الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرَّابِعُ مِنْ التَّنْبِيهَاتِ
سَبَقَ عَنْ إلْكِيَا أَنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ، فَإِنَّ أَبَا هَاشِمٍ لَا يَمْنَعُ الْإِقْدَامَ لَكِنَّ أَبَا هَاشِمٍ بَنَاهُ عَلَى مَأْخَذٍ لَهُ كَلَامِيٍّ، وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ تُلَازِمُهُ الْإِرَادَةُ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ انْتِقَاءَ الشَّرْطِ لَمْ يَتَصَوَّرْ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الْمُعَلَّقِ طَلَبُهُ عَلَى شَرْطٍ، وَنَحْنُ نُخَالِفُهُمْ فِي الْأَصْلِ، فَلِهَذَا خَالَفْنَاهُ فِي الْفَرْعِ.
وَحَاصِلُ الْخِلَافِ: يَرْجِعُ إلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِامْتِثَالِ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ أَوْ شَرْطٌ فِي إيقَاعِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ وَحُصُولِهِ؟ فَهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ أَوْ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ لَا عَلَى أَنَّهُ يَقْطَعُ بِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ، فَإِنَّ الْقَطْعَ بِذَلِكَ يَقْتَضِي الْقَطْعَ بِبَقَائِهِ بِكَوْنِهِ وَهُوَ مُتَعَذِّرٌ لِإِمْكَانِ الْمَوْتِ بَلْ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ الْحَيَاةِ وَاسْتِمْرَارُ الْقُدْرَةِ، فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ إتْمَامِ الْعِبَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى رَأْيِنَا فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْأَمْرِ بَلْ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْإِتْمَامِ.
[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ]
الْفِعْلُ الَّذِي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ إنْ جَهِلَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ، كَالْوَاحِدِ مِنَّا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمَأْمُورِ عَلَى صِفَاتِ التَّكْلِيفِ فَيَصِحُّ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَغَيْرُهُ، لِانْطِوَاءِ الْغَيْبِ عَنَّا.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَفِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ إشْعَارٌ بِالْخِلَافِ فِيهِ، وَإِنْ عَلِمَ انْتِفَاءَهُ كَمَا إذَا أَمَرَ اللَّهُ بِصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهُوَ يَعْلَمُ مَوْتَهُ فِي رَمَضَانَ، فَهَلْ يَصِحُّ
التَّكْلِيفُ بِهِ؟ قَالَ الْجُمْهُورُ مِنْهُمْ الْقَاضِي وَالْغَزَالِيُّ: يَصِحُّ وَيَقَعُ، وَلِذَلِكَ يَعْلَمُ الْمُكَلَّفُ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوَقْتِ، وَلَوْلَا أَنَّ تَحَقُّقَ الشَّرْطِ فِي الْوَقْتِ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ لَمَا عُلِمَ قَبْلَ وَقْتِهِ، إذَا الْجَهْلُ بِالشَّرْطِ يُوجِبُ الْجَهْلَ بِالْمَشْرُوطِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: يُمْتَنَعُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِالْمُحَالِ، وَلَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَقَالُوا: إنَّمَا يَصِحُّ الشَّرْطُ مِنَّا لِتَرَدُّدِنَا حَتَّى لَوْ عَلِمَ الْوَاحِدُ مِنَّا بِوَحْيٍ أَوْ إعْلَامِ نَبِيٍّ مَا يَكُونُ مِنْ حَالِ مُخَاطَبِهِ. لَا يَصِحُّ أَيْضًا تَقْيِيدُ الْخِطَابِ بِبَقَاءِ الْمُخَاطَبِ عَلَى صِفَةِ التَّكْلِيفِ، وَوَافَقَهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَالْحَقُّ: صِحَّتُهُ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْمُحَالِ فِي شَيْءٍ وَيَجُوزُ مِنْ الْقَدِيمِ تَعَالَى أَنْ يَأْمُرَ عَبْدَهُ بِمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ.
وَلَهُ فَوَائِدُ ثَلَاثَةٌ:
إحْدَاهَا: اعْتِقَادُ الْوُجُوبِ، وَيَجُوزُ التَّعَبُّدُ بِالِاعْتِقَادِ كَمَا يَجُوزُ بِالْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ: الْعَزْمُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَهُ إنْ أَدْرَكَهُ الْوَقْتُ عَلَى صِفَةِ التَّكْلِيفِ، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ فَيُثَابُ، أَوْ لَا يَعْزِمُ فَيُعَاقَبُ. الثَّالِثَةُ: جَوَازُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ مَصْلَحَةٌ وَلُطْفٌ، وَيَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ مُصَحِّحَةٌ لِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَيْضًا، وَهُوَ شَكُّ الْمُكَلَّفِ فِي بَقَائِهِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ وَقْتَ الْخِطَابِ لَا يَدْرِي هَلْ يَبْقَى إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ أَوْ لَا؟ وَيَنْقَطِعُ هَذَا التَّكْلِيفُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ كَانْقِطَاعِ سَائِرِ التَّكَالِيفِ الْمُتَكَرِّرَةِ.
وَحَاصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ اللَّهَ إذَا عَلِمَ أَنَّ زَيْدًا سَيَمُوتُ غَدًا، فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بِالصَّوْمِ غَدًا بِشَرْطِ أَنْ يَعِيشَ غَدًا أَمْ لَا؟ فَرَجَعَ
الْخِلَافُ إلَى تَحْقِيقِ الْأَمْرِ بِالشَّرْطِ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، فَأَصْحَابُنَا جَوَّزُوهُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ مَنَعُوهُ، وَقَالُوا: يَسْتَحِيلُ أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ بَقَاءِ الْمُكَلَّفِ.
وَزَعَمُوا: أَنَّ الشَّرْطَ فِي أَمْرِهِ تَعَالَى مُحَالٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يَقَعُ حَيْثُ الشَّكُّ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنْهُ، وَعِنْدَ التَّحْقِيقِ لَا شَرْطَ. فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الشَّمْسَ طَالِعَةٌ لَا يَقُولُ: إنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَلَعَتْ دَخَلْت الدَّارَ، وَإِنَّمَا يَحْسُنُ ذَلِكَ مِنْ الشَّاكِّ كَالْوَاحِدِ مِنَّا، وَلِهَذَا قَالُوا: لَوْ حَصَلَ الْعِلْمُ لِلْوَاحِدِ مِنَّا بِإِخْبَارِ نَبِيٍّ امْتَنَعَ الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ فِيهِ أَيْضًا، وَلَمْ يَقْصُرُوا خِلَافَهُمْ عَلَى مَا إذَا عَلِمَ الْآمِرُ انْتِفَاءَهُ بَلْ عَدَّوْهُ إلَى مَا عَلِمَ وُجُودَهُ أَيْضًا، فَقَالُوا: إنْ كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِهِ أَمْرًا بِهِ، بَلْ هُوَ جَارٍ: مَجْرَى: صُمْ غَدًا إنْ صَعِدْت السَّمَاءَ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْأَمْرِ فِي شَيْءٍ إلَّا عَلَى رَأْيِ بَعْضِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكُونُ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مَشْرُوطًا بِهِ بَلْ هُوَ كَقَوْلِهِ: صَلِّ إنْ كَانَتْ الشَّمْسُ مَخْلُوقَةً، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ الْمَشْرُوطِ فِي شَيْءٍ، لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الَّذِي يَكُونُ عَلَى تَرَدُّدٍ فِي الْحُصُولِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّرَدُّدَ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَلَا يُتَصَوَّرُ تَعْلِيقٌ عَلَى الشَّرْطِ أَلْبَتَّةَ لَا إنْ عَلِمَ وُقُوعَهُ، وَلَا إنْ عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ.
وَأَلْزَمَهُمْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَتَقَيَّدَ وَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ أَيْضًا كَمَا لَا يَتَقَيَّدَ أَمْرُهُ مَعَ أَنَّ مُعْظَمَ وَعْدِ الْقُرْآنِ وَوَعِيدِهِ مُقَيَّدٌ نَحْوَ قَوْله تَعَالَى {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} [الكهف: 18] قَالَ: وَلَا وَجْهَ لِلتَّرَدُّدِ فِي الشَّرْطِ مَعَ عِلْمِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ يَعْلَمُ.
وَلَهُ فَائِدَةٌ:
وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ بِذَلِكَ ابْتِلَاءَ الْمُكَلَّفِ وَامْتِحَانَهُ فِي تَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى الِامْتِثَالِ وَالْعَزْمِ. وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ كَلَّفَ الْمَعْدُومَ وَالْعَاجِزَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْدِرَ فِي حَالِ الْحَاجَةِ إلَى الْقُدْرَةِ.
وَأَجَابَ أَبُو الْحُسَيْنِ بِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ اللَّهَ كَلَّفَهُ بِشَرْطٍ أَنْ يَقْدِرُ. وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ حُكْمَنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَلَّفَهُ الْفِعْلَ مَشْرُوطًا بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَقْدِرُ، فَالشَّرْطُ دَاخِلٌ عَلَى حُكْمِنَا لَا عَلَى تَكْلِيفِ اللَّهِ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُخَالِفُ هَذَا رَجَعَ النِّزَاعُ إلَى اللَّفْظِ. وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إنَّمَا حَمَلَ الْمُعْتَزِلَةَ عَلَى ذَلِكَ أَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَيُمْكِنُ أَنْ لَا يَكُونَ، فَأَمَّا مَا تَحَقَّقَ ثُبُوتًا أَوْ نَفْيًا فَلَا يَصْلُحُ لِلشَّرْطِيَّةِ.
الثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَهُمْ يُلَازِمُ الْإِرَادَةَ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ انْتِفَاءَ الشَّرْطِ لَمْ يَكُنْ مُرِيدًا لِلْفِعْلِ الَّذِي عَلَّقَ طَلَبَهُ عَلَى الشَّرْطِ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقُولُ بِاقْتِرَانِ الْأَمْرِ بِالْإِرَادَةِ، فَيَصِحُّ الْأَمْرُ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ. هَذَا تَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَتَرْجَمَ بَعْضُ مُخْتَصِرِي الْبُرْهَانِ " وَهُوَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ الْمَسْأَلَةَ بِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ عِنْدَ الْأَصْحَابِ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ مِنْ جِنْسِ الْمُمْكِنِ فَيَصِحُّ أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قَبْلَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُ الْفِعْلَ وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَكُونَ مُمْكِنًا، وَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ.
قَالَ: وَاعْتَقَدَ الْإِمَامُ أَنَّ الْقَاضِيَ سَلَّمَ لَهُ كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا، فَقَالَ: يَلْزَمُ إذَا بَانَ أَنْ لَا إمْكَانَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ تَكْلِيفٌ، وَلَيْسَ كَمَا اعْتَقَدَهُ، لِأَنَّ كَلَامَ الْغَزَالِيِّ يَقْتَضِي تَرْجَمَتَهَا بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِشَرْطِهِ يُسَمَّى أَمْرًا أَمْ لَا؟ وَلِهَذَا ذَكَرَهَا فِي بَحْثِ الْأَوَامِرِ دُونَ التَّكَالِيفِ.
تَنْبِيهَاتٌ
التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ [الْعِلْمُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ]
مِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ أَصْلًا لِلَّتِي قَبْلَهَا أَعْنِي مَسْأَلَةَ الْعِلْمِ قَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ، فَإِنْ قُلْنَا: يَصِحُّ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الْأَمْرُ بِالشَّرْطِ صَحَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ اللَّه بِشَرْطِ الْبَقَاءِ، وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَصِحُّ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا، لِأَنَّهُ إذَا تَوَجَّهَ الْأَمْرُ نَحْوَ الْمُكَلَّفِ بِحُكْمٍ ظَاهِرِ الْبَقَاءِ فَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَبْقَى أَمْ لَا؟ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ فَرْعًا لِلَّتِي قَبْلَهَا، فَمَنْ قَالَ: إنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قَبْلَ التَّمَكُّنِ جَوَّزَ وُرُودَهُ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ لَمْ يُجَوِّزْهُ صَرَّحَ بِهِ الْهِنْدِيُّ. وَكَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالُوا: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا، وَهُوَ أَنَّا قُلْنَا: نَقْطَعُ الْمُكَلَّفَ بِالْتِزَامِ مَا كُلِّفَ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي حُكْمِ الْعَاقِبَةِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْمَقْصُودُ، وَنَقُولُ: لَوْ وَرَدَ الْأَمْرُ مُطْلَقًا هَلْ يَقُولُونَ: يَتَعَلَّقُ بِالْمُكَلَّفِ فِي الْحَالِ قَطْعًا أَوْ يَسْتَرِيبُونَ فِيهِ؟ فَإِنْ اسْتَرَبْتُمْ عُدْنَا إلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، وَإِنْ قَطَعْتُمْ مَعَ انْطِوَاءِ الْعَاقِبَةِ عَنْ الْمُكَلَّفِ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا مَعَ ذُهُولِهِ عَمَّا يَكُونُ، وَالْأَمْرُ مُتَوَجِّهٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا تُصَوِّرَ ذَلِكَ الِاعْتِقَادُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ فَمَا الْمَانِعُ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِمَا يَعْتَقِدُ فِيهِ عِنْدَ إطْلَاقِهِ؟
التَّنْبِيهُ] الثَّانِي [الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ لَهُ أَحْوَالٌ]
قَالَ الْعَبْدَرِيُّ فِي شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى ": الْأَمْرُ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ مَعْلُومًا انْتِفَاؤُهُ عِنْدَ الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ جَمِيعًا، فَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالِاتِّفَاقِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا عِنْدَهُمَا فَجَائِرٌ بِالِاتِّفَاقِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْآمِرِ مَجْهُولًا عِنْدَ الْمَأْمُورِ. فَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ جَوَّزَهُ الْأَشْعَرِيَّةُ وَمَنَعَتْهُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهُمْ الْمُصِيبُونَ فِي هَذَا اللَّفْظِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ الَّذِي فَرَضُوا فِيهِ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ صِيغَةَ اللَّفْظِ، إنَّمَا فَرَضُوا الْكَلَامَ فِي الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُومَ بِنَفْسِ الْآمِرِ طَلَبُ مَا يَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُ لَا يَقَعُ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ، بَلْ طَلَبُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ وَأَنْ لَا يَقَعَ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِالْمُمْكِنِ، فَالْمَأْمُورُ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَأَيْضًا فَإِنْ عَلِمَ الْمَأْمُورُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَمْرُ وَاقِعًا لَا مَحَالَةَ فَبَطَلَ كَوْنُهُ مُمْكِنًا وَصَارَ وَاجِبًا، وَهَذَا مُحَالٌ فَنَقِيضُهُ مُحَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عِنْدَ تَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَلْ عِنْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. انْتَهَى. وَفِيمَا ذَكَرَهُ نِزَاعٌ.
وَفَاتَهُ قِسْمٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَالِمًا بِالِانْتِفَاءِ دُونَ الْآمِرِ، فَلَا يَصِحُّ وِفَاقًا لِانْتِفَاءِ فَائِدَتِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَأْمُورِ وَهُوَ الِامْتِثَالُ، وَعَدَمُ صِحَّةِ طَلَبِهِ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ.
وَقَالَ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ: اتَّفَقَ الْكُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ إلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ بِتَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ. [تَفْرِيعُ الْغَزَالِيِّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ]
فَرَّعَ الْغَزَالِيُّ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فُرُوعًا:
مِنْهَا: لَوْ عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ بِالْعَادَةِ أَنَّهَا تَحِيضُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، أَوْ بِقَوْلِ نَبِيٍّ حَيْضًا أَوْ مَوْتًا أَوْ جُنُونًا، فَهَلْ يَلْزَمُهَا نِيَّةُ الصَّوْمِ حَتَّى تَصُومَ الْبَعْضَ؟
قَالَ: أَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ فَلَا يَنْبَغِي اللُّزُومُ، لِأَنَّ بَعْضَ الْيَوْمِ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ، وَهِيَ غَيْرُ مَأْمُورَةٍ بِالْكُلِّ، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُهُ، لِأَنَّ الْمُرَخِّصَ فِي الْإِفْطَارِ لَمْ يُوجَدْ وَالْأَمْرُ قَائِمٌ فِي الْحَالِ، وَالْمَيْسُورُ لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ. اهـ.
وَقَدْ نُوزِعَ فِي قَوْلِهِ: " وَالْأَمْرُ قَائِمٌ فِي الْحَالِ " بِقَوْلِهِ: فِي كِتَابِ النَّسْخِ: إنْ جَهِلَ الْمَأْمُورُ شَرْطَهُ فَكَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ قَائِمًا فِي الْحَالِ وَالْمُكَلَّفُ عَالِمٌ بِطَرَيَانِ الْحَيْضِ، وَالْآمِرُ وَالْمَأْمُورُ كِلَاهُمَا يَعْلَمَانِهِ؟
وَمِنْهَا: لَوْ قَالَ: إنْ صَلَّيْت أَوْ شَرَعْت فِي الصَّلَاةِ أَوْ فِي الصَّوْمِ فَزَوْجَتِي طَالِقٌ، ثُمَّ شَرَعَ ثُمَّ أَفْسَدَهَا أَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ فَفِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ خِلَافٌ يُلْتَفَتُ إلَى هَذَا الْأَصْلِ فَلَا يَحْنَثُ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَيَحْنَثُ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِنَا، وَكَذَا ذَكَرَ الْآمِدِيُّ هَذَا فَرْعًا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ. وَفِيهِ نَظَرٌ،
لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ وُجُودِ الْمَشْرُوطِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مِنْ فُرُوعِ هَذَا الْأَصْلِ بِتَقْدِيرِ أَنْ يَقُولَ: إنْ صُمْت يَوْمًا كَامِلًا مِنْ رَمَضَانَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ لَكِنَّهُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ لَا يَقَعُ لِتَخَلُّفِ الشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَمْ يَصُمْ يَوْمًا كَامِلًا.
وَمِنْهَا: لَوْ أَفْسَدَ يَوْمًا مِنْ رَمَضَانَ بِمَا يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ ثُمَّ مَاتَ أَوْ جُنَّ أَوْ حَاضَتْ فِي أَثْنَائِهِ سَقَطَتْ عَنْهُ عَلَى الْأَصَحِّ. لَا يُقَالُ: هَذَا يُخَالِفُ الْأَصْلَ الْمَذْكُورَ، فَإِنَّ السُّقُوطَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: يَحْتَمِلُ أَنْ يُقَالَ: وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ مِنْ خَصَائِصِ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ الَّذِي لَا يَتَعَرَّضُ الِانْقِطَاعُ فِيهِ.
وَمِنْهَا: لَوْ نَذَرَ الصِّيَامَ يَوْمَ قُدُومِ زَيْدٍ، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ غَدًا، فَنَوَى الصَّوْمَ مِنْ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَنْ نَذْرِهِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَلَمْ يَقُولُوا: إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَلْ اخْتَلَفُوا فِي الْإِجْزَاءِ، وَقِيَاسُ هَذَا الْأَصْلِ الْوُجُوبُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَزَالِيَّ يَقُولُ بِهِ كَالْحَائِضِ.
[التَّنْبِيهُ] الرَّابِعُ
اسْتَشْكَلَ الْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِحِكَايَتِهِمْ فِي مَسْأَلَةِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ الْإِجْمَاعَ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ، كَإِيمَانِ أَبِي لَهَبٍ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِمَا سَنَذْكُرُهُ هُنَاكَ أَنَّ الْخِلَافَ فِيهِمَا وَاحِدٌ ثُمَّ الصُّورَتَانِ مُتَغَايِرَتَانِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ مَعَ بُلُوغِ
الْمُكَلَّفِ حَالَةَ التَّمَكُّنِ، وَهُنَا فِيمَا إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَالَةَ التَّمَكُّنِ بِأَنْ يَمُوتَ قَبْلَ زَمَنِ الِامْتِثَالِ. وَأَيْضًا فَتِلْكَ فِي وُرُودِ التَّكْلِيفِ مُنَجَّزًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ جَاءَ مِنْ أَمْرٍ خَارِجٍ. وَمَأْخَذُ الْمَنْعِ فِيهَا تَكْلِيفُ الْمُحَالِ، وَهَذِهِ فِي الْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطٍ هَلْ يَتَحَقَّقُ مَعَهُ الْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ؟ وَمَأْخَذُ الْمَانِعِ فِيهَا عَدَمُ تَصَوُّرِ الشَّرْطِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْمُخَالِفِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقْصُرْ خِلَافَهُ عَلَى مَا عَلِمَ عَدَمَ وُقُوعِهِ بَلْ عَدَّاهُ إلَى مَا عَلِمَ وُقُوعَهُ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
[التَّنْبِيهُ] الْخَامِسُ
ظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّ تَصْوِيرَ الْمَسْأَلَةِ بِالْأَمْرِ الْمُقَيَّدِ بِشَرْطِ عِلْمِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهِ قَاصِرٌ، فَإِنَّ خِلَافَهُمْ لَا يَخُصُّ هَذِهِ الْحَالَةَ، وَإِنَّمَا خِلَافُهُمْ فِي أَنَّهُ هَلْ يَصِحُّ الْأَمْرُ بِشَرْطٍ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى أَمْ لَا؟
[التَّنْبِيهُ] السَّادِسُ
كُلُّ مَنْ مَنَعَ نَسْخَ الشَّيْءِ قَبْلَ حُضُورِ وَقْتِ الْعَمَلِ كَالْمُعْتَزِلَةِ فَإِنَّهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْفِعْلِ وَقْتَ وُجُوبِهِ شَرْطُ تَحَقُّقِ الْأَمْرِ.
قَالَ الْهِنْدِيُّ: وَهَذَا اللَّائِقُ بِأُصُولِهِمْ. قَالَ: وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَهُ كَمَذْهَبِ أَصْحَابِنَا، فَاخْتَلَفُوا فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِهِ وَذَهَبَ بَعْضٌ كَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيِّينَ مِنَّا وَمِنْ الْحَنَفِيَّةِ إلَى اشْتِرَاطِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ مُنَاقِضًا لِذَلِكَ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَشَدَّ مُلَاءَمَةً لَهُ.