الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[أَقْسَامُ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى]
وَيَنْقَسِمُ الْكَلَامُ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى إلَى أَقْسَامٍ ثَلَاثَةٍ: لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُفِيدَ طَلَبًا بِالْوَضْعِ أَوْ، لَا، وَالْأَوَّلُ إنْ كَانَ الطَّلَبُ لِذِكْرِ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فَهُوَ الِاسْتِفْهَامُ كَقَوْلِك مَا هَذَا؟ وَمَنْ هَذَا؟ وَإِنْ كَانَ لِتَحْصِيلِ أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فَإِنْ كَانَ مَعَ الِاسْتِعْلَاءِ فَأَمْرٌ، أَوْ مَعَ التَّسَاوِي فَالْتِمَاسٌ، أَوْ مَعَ التَّسَفُّلِ فَدُعَاءٌ.
وَالثَّانِي: إمَّا أَنْ يَحْتَمِلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ أَوْ لَا، وَالْأَوَّلُ الْخَبَرُ وَالثَّانِي التَّنْبِيهُ، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ التَّمَنِّي وَالتَّرَجِّي وَالْقَسَمُ وَالنِّدَاءُ، وَيُسَمَّى الْخَبَرُ قَضِيَّةً، لِأَنَّك قَضَيْت فِيهَا بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَيُسَمَّى الْأَوَّلُ مِنْ جُزْئَيْهَا مَحْكُومًا عَلَيْهِ، وَالْآخَرُ مَحْكُومًا بِهِ، وَالْمَنْطِقِيُّونَ يُسَمُّونَ الْأَوَّلَ مَوْضُوعًا وَالثَّانِيَ مَحْمُولًا.
ثُمَّ الْقَضِيَّةُ إمَّا كُلِّيَّةً أَوْ جُزْئِيَّةً أَوْ صَالِحَةً لَهُمَا، وَتُسَمَّى الْمُهْمَلَةُ، وَصِدْقُهَا عَلَى الْجُزْئِيِّ ضَرُورِيٌّ، فَأَمَّا صِدْقُهَا عَلَى الْكُلِّيِّ فَمَنَعَهُ الْمَنْطِقِيُّونَ.
وَأَمَّا لُغَةُ الْعَرَبِ فَتَقْتَضِي الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِغْرَاقِ، وَعَلَيْهِ جَرَى الْأُصُولِيُّونَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِ النِّدَاءِ مِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ الْإِنْشَاءِ لَا شَكَّ فِيهِ، وَزَعَمَ ابْنُ بَابْشَاذَ النَّحْوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُمْ فِي الْقَذْفِ: يَا فَاسِقُ يَا زَانِي مِمَّا يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَغَلَّطُوهُ بِأَنَّ التَّكْذِيبَ لَا يَرِدُ عَلَى النِّدَاءِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ نِدَاءِ الِاسْمِ وَالصِّفَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِيقَةِ التَّذْكِيرِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تِلْكَ الصِّفَةُ نَفْسُهَا، وَذَلِكَ غَيْرُ النِّدَاءِ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ بَرْهَانٍ: فِي " الْغُرَّةِ " إذَا نَادَيْت وَصْفًا فَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ، وَإِذَا نَادَيْت اسْمًا فَالْجُمْلَةُ لَيْسَتْ بِخَبَرِيَّةٍ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ وَجَبَ الْحَدُّ. نَعَمْ اخْتَلَفُوا فِي نَاصِبِ الْمُنَادَى، فَقِيلَ: فِعْلٌ مُضْمَرٌ أَيْ أَدْعُو زَيْدًا، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ إخْرَاجُ النِّدَاءِ إلَى بَابِ الْإِخْبَارِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ، وَقِيلَ: الْحَرْفُ، وَهُوَ " يَا "
لِأَنَّهُ صَارَ بَدَلًا مِنْ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا أُمِيلَتْ.
وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: " يَا " اسْمُ فِعْلٍ فَنَصَبَتْ كَنَصْبِهِ، لِأَنَّ " يَا " اسْمٌ لِقَوْلِك أُنَادِي كَمَا أَنَّ " أُفٍّ " اسْمٌ لِقَوْلِك: أَتَضَجَّرُ، وَرُدَّ بِأَنَّ " أُنَادِي " خَبَرٌ وَلَيْسَ " يَا " بِخَبَرٍ، وَمِنْ شَرْطِ اسْمِ الْفِعْلِ أَنْ يُوَافِقَهُ فِي قَبُولِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَعَدَمِهِ. وَقَدْ خَطَّأَ الْإِمَامُ فَخْرُ الدِّينِ فِي تَفْسِيرِهِ فِي أَوَائِلِ الْبَقَرَةِ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَنَا: يَا زَيْدُ بِأُنَادِي مِنْ وُجُوهٍ، حَاصِلُهَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ " يَا زَيْدُ " إنْشَاءٌ، وَقَوْلُنَا أُنَادِي خَبَرٌ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَلَحَ قَوْلُنَا:" يَا زَيْدُ " أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِعَمْرٍو كَمَا صَلَحَ قَوْلُنَا: أُنَادِي زَيْدًا لِذَلِكَ. وَرَدَّ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ " أُنَادِي " الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى " يَا زَيْدُ " خَبَرٌ، وَإِنَّمَا هُوَ إنْشَاءٌ، نَعَمْ: الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ أُنَادِي زَيْدًا لَيْسَ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى.
وَأَجَابَ الشَّيْخُ شَرَفُ الدِّينِ الْمُرْسِيُّ بِأَنَّ الْخَبَرَ قَدْ يُنْقَلُ مِنْ الْخَبَرِيَّةِ إلَى الْإِنْشَائِيَّةِ كَأَلْفَاظِ الْعُقُودِ الَّتِي يُقْصَدُ بِهَا اسْتِحْدَاثُ الْأَحْكَامِ بِأَنَّهَا بَعْدَ نَقْلِهَا إلَى الْإِنْشَاءِ لَمْ تَبْقَ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَكُلُّ هَذَا غَفْلَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الْمَحْذُوفِ فِي الْمُنَادَى، وَسِيبَوَيْهِ لَمْ يُقَدِّرْ " يَا زَيْدُ " بِأُنَادِي زَيْدًا، بَلْ قَدَّرَهُ " يَا أُنَادِي زَيْدًا " كَأَنَّ " يَا " أَوَّلًا تَنْبِيهٌ غَيْرُ خَاصٍّ يُمْكِنُ أَنْ يَتَنَبَّهَ بِهِ مَنْ سَمِعَهُ، فَبَيَّنَ الْمُنَبَّهُ بَعْدَ هَذَا التَّنْبِيهِ غَيْرِ الْخَاصِّ
أَنَّهُ خَاصٌّ، فَتَقْدِيرُ الْفِعْلِ فِي النِّدَاءِ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى، وَلَا يُغَيِّرُهُ مِنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ إلَى الْخَبَرِ، كَمَا قَالُوا: بَلْ هُوَ كَتَقْدِيرِ الْمُتَعَلِّقِ فِي قَوْلِك: " زَيْدٌ عِنْدَك " الَّذِي هُوَ مُسْتَقِرٌّ إذَا قَدَّرْت فَقُلْت: زَيْدٌ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَك. فِي أَنَّهُ لَا يُحِيلُ الْمَعْنَى وَلَا يُغَيِّرُهُ، وَهَذِهِ فَائِدَةٌ جَلِيلَةٌ تَصَيَّدْتهَا مِنْ كَلَامِ الْأُسْتَاذِ النَّحْوِيِّ أَبِي عَلِيٍّ الشَّلَوْبِينِيُّ رضي الله عنه.