المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة المحكم والمتشابه] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٢

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[خِطَابُ الْوَضْعِ]

- ‌ السَّبَبِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ لِلْأَسْبَابِ أَحْكَامٌ تُضَافُ إلَيْهَا]

- ‌[الْمَانِعُ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمَانِعِ]

- ‌[مَسْأَلَة الصِّحَّة وَالْفَسَادِ]

- ‌[الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاهِيَّاتِ مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثَوَابُ الصَّلَاةِ الْفَاسِدَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْإِجْزَاءُ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْفِعْلِ فِي سُقُوطِ الْأَمْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْجَائِزُ مَا وَافَقَ الشَّرِيعَةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يُقَابِلُ الصِّحَّةَ الْبُطْلَانُ]

- ‌[التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الرُّخْصَةُ وَالْعَزِيمَةُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي مَدْلُولِهِمَا]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي الرُّخْصَة مِنْ أَيِّ الْخِطَابَيْنِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ وَالْإِعَادَةُ]

- ‌[فَرْعٌ تَأْخِيرُ الْمَأْمُورِ بِهِ هَلْ يَكُونُ قَضَاءً]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَقَعُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَتَكُونُ أَدَاءً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْبَقَاءِ]

- ‌[التَّكْلِيفُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ حَسَنٌ فِي الْعُقُولِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْأَصْلَحِ]

- ‌ الْمُكَلَّفِ

- ‌[فَرْعٌ تَكْلِيفُ مَنْ أَحُيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ]

- ‌[فُرُوعٌ الِانْشِغَالُ عَنْ الصَّلَاةِ بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ]

- ‌[تَكْلِيف السَّكْرَان]

- ‌[التَّكْلِيفُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى قِسْمَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَعْدُومُ الَّذِي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُكَلَّفِ الْحُرِّيَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الذُّكُورِ فِي الْإِنَاثِ فِي الْخِطَابِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَكْلِيفُ الْجِنِّ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ]

- ‌[جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ]

- ‌[وُقُوعُ التَّكَلُّفِ بِالْمُحَالِ]

- ‌[التَّكْلِيفُ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ لَا يُشْتَرَطْ فِيهِ الْإِمْكَانُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ اسْتِحَالَةُ مُخَاطَبَةِ الْكَافِرِ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ عَلَى الصِّحَّةِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الثَّانِي هَلْ يُخَاطَبُ الْكَافِرُ بِالْفُرُوعِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ سُقُوط حَقّ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْكَافِر إذَا أَسْلَمَ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ السَّادِسُ حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ]

- ‌[التَّنْبِيه السَّابِعُ الْإِمْكَانَ الْمُشْتَرِطَ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا]

- ‌[التَّنْبِيهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قُرَبُ الْكُفَّارِ]

- ‌[جُنُونُ الْكَافِرِ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هَلْ يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهَا]

- ‌[تَقَدَّمَ الْأَمْرُ عَلَى وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الْكِتَابِ] [

- ‌تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْإِعْجَازُ فِي قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ]

- ‌[إنْزَالُ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[الْأَلْفَاظُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْمُهْمَلِ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا زَائِدَ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ]

- ‌[بَقَاءُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْبَسْمَلَةُ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ اللُّغَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُفْرَدَاتُ مَوْضُوعَةٌ]

- ‌[الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ]

- ‌[الْمَوْضُوعُ لَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَضْعُ اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ فِي مَعْنًى خَفِيٍّ جِدًّا]

- ‌[مَعْنَى التَّوْقِيفِ]

- ‌[الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ]

- ‌[فَائِدَةٌ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ]

- ‌[ثُبُوتُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ بِالِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْمُنَاسَبَةُ فِي الْوَضْعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ تَقْسِيمُ الدَّلَالَةِ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ]

- ‌[أَقْسَامُ اللَّازِمِ]

- ‌[الْمُلَازَمَةُ الذِّهْنِيَّةُ شَرْطٌ فِي الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَفْظِيَّةٌ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ التَّضَمُّنِ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ]

- ‌[دَلَالَةُ الِاسْتِدْعَاءِ]

- ‌[انْقِسَامُ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ]

- ‌[الْكُلِّيُّ وَالْجُزْئِيُّ]

- ‌[الطَّبِيعِيُّ وَالْمَنْطِقِيُّ وَالْعَقْلِيُّ]

- ‌[الْفَرْقُ بَيْنَ الْكُلِّيِّ وَالْكُلِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْكُلِّيِّ]

- ‌[الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ وَالذَّاتِيِّ]

- ‌[الْجُزْئِيُّ]

- ‌[الْفَرْقُ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الشَّخْصِ وَاسْمِ الْجِنْس]

- ‌[فَصْلٌ فِي نِسْبَةِ الْأَسْمَاءِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ]

- ‌[تَقْسِيمُ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى]

- ‌[خَاتِمَةٌ فِي أَمْرَيْنِ يَتَعَيَّنُ الِاهْتِمَامُ بِهِمَا]

- ‌[مَبَاحِثُ الِاشْتِقَاقِ]

- ‌[حَدّ الِاشْتِقَاق]

- ‌[فَائِدَةُ الِاشْتِقَاق]

- ‌[تَقْسِيم الِاشْتِقَاق]

- ‌[أَرْكَان الِاشْتِقَاق]

- ‌[أَقْسَام الِاشْتِقَاق]

- ‌[مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْمَصَادِرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاشْتِقَاقُ مِنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالشَّيْءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ التَّرَادُفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ تَرَادُفٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي سَبَبِ التَّرَادُفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّرَادُفُ خِلَافُ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اللُّغَاتُ مَا عَدَا الْعَرَبِيَّةَ سَوَاءٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَرَادُفُ الْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْإِتْبَاعُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّأْكِيدُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ]

- ‌[هَلْ التَّأْكِيدُ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ]

- ‌[مَسْأَلَةُ التَّأْكِيدُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ]

- ‌[أَقْسَامُ التَّأْكِيدِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي حَقِيقَةِ وُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ خِلَافُ الْغَالِبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ لَهُ مَفْهُومَانِ فَصَاعِدًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَجَرُّدُ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْقَرِينَةِ]

- ‌[اقْتِرَانُ الْقَرِينَةِ بِالْمُشْتَرَكِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرَك بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ]

- ‌[تَنْبِيه الْخِلَافَ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ]

- ‌[اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ]

الفصل: ‌[مسألة المحكم والمتشابه]

عَلَى الطَّرِيقَةِ النَّحْوِيَّةِ، وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إلَى وُجُودِهَا فِيهِ، وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ فِي ذَيْلِ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ.

مَسْأَلَةٌ

فِي الْقُرْآنِ الْمَجَازُ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ، وَأَبِي بَكْرِ بْنِ دَاوُد الظَّاهِرِيِّ. وَسَيَأْتِي أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

[مَسْأَلَةٌ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ]

ُ] فِي الْقُرْآنِ مُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] وَقَدْ يُوصَفُ جَمِيعُ الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ مُتَشَابِهٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ مُتَمَاثِلٌ فِي الدَّلَالَةِ وَالْإِعْجَازِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، وَقَدْ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُحْكَمٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ أُحْكِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ فِيهِ تَفَاوُتٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وَالْمُحْكَمُ إمَّا بِمَعْنَى الْمُتْقَنِ كَقَوْلِهِ: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ مُحْكَمٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِمَّا فِي مُقَابَلَةِ الْمُتَشَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] . وَاخْتَلَفَ فِيهِ بِهَذَا الْمَعْنَى عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ مُنْتَشِرَةٍ.

ص: 188

أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَا خَلَصَ لَفْظُهُ مِنْ الِاشْتِرَاكِ وَلَمْ يَشْتَبِهْ بِغَيْرِهِ، وَعَكْسُهُ الْمُتَشَابِهُ. الثَّانِي: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اتَّصَلَتْ حُرُوفُهُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا انْفَصَلَتْ، كَالْحُرُوفِ الْمُتَقَطِّعَةِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَهُوَ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْكَلِمَةَ قَدْ تَتَّصِلُ وَلَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا، وَتَتَرَدَّدُ بَيْنَ احْتِمَالَاتٍ وَتُعَدُّ مُتَشَابِهَةً. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا تَوَعَّدَ بِهِ الْفُسَّاقُ، وَالْمُتَشَابِهُ مَا أَخْفَى عِقَابَهُ، وَقَدْ حَرَّمَهُ كَالْكِذْبَةِ وَالنَّظْرَةِ. حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ وَاصِلَ بْنَ عَطَاءٍ وَغَيْرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى عَنْهُ أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الْوَعِيدُ عَلَى الْكَبَائِرِ وَالْمُتَشَابِهَ عَلَى الصَّغَائِرِ، وَنَسَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ أَيْضًا. الرَّابِعُ: أَنَّهُ مَا احْتَجَّ بِهِ عَلَى الْكُفَّارِ حَكَاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْأَصَمِّ. الْخَامِسُ: أَنَّهُ الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ فِي الْأَحْكَامِ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْقَصَصُ وَسِيَرُ الْأَوَّلِينَ، لِأَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اُسْتُفِيدَ الْحُكْمُ مِنْهُ، وَالْمُتَشَابِهَ مَا لَا يُفِيدُ حُكْمًا. حَكَاهُ الْإِمَامُ فِي " التَّلْخِيصِ " قَالَ: وَاللُّغَةُ لَا تَشْهَدُ لِذَلِكَ السَّادِسُ: أَنَّهُ نَعْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي التَّوْرَاةِ وَالْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَالْمُتَشَابِهُ نَعْتُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَنُسِبَ لِلْأَصَمِّ. السَّابِعُ: أَنَّهُ النَّاسِخُ، وَالْمُتَشَابِهُ: الْمَنْسُوخُ. وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَنْسُوخَ لَا يُسْتَفَادُ مِنْهُ حُكْمٌ، وَلَفْظُ النَّسْخِ فِيهِ إجْمَالٌ، فَكَأَنَّهُمْ أَرَادُوا قَوْله تَعَالَى:{فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ مُحْكَمٌ. الثَّامِنُ: الْمُتَشَابِهُ: آيَاتُ الْقِيَامَةِ، وَالْبَاقِي مُحْكَمٌ قَالَهُ الزَّجَّاجُ إذَا لَمْ يَنْكَشِفْ الْغِطَاءُ عَنْهَا بِدَلِيلٍ قَوْله تَعَالَى:{فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] وَكَانُوا لَا يَتَّبِعُونَ إلَّا أَمْرَ السَّاعَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى:

ص: 189

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187] التَّاسِعُ: أَنَّ الْمُتَشَابِهَ مَا عَسُرَ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ كَآيَةِ الِاسْتِوَاءِ. قَالَ فِي الْمَنْخُولِ: وَإِلَيْهِ مَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. الْعَاشِرُ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ التَّأْوِيلِ إلَّا وَجْهًا وَاحِدًا، وَالْمُتَشَابِهُ مَا احْتَمَلَ أَوْجُهًا، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَجَرَى عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: الْمُحْكَمُ مَا كَانَتْ مَعَانِي أَحْكَامِهِ مَعْقُولَةً بِخِلَافِ الْمُتَشَابِهِ، كَأَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، وَاخْتِصَاصِ الصِّيَامِ بِرَمَضَانَ دُونَ شَعْبَانَ. الْحَادِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا اسْتَقَلَّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى بَيَانٍ، وَحَكَاهُ الْقَاضِي مِنْ الْحَنَابِلَةِ عَنْ الْإِمَامِ أَحْمَدَ. قَالَ: وَالْمُتَشَابِهُ هُوَ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ، فَتَارَةً يُبَيَّنُ بِكَذَا وَتَارَةً بِكَذَا، لِحُصُولِ الِاخْتِلَافِ فِي تَأْوِيلِهِ. قَالَ: وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] لِأَنَّ الْقُرْءَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ، وَقَوْلُهُ:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] قَالَ: وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. قُلْت: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ الْأَوَّلِ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: أَنَّ الْمُحْكَمَ مَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ الْمُرَادِ بِظَاهِرِهِ أَوْ بِدَلَالَةٍ

ص: 190

تَكْشِفُ عَنْهُ، وَالْمُتَشَابِهُ: مَا لَا يُعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَنَا. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ: إنَّهُ أَحْسَنُ الْأَقَاوِيلِ، وَهُوَ الْمُخْتَارُ عَلَى طَرِيقَةِ السُّنَّةِ. قَالَ: وَعَلَى هَذَا فَالْوَقْفُ التَّامُّ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وَأَمَّا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " التَّلْخِيصِ " فَقَالَ: هُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللُّغَةَ لَا تُسَاعِدُهُ عَلَى ذَلِكَ، وَرُبَّ كَلَامٍ يُفْهَمُ مَعْنَاهُ وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ. قَالَ: وَالسَّدِيدُ أَنْ يُقَالَ: الْمُحْكَمُ: السَّدِيدُ النَّظْمِ وَالتَّرْتِيبِ الَّذِي يُفْضِي إلَى إثَارَةِ الْمَعَانِي، الْمُسْتَقِيمُ مِنْ غَيْرِ مُنَافٍ. وَالْمُتَشَابِهُ: هُوَ الَّذِي لَا يُحِيطُ الْعِلْمَ بِالْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ مِنْهُ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ إلَّا أَنْ تَقْتَرِنَ أَمَارَةٌ أَوْ قَرِينَةٌ، وَيَنْدَرِجُ تَحْتَهُ الْمُشْتَرَكُ كَالْقُرْءِ. وَاخْتَارَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: أَنَّ الْمُحْكَمَ هُوَ الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ إشْكَالٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِحْكَامِ، وَهُوَ الْإِتْقَانُ، وَالْمُتَشَابِهُ نَقِيضُهُ، فَيَدْخُلُ فِي الْمُحْكَمِ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ، وَفِي الْمُتَشَابِهِ الْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ كَالْقُرْءِ وَاللَّمْسِ وَمَا يُوهِمُ التَّشْبِيهَ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ: وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْحُرُوفُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، إذْ لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً بِاصْطِلَاحٍ سَابِقٍ، فَتُوهِمُ الْإِشْكَالَ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِيهَا تَوْقِيفٌ فَيُتَّبَعُ، بَلْ نَقُولُ فِيهَا: كَمَا قَالَ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: إنَّهَا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.

وَمَقْصُودُ هَذَا الْبَحْثِ: أَنَّ مُحْكَمَ الْقُرْآنِ يُعْمَلُ بِهِ وَالْمُتَشَابِهُ يُؤْمَنُ بِهِ وَيُوقَفُ فِي تَأْوِيلِهِ إنْ لَمْ يُعِبْهُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ.

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ: اخْتَلَفُوا فِي إدْرَاكِ عِلْمِ الْمُتَشَابِهِ، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ كَالْحَارِثِ وَالْقَلَانِسِيِّ: إنَّهُ لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا

ص: 191

اللَّهُ، وَوَقَفُوا عَلَى قَوْلِهِ {إلَّا اللَّهُ} وَذَهَبَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَالْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي جُمْلَةِ الرَّاسِخِينَ مَنْ يَعْلَمُ الْمُتَشَابِهَ، وَوَقَفُوا عَلَى قَوْلِهِ:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] قَالَ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدَنَا، لِأَنَّهُ قَوْلُ الصَّحَابَةِ، مِثْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنِ كَعْبٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ، وَالْأَصْمَعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ يَحْيَى النَّحْوِيِّ، وَبِهِ نَقُولُ.

قَالَ: وَتَدْخُلُ الْحُرُوفُ الْمُقَطَّعَةُ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي الْمُتَشَابِهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ. وَأَقْوَالُ الْمُتَأَوِّلِينَ لَهَا مُتَعَارِضَةٌ لَيْسَ بَعْضُهَا أَوْلَى مِنْ بَعْضٍ اهـ.

وَحَكَى الْخِلَافَ أَيْضًا أُسْتَاذُهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ، ثُمَّ قَالَ: وَلَا يَجْرِي هَذَا الْخِلَافُ فِي أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، إذْ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا وَعُرِفَ بَيَانُهُ وَلَيْسَ فِي السُّنَّةِ مَا يُشَاكِلُهُ. وَمَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ حَكَاهُ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ الْأَكْثَرِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَالنَّحْوِيِّينَ وَأَيَّدَهُ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" إنْ تَأْوِيلُهُ إلَّا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ ".

وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: انْتَهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ إلَى أَنْ قَالُوا: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا.

قَالَ الْبَغَوِيّ: وَهَذَا الْقَوْلُ أَحْسَنُ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَأَشْبَهَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ. اهـ، وَقَطَعَ بِهِ الزُّبَيْرِيُّ مِنْ كِبَارِ أَئِمَّتِنَا فِي أَوَّلِ كِتَابِهِ " الْمُسْكِتِ "، فَقَالَ: دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْئًا غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهِ لِيُلْزِمَهُمْ النَّقْصَ فِي أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مِنْ الْأَمْرِ إلَّا مَا قَدَّرَ اللَّهُ لَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255] انْتَهَى.

ص: 192

وَرَجَّحَ الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيُّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ، وَقَالَ: لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ شَيْءٌ اسْتَأْثَرَهُ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، بَلْ وَقَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْرَدَ هَذَا مَدْحًا لِلْعُلَمَاءِ فَلَوْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَ مَعْنَاهُ لَشَارَكُوا الْعَامَّةَ وَبَطَلَ مَدْحُهُمْ وَكَذَلِكَ صَحَّحَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] قَالَ: فَأَخْبَرَ أَنَّ الْكِتَابَ كُلَّهُ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ وَبُيِّنَتْ، وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«وَبَيْنَهُمَا مُتَشَابِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّاسِ يَعْلَمُهَا وَهُمْ الرَّاسِخُونَ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَالظَّاهِرُ الْوَقْفُ عَلَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] ، لِأَنَّ الْخِطَابَ بِمَا لَا يُفْهَمُ بَعِيدٌ.

قُلْت: وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الْمَعَالِي شَيَّدَ لَهُ فِي كِتَابِ " الْبُرْهَانِ " عَنْ أَكْثَرِ الْقُرَّاءِ وَالنُّحَاةِ، وَاخْتَارَهُ.

قَالَ: وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَهَذَا عَكْسُ حِكَايَةِ الْأُسْتَاذِ وَالْبَغَوِيِّ لَكِنْ حَكَاهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَنْ شِرْذِمَةٍ قَلِيلَةٍ قَالَ: وَاخْتَارَهُ الْعَيْنِيُّ قَالَ: وَقَدْ كَانَ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ السُّنَّةِ لَكِنَّهُ سَهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَالَ: وَلَا غَرْوَ فَلِكُلِّ جَوَادٍ كَبْوَةٌ، وَلِكُلِّ عَالِمٍ هَفْوَةٌ. قَالَ: وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَلَا أَعْلَمُ تَحَقُّقَهُ.

وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي كَلَامِهِ عَلَى مَعَانِي الْحُرُوفِ: الْوَقْفُ التَّامُّ عَلَى قَوْلِهِ: " إلَّا اللَّهُ " ثُمَّ ابْتَدَأَ بِالرَّاسِخِينَ، وَتَوَسَّطَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فَقَالَ فِي آخِرِ كِتَابِهِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ: الْقَوْلَانِ مُحْتَمِلَانِ وَلَا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُتَشَابِهِ مَا لَا يَعْلَمُ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ مِنْهُ الْإِيمَانَ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ:

ص: 193

وَقَفَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى قَوْلِهِ: " إلَّا اللَّهُ "، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ غَرَضِ الْأُصُولِيِّ، وَغَرَضُنَا أَنَّ التَّشَابُهَ فِي الْآيَاتِ الْمُتَضَمَّنَةِ لِلتَّكْلِيفِ مُحَالٌ، وَيُبَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ رَسْمُ الْمَسْأَلَةِ فِي آيَةِ الِاسْتِوَاءِ

قَالَ مَالِكٌ: لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.

وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: يُفْهَمُ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] وَقَدْ تَحَزَّبَ النَّاسُ فِيهِ، فَضَلَّ قَوْمٌ أَجْرَوْهُ عَلَى الظَّاهِرِ، وَفَازَ مَنْ قَطَعَ بِنَفْيِ الِاسْتِقْرَارِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ فِي مُجْمَلِهِ وَرَآهُ فَلَا يُعَابُ عَلَيْهِ.

قَالَ: وَتَكْلِيفُ تَعْلِيمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَفْيِ الِاسْتِقْرَارِ لَا نَرَاهُ وَاجِبًا عَلَى الْآحَادِ بَلْ يَجِبُ عَلَى شَخْصٍ فِي كُلِّ إقْلِيمٍ أَنْ يَقُومَ لِيَدْفَعَ الْبِدَعَ إذَا ثَارَتْ. انْتَهَى.

وَقِيلَ: الرَّاسِخُونَ يَعْلَمُونَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ يَعْلَمُ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَبِهَذَا يَصِحُّ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا وَلَا يَتَنَافَيَانِ، وَهُوَ الَّذِي يُعَضِّدُهُ الدَّلِيلُ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ قَدْ خَاضُوا فِي التَّأْوِيلِ.

وَالْمُخْتَارُ الْوَقْفُ عَلَى {إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] لِوُجُوهٍ.

أَحَدُهَا: أَنَّهُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ بَلْ لَمْ يَذْهَبْ إلَى الْوَقْفِ عَلَى {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] إلَّا شِرْذِمَةٌ قَلِيلَةٌ مِنْ النَّاسِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ.

ص: 194

الثَّانِي: أَنَّ " أَمَّا " فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لِتَفْصِيلِ الْمُجْمَلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُذْكَرَ فِي سِيَاقِهِ قِسْمَانِ: إمَّا لَفْظًا، وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَإِمَّا تَقْدِيرًا، وَسَبَبُهُ إمَّا الِاسْتِغْنَاءُ بِذِكْرِ أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص: 67] وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَ الْآخَرَ لِدَلَالَةِ الْمَذْكُورِ عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يَعْمَلْ صَالِحًا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُفْلِحِينَ، وَإِمَّا بِكَلَامٍ يُذْكَرُ بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ ذَلِكَ كَهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7] فَهَذَا تَمَامُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ الْمَذْكُورِ فِي سِيَاقِ " أَمَّا " فَاقْتَضَى وَضْعُ اللُّغَةِ ذِكْرَ قِسْمٍ آخَرَ فَكَانَ تَقْدِيرُهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَكِلُونَ مَعْنَاهُ إلَى رَبِّهِمْ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] أَيْ مِنْ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِمَا وَاجِبٌ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَيَقُولُونَ وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ:{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا} [البقرة: 26] .

الثَّالِثُ: أَنَّهُ الْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: " وَالرَّاسِخُونَ " وَإِنْ احْتَمَلَتْ أَنْ تَكُونَ غَيْرَ عَاطِفَةٍ غَيْرَ أَنَّهَا هَاهُنَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الْعَطْفَ، لَقَالَ:" وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ " عَطْفًا لَيَقُولُونَ عَلَى يَعْلَمُونَ الْمُضْمَرِ، إذْ التَّقْدِيرُ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَعْمَلُونَ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّ " يَقُولُونَ " جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مَعَ إضْمَارِ فِعْلِهَا الْعَامِلِ فِيهَا، فَلَوْ جَازَ هَذَا لَجَازَ " عَبْدُ اللَّهِ رَاكِبًا " بِمَعْنَى أَقْبَلَ، وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَالرَّاسِخُونَ قَائِلُونَ بِتَقْدِيرِ يَعْلَمُونَهُ قَائِلِينَ.

ص: 195

الثَّانِي: مَا رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ " عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَؤُهَا " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ آمَنَّا بِهِ " فَهَذِهِ الْقِرَاءَةُ مُبَيِّنَةُ إجْمَالِ الْوَاوِ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّهَا اسْتِئْنَافِيَّةٌ لَا عَاطِفَةٌ، ثُمَّ إنْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَمِعَهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَهِيَ تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلْآيَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ مُرَجَّحٌ، لِأَنَّهَا قَوْلُ صَحَابِيٍّ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ.

الثَّالِثُ: فِي تَرْجِيحِ كَوْنِهَا اسْتِئْنَافِيَّةً أَنَّ بِتَقْدِيرِ ذَلِكَ تَكُونُ الْجُمْلَةُ حَالًا، وَالْحَالُ فَضْلَةٌ خَارِجَةٌ عَنْ رُكْنِ الْجُمْلَةِ، وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ رُكْنًا أَقْوَى مِنْ كَوْنِهَا فَضْلَةً، وَإِذَا دَارَ أَمْرُ اللَّفْظَةِ بَيْنَ أَقْوَى الْحَالَيْنِ وَأَضْعَفِهِمَا كَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقْوَى أَوْلَى.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْآيَةَ دَلَّتْ عَلَى ذَمِّ مُبْتَغِي الْمُتَشَابِهِ، إذْ وُصِفُوا بِزَيْغِ الْقُلُوبِ وَابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ، وَقَدْ صَرَّحَتْ السُّنَّةُ بِذَمِّهِمْ فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا:«إذَا رَأَيْتُمْ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ» .

الْخَامِسُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] يَدُلُّ عَلَى تَفْوِيضٍ وَتَسْلِيمٍ لِمَا لَمْ يَقِفُوا عَلَى حَقِيقَةِ الْمُرَادِ بِهِ، وَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ الَّذِي مَدَحَ اللَّهُ أَهْلَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي التَّسْلِيمِ لِمُرَادِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنَافِي فَهْمَهُمْ الْمُرَادَ بِهِ.

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ: إنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ بِأَنَّ تَسْمِيَتَهُمْ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَقْتَضِي عِلْمَهُمْ بِتَأْوِيلِ الْمُتَشَابِهِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فَضِيلَةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، نَعَمْ مِنْ الْمُتَشَابِهِ مَا يَعْلَمُ الرَّاسِخُونَ مِنْهُ، وَمِنْهُ مَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَالرُّوحِ وَوَقْتِ السَّاعَةِ.

ص: 196