الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن والعشرون في وفاة أبي طالب ومشي قريش إليه ليكف عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الحافظ عماد الدين بن كثير المشهور أنه مات قبل موت خديجة وكان موتهما في عام واحد قبل مهاجرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بثلاث سنين.
وقال صاعد في كتاب «الفصوص» : بعد ثمانية وعشرين يوما من خروجهم من الشّعب.
وقال ابن حزم: توفي أبو طالب في شوال في النصف منه.
وروى ابن أبي شيبة والإمام أحمد والترمذي وصححه عن ابن عباس، وابن جرير وابن أبي حاتم عن السّدّي، والبخاري والبيهقي عن سعيد بن المسيب عن أبيه، ومسلم والبيهقي عن أبي هريرة: أن أبا طالب لما اشتكى وبلغ قريش ثقله قال بعضها لبعض: إن حمزة وعمر قد أسلما وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب فليأخذ لنا على ابن أخيه وليعطه منا فإنا واللَّه ما نأمن أن يبتزّونا أمرنا.
فمشوا إلى أبي طالب فكلّموه، وهم أشراف قومه، عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب، في رجال من أشرافهم فقالوا: يا أبا طالب إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوّفنا عليك وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك، فادعه وخذله منا وخذ منه ليكفّ عنا ونكفّ عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه.
فبعث إليه أبو طالب، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل البيت وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل إن جلس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى أبي طالب أن يكون أرقّ عليه، فوثب أبو جهل فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مجلسا قرب عمّه، فجلس عند الباب. فقال: يا بن أخي هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعم كلمة واحدة يعطونيها يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم. وفي رواية: تدين لهم بها العرب وتؤدّي إليهم بها العجم الجزية. ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم: كلمة واحدة؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك عشر كلمات. قال:
تقولون لا إله إلا اللَّه وتخلعون ما تعبدون من دونه. فصفّقوا بأيديهم ثم قالوا: يا محمد تريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك لعجب.
ثم قال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئا مما تريدون فانطلقوا وامضوا على دينكم حتى يحكم اللَّه بينكم وبينه. ثم تفرقوا.
فأنزل اللَّه فيهم أول سورة ص.
فقال أبو طالب لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: واللَّه يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شحطا. فلما قالها طمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فيه فجعل يقول: أي عم فأنت فقلها أستحلّ لك بها الشفاعة يوم القيامة فلما رأى حرص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ذلك قال: لولا مخافة السّبة عليك وعلى بني أبيك من بعدي وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها لا أقولها إلا لأسرّك بها.
وذكر ابن الكلبي أن أبا طالب لما حضرته الوفاة جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال:
يا معشر قريش أنتم صفوة اللَّه من خلقه وقلب العرب واعلموا أنكم لم تتركوا للعرب في المآثر نصيبا إلا أحرزتموه ولا شرفا إلا أدركتموه فلكم بذلك على الناس الفضيلة ولهم به إليكم الوسيلة والناس لكم حرب وعلى حربكم إلب، وإني أوصيكم بتعظيم هذه البنيّة فإن فيها مرضاة للرب وقواما للمعاش وثباتا للوطأة، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها فإن في صلة الرحم منسأة في الأجل وزيادة في العدد، واتركوا البغي والعقوق ففيها هلكت القرون قبلكم، أجيبوا الداعي وأعطوا السائل فإن فيها شرف الحياة والممات، عليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة فإن فيهما محبة في الخاص ومكرمة في العامّ، وإني أوصيكم بمحمد خيرا فإنه الأمين في قريش والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وايم اللَّه كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل البرّ في الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته وعظّموا أمره فخاض بهم غمرات الموت فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا ودورها خرابا وضعافها أربابا وأعظمهم عليه أحوجهم إليه وأبعدهم منه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها وأصفت له فؤادها وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش ابن أبيكم كونوا له ولاة، ولحربه حماة، واللَّه لا يسلك أحد منكم سبيله إلا رشد ولا يأخذ أحد بهديه إلا سعد ولو كان لنفسي مدة ولأجلي تأخير لكفيت عنه الهزاهز ولدافعت عنه الدواهي.
ثم إن أبا طالب مات بعد ذلك.
وروى الشيخان عن المسيّب بن حزن رضي الله عنه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن المغيرة فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا عم قل لا إله إلا اللَّه كلمة أشهد- وفي لفظ: أحاجّ- لك بها عند اللَّه فقال أبو جهل وعبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان لتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملّة عبد المطلب. وأبى أن يقول:
لا إله إلا اللَّه بعد ذلك: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ [التوبة 113] ونزل في أبي
طالب: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
[ (1) ][القصص 56] .
ورويا أيضا عن العباس رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول اللَّه أن أبا طالب كان يحوطك وينصرك ويغضب لك فهل ينفعه ذلك؟ قال: نعم وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح منها [ (2) ] .
وفي لفظ: «ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار» .
وروي البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول، وذكر عنده عمّه، فقال: «لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه [ (3) ] .
وفي لفظ: «أمّ دماغه» .
وروى الشيخان وابن إسحاق عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: «أن أهون أهل النار عذابا يوم القيامة لرجل يوضع في إخمص قدميه جمرة- وفي لفظ على إخمص قدميه جمرتان [ (4) ] .
وفي لفظ عند مسلم: له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه. وفي لفظ: يغلي دماغه من حرارة نعله [ (5) ] .
وفي لفظ عند ابن إسحاق: حتى يسيل على قدميه. وفي لفظ عند البخاري: لا يرى أن أحدا أشدّ عذابا منه وإنه لأهونهم.
وروى مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «أهون أهل النار عذاباً أبو طالب وهو منتعل بنعلين يغلي منهما دماغه»
[ (6) ] .
وهذه الأحاديث الصحيحة تبين بطلان ما نقل عن العباس أنه قال لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:
يا بن أخي لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها.
قال البيهقي وأبو الفتح والذهبي: وقد أسلم العباس بعد وسأل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن حال
[ (1) ] أخرجه البخاري 2/ 199 (1360) ومسلم 1/ 54 (39- 24) .
[ (2) ] أخرجه البخاري 7/ 233 (3883) ومسلم 4/ 195 (358- 209) .
[ (3) ] أخرجه البخاري 7/ 233 (3885) ومسلم 1/ 195 (360- 210) .
[ (4) ] أخرجه البخاري 8/ 208 (6561- 6562) ومسلم 1/ 196 (362- 212) .
[ (5) ] عند مسلم في الموضع السابق (364- 213) .
[ (6) ] أخرجه مسلم في الموضع السابق (362- 212) .