما. والثالثة حكاها القاضي جندب بكسر الجيم وفتح الدال. والجنادب هذه الصّرار التي تشبه الجراد. وقيل غير ذلك.
الفراش: اسم لنوع من الطير مستقل له أجنحة أكبر من جثته وأنواعه مختلفة في الكبر والصغر وكذا أجنحته.
وهذه الدواب: قال الحافظ: عطف الدواب على الفراش يشعر بأنها غير الجنادب والجراد. قال النووي وتبعه الطيبي: وقوله «وهذه الدواب» كقوله تعالى: ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا وقول عائشة في حق عبد الله بن عمرو: «عجبت لابن عمرو هذا» فيؤنث كقوله تعالى:
وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي [النحل 68] وتخصيص ذكر الدواب- والفراش لا يسمّى دابة عرفا- لبيان جهلها، كقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ [الأنفال 22] كل ذلك تعريض بطالب الدنيا المتهالك فيها.
يتقحّمن: التقحم أصله القحم وهو الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، ويطلق على رمي الشيء بغتة. واقتحم الدار: هجم عليها.
فأنا آخذ: بوزن اسم الفاعل، ويروى بصيغة المضارعة. قال النووي: والأول أشهر.
بحجزكم: بحاء مهملة مضمومة فجيم مفتوحة فزاي: جمع حجزة وهي معقد الإزار والسراويل.
عن النار: وضع السبب موضع المسبّب، لأن المراد أنه يمنعهم من الوقع في المعاصي التي تكون سببا لولوج النار.
هلم: كلمة بمعنى الدعاء إلى الشيء كما يقال: تعال. قال الخليل: أصله: لمّ من الضمّ والجمع، ومنه لمّ اللَّه شعثه. وكأن المنادي أراد لمّ نفسك إلينا. وهاء للتنبيه، وحذفت الألف تخفيفا لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا. وقيل في أصلها غير ذلك. وأهل الحجاز ينادون بها بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والجمع. وفي لغة نجد تلحقها الضمائر وتطابق. وتستعمل لازمة نحو «هلمّ إلينا» أي أقبل ومتعدية نحو هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الأنعام 150] أي أحضروهم.
فتغلبوني: بتشديد النون لأن أصله فتغلبونني، فأدغم أحد النونين في الأخرى، والفاء فيه سببية على التعكيس كاللام في فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص 8] وتقديره: أنا آخذكم بحجزكم لأخلصكم عن النار فعكستم فجعلتم الغلبة مسبّبة عن الأخذ.
تقحّمون: بفتح المثناة الفوقية والقاف والحاء المهملة المشددة والأصل تتقحّمون فحذف إحدى التاءين.
الخامس: في بعض فوائد الحديث:
سفر- بفتح السين المهملة: جمع سافر كركب وراكب، يقال سفر الرجل سفرا من باب طلب خرج للارتحال فهو سافر.
المفازة: الفلاة بلا ماء من المهالك أو من النجاة تفاؤلا.
الحلّة: بضم الحاء لا تكون إلا من ثوبين.
حبرة [ (1) ] : كعنبة على الوصف أو الإضافة.
وردت بكم: يقال ورد الماء والشيء: حضره.
رياضا: جمع روضة وهي الموضع المعجب بالزهور.
معشبة: ذات عشب، وهو الكلأ الرّطب.
حياضا: جمع حوض وهو ما يجمع فيه الماء.
رواء: بوزن كتاب جمع ريّا يقال روي من الماء بكسر ريّا ويكسر. أو المكسور اسم فهو ريّان والمرأة ريّا كغضبان وغضبى وجمعهما رواء.
[ (1) ] المصباح المنير 118.