الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الرَّافِعِيُّ: هَكَذَا ذَكَرُوهُ، وَفِيهِ إشْكَالٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْصِيَةِ الْغَافِلِ وَالسَّاهِي، ثُمَّ قِيَاسُهُ الطَّرْدُ فِي شُغْلِ النَّفْسِ بِسَائِرِ الْمُبَاحَاتِ. قُلْت: وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ نِسْيَانَ الْعِبَادَةِ لِسَبَبِ الشَّهْوَةِ لَا يُسْقِطُ التَّكْلِيفَ فَلَا يَرِدُ إشْكَالُ الرَّافِعِيِّ.
[تَكْلِيف السَّكْرَان]
تَنْبِيهٌ [السَّكْرَانُ]
السَّكْرَانُ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ لَيْسَ بِمُكَلَّفٍ مِنْهُمْ الْقَاضِي فِي التَّقْرِيبِ " وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ " وَالْغَزَالِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْوَجِيزِ " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ فِي الْأَسَالِيبِ ": السَّكْرَانُ عِنْدَنَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِيلُ تَوَجُّهُ الْخِطَابِ عَلَى مَنْ لَا يَتَصَوَّرُ، وَلَكِنْ غُلِّظَ الْأَمْرُ فِي سُكْرِهِ رَدْعًا وَمَنْعًا، فَأُلْحِقَ بِالصَّاحِي. مِمَّنْ قَالَ: إنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ مُجَلِّي فِي الذَّخَائِرِ "، وَقَالَ: إنَّهُ الصَّحِيحُ مِنْ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَإِنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي الرَّوْضَةِ " عَنْ أَصْحَابِنَا الْأُصُولِيِّينَ. قَالَ: وَمُرَادُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ حَالَةَ السُّكْرِ، وَمُرَادُنَا أَنَّهُ مُكَلَّفٌ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ.
قُلْت: وَالصَّحِيحُ: أَنَّ السَّكْرَانَ الْمُعْتَدِيَ بِسُكْرِهِ مُكَلَّفٌ مَأْثُومٌ.
هَذَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ " فَقَالَ: وَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ نَبِيذًا فَأَسْكَرَهُ فَطَلَّقَ لَزِمَهُ الطَّلَاقُ وَالْحُدُودُ كُلُّهَا وَالْفَرَائِضُ، وَلَا تُسْقِطُ الْمَعْصِيَةُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ، وَالْمَعْصِيَةُ بِالسُّكْرِ مِنْ النَّبِيذِ عَنْهُ فَرْضًا وَلَا طَلَاقًا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَهَذَا مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ، وَالْمَرِيضُ وَالْمَجْنُونُ مَغْلُوبٌ عَلَى عَقْلِهِ. قِيلَ: الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ وَمُكَفَّرٌ عَنْهُ بِالْمَرَضِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ.
وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ عَلَى السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ، فَكَيْفَ يُقَاسُ مَنْ عَلَيْهِ الْعِقَابُ بِمَنْ لَهُ الثَّوَابُ؟ وَالصَّلَاةُ مَرْفُوعَةٌ عَنْ مَنْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ وَلَا تُرْفَعُ عَنْ السَّكْرَانِ، وَكَذَلِكَ الْفَرَائِضُ مِنْ حَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. اهـ.
وَلِهَذَا قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ مُكَلَّفٌ وَنُسِبَ مُقَابِلُهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَلِهَذَا صَحَّحَ الشَّافِعِيُّ تَصَرُّفَاتِهِ، وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ فِيمَا نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِقَوْلِهِ:«رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ» . قَالَ: وَالسَّكْرَانُ لَيْسَ فِي مَعْنَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ ". الْمَرِيضُ مَأْجُورٌ مُكَفَّرٌ عَنْهُ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ إذَا ذَهَبَ عَقْلُهُ، وَهَذَا آثِمٌ مَضْرُوبٌ عَلَى السُّكْرِ غَيْرُ مَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ. اهـ.
قِيلَ: وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ مَضْرُوبٌ عَلَى السُّكْرِ ": فِيهِ تَجَوُّزٌ إنَّمَا هُوَ عَلَى الشُّرْبِ سَكِرَ أَمْ لَمْ يَسْكَرْ، لَكِنَّهُ يُرِيدُ عَلَى سَبَبِ السُّكْرِ.
وَقَدْ اسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى تَكْلِيفِهِ مَعَ إخْرَاجِ الْأُصُولِيِّينَ لَهُ عَنْ ذَلِكَ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ مَنْ لَا يَفْهَمُ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ: بَلْ السَّكْرَانُ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ النَّائِمِ الَّذِي يُمْكِنُهُ تَنْبِيهُهُ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ قَوْلًا ثَالِثًا مُفَصِّلًا بَيْنَ السَّكْرَانِ وَغَيْرِهِ لِلتَّغْلِيظِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَقْرَبُ، أَوْ يُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَى السَّكْرَانِ الَّذِي يَنْتَقِلُ عَنْ رُتْبَةِ التَّمْيِيزِ دُونَ الطَّافِحِ الْمُغْشَى عَلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ الْغَافِلِ مُطْلَقًا، فَقَدْرُهُ رضي الله عنه يَجُلُّ عَنْ ذَلِكَ. قُلْت: وَبِالثَّانِي صَرَّحَ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَالْأَقْرَبُ احْتِمَالٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّكْلِيفَ فِي حَقِّهِ مُسْتَصْحَبٌ لَا وَاقِعٌ وُقُوعًا مُبْتَدَأً كَمَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْخَارِجِ مِنْ الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ: إنَّهُ مُرْتَبِكٌ فِي الْمَعْصِيَةِ.
الْقَائِلُونَ بِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ اخْتَلَفُوا فِي الْجَوَابِ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ الْتِزَامِهِ بِقَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَصِحَّةِ التَّصَرُّفَاتِ، فَقِيلَ: لَا دَلَالَةَ دَالَّةٌ عَلَى ثُبُوتِهَا فِي حَقِّهِ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ.
وَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: لَمَّا كَانَ سُكْرُهُ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي
دَعْوَى السُّكْرِ لِفِسْقِهِ أَلْزَمْنَاهُ حُكْمَ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَطَرَدْنَا مَا لَزِمَهُ فِي حَالِ الْيَقِظَةِ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: إلْزَامُنَا لَهُ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ وَلَا يَسْتَحِيلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ يَعْنِي أَنَّهُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ.
وَأَنْكَرَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ ذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، فَإِنَّ خِطَابَ الْوَضْعِ لَا يَقْتَضِي قَتْلًا وَلَا إيقَاعَ طَلَاقٍ وَلَا إلْزَامَ حَدٍّ، وَكَوْنُ الزِّنَا جُعِلَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْحَدِّ عَلَى الزَّانِي لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ. قُلْت: الطَّلَاقُ مِمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْخِطَابَانِ، لِأَنَّهُ إمَّا مُبَاحٌ أَوْ مَكْرُوهٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِلتَّحْرِيمِ، فَيَكُونُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَكَذَلِكَ الْقَتْلُ هُوَ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ سَبَبًا لِمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ، وَثُبُوتُ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ خِطَابُ وَضْعٍ فَقَطْ لَا تَكْلِيفٌ. حَقُّهُ كَمَا فِي الْإِرْثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ الشَّاشِيُّ فِي مَحَاسِنِ الشَّرِيعَةِ ": اُخْتُلِفَ فِي السَّكْرَانِ، فَقِيلَ: لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ، لِزَوَالِ عَقْلِهِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ طَلَاقُهُ، لِأَنَّهُ فِي الشَّرِيعَةِ مُخَاطَبٌ مُكَلَّفٌ تَلْزَمُهُ الْأَحْكَامُ فِي حَالِ سُكْرِهِ إذَا كَانَ زَوَالُ عَقْلِهِ بِأَمْرٍ عَصَى اللَّهَ فِيهِ، فَعُوقِبَ بِأَنْ أُلْحِقَ بِالْمُكَلَّفِينَ رَدْعًا لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ.
قَالَ: وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ جَائِزٌ مُحْتَمَلٌ لِوُرُودِ الشَّرِيعَةِ بِهِمَا. اهـ. قُلْت: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الْمُنْتَهِي إلَى مَا لَا يَعْقِلُ أَلْبَتَّةَ، وَبِذَلِكَ صَرَّحَ أَبُو خَلَفٍ الطَّبَرِيُّ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ شَرْحِ الْمِفْتَاحِ "، فَقَالَ: قُلْت: وَاَلَّذِي يَجِبُ أَنْ يُقَالَ فِي تَصَرُّفِ السَّكْرَانِ: إنَّ السَّكْرَانَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَعْقِلُ مَا يَقُولُ: فَهَذَا مُخَاطَبٌ وَتَصِحُّ جَمِيعُ تَصَرُّفَاتِهِ،
وَالثَّانِي: لَا يَعْقِلُ مَا يَقُولُ، وَقَدْ زَالَ عَقْلُهُ وَذَهَبَ حِسُّهُ بِالْكُلِّيَّةِ، فَهَذَا غَيْرُ مُخَاطَبٍ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ، وَلَا حُكْمَ لِكَلَامِهِ، وَهَذَا أَدْوَنُ حَالَةً مِنْ الْمَجْنُونِ هَذَا هُوَ اخْتِيَارِي. انْتَهَى كَلَامُهُ.
وَهَذَا هُوَ قَضِيَّةُ كَلَامِ الْإِمَامِ فِي النِّهَايَةِ "، وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ إذَا انْتَهَى إلَى حَالَةِ النَّائِمِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِإِلْحَاقِهِ بِهِمَا.
قَالَ: وَأَبْعَدَ مَنْ أَجْرَاهُ عَلَى الْخِلَافِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْمَحْصُولِ " الْخِلَافُ فِي الْمُلْتَجِّ أَمَّا الْمُنْتَشِي، فَمُكَلَّفٌ إجْمَاعًا. قُلْت: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُهُمْ عَنْ الْآيَةِ، وَمِمَّنْ أَطْلَقَ تَكْلِيفَ السَّكْرَانِ شَيْخَا الْمَذْهَبِ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَفَّالُ، وَنَقَلَاهُ عَنْ الْمَذْهَبِ، وَجَزَمَ بِهِ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي فَتَاوِيهِ " وَالْبَغَوِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَأَبُو الْفَضْلِ بْنُ عَبْدَانَ فِي كِتَابِ الْأَذَانِ مِنْ شَرَائِطِ الْأَحْكَامِ " وَجَزَمَ بِهِ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَنَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " عَنْ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، ثُمَّ نَقَلَ الْمَنْعَ عَنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنَّا وَمِنْ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: قَالَ أَبِي: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَجَدْت السَّكْرَانَ لَيْسَ بِمَرْفُوعٍ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَكَانَ أَبِي يُعْجِبُهُ هَذَا وَيَذْهَبُ إلَيْهِ. اهـ.
وَأَطَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي التَّقْرِيبِ " عَدَمَ تَكْلِيفِهِ، ثُمَّ قَالَ مَا حَاصِلُهُ: إنَّهُ مُكَلَّفٌ لَكِنْ بَعْدَ السُّكْرِ بِمَا كَانَ فِي السُّكْرِ، وَهَذَا الْكَلَامُ مَجْمَعُ مَذَاهِبِ الْفَرِيقَيْنِ.
وَصَرَّحَ الْإِمَامُ فِي الْبُرْهَانِ " بِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ مَعَ تَقْرِيرِهِ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ مُؤَاخَذَتَهُ الْمُصَرِّحَةُ بِالتَّكْلِيفِ، وَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِمَا سَبَقَ. وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: هُوَ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْنَعُ تَوَجُّهَ الْخِطَابِ إلَيْهِ، أَمَّا ثُبُوتُ الْأَحْكَامِ فِي حَقِّهِ، وَتَنْفِيذُ بَعْضِ أَقْوَالِهِ فَلَا يُمْنَعُ. قَالَ: وَهَذَا مُطَّرِدٌ فِي تَكَالِيفِ النَّاسِي فِي اسْتِمْرَارِ نِسْيَانِهِ، إذْ لَوْ كَانَ مِمَّنْ فَهِمَ الْخِطَابَ، لَكَانَ مُتَذَكِّرًا لَا نَاسِيًا، قَالَ: وَلَعَلَّ مَنْ قَالَ بِتَكْلِيفِهِ بَنَاهُ عَلَى جَوَازِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ.
وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: الظَّاهِرُ عِنْدَنَا تَكْلِيفُ السَّكْرَانِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: التَّكْلِيفُ بِمَعْنَى إيجَابِ الْقَضَاءِ عَامٌّ فِي النَّاسِي وَالنَّائِمِ وَالسَّكْرَانِ، وَبِمَعْنَى عَدَمِ الْخِطَابِ حَاصِلٌ فِي النَّائِمِ وَالنَّاسِي. وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَعِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ يُلْحَقُ بِهِمَا، وَعِنْدَنَا بِخِلَافِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ
أَنَّهُ مُخَاطَبٌ حَالَةَ السُّكْرِ، وَكَذَلِكَ الْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ عَبْدَانَ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِتَكْلِيفِ السَّكْرَانِ بِاعْتِبَارِ تَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ لَا إشْكَالَ فِيهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَقَدْ يُدْخِلُونَهُ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ كَمَا أَدْخَلَتْهُ طَائِفَةٌ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ.
وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْإِثْمِ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهُ حَالَ السُّكْرِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ نَشَاطٌ فَوَاضِحٌ، وَإِنْ كَانَ طَافِحًا أَوْ مُخْتَلِطًا فَمَحَلُّ نَظَرٍ. وَلَعَلَّ الْفُقَهَاءَ لَا يَرَوْنَ الْإِثْمَ، أَوْ لَعَلَّهُمْ يُرِيدُونَ الطَّافِحَ، وَالْأُصُولِيُّونَ يُرِيدُونَ الْمُخْتَلِطَ، فَإِنَّ التَّكْلِيفَ فِيهِمَا تَكْلِيفٌ مَعَ الْغَفْلَةِ.
[الشَّرْطُ] السَّادِسُ الِاخْتِيَارُ
فَيُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُلْجَأِ، وَهُوَ مَنْ لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عَنْ الْفِعْلِ مَعَ حُضُورِ عَقْلِهِ كَمَنْ يُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ فَهُوَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْوُقُوعِ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ فِيهِ، وَلَا هُوَ بِفَاعِلٍ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ آلَةٌ مَحْضَةٌ كَالسِّكِّينِ فِي يَدِ الْقَاطِعِ، وَحَرَكَةٌ كَحَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَمِثْلُهُ الْمُضْطَرُّ.
وَاتَّفَقَ أَئِمَّتُنَا عَلَى أَنَّ الْمُضْطَرَّ إلَى فِعْلٍ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي اُضْطُرَّ إلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ فَوْقَ الْمُلْجَأِ، وَعِنْدَنَا مِثْلُهُ، كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقِيَ عَلَى شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ لَكِنَّ الْفُقَهَاءَ صَرَّحُوا بِتَكْلِيفِهِ، فَقَالُوا: الْمُضْطَرُّ لِأَكْلِ الْمَيْتَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْلُهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَجِبُ. قَدْ يُوَجَّهُ بِأُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ، فَيُقَالُ: لَا فِعْلَ لِلْمُضْطَرِّ وَلَا اخْتِيَارَ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ وَيَكْتَفِي بِصُورَةِ الدَّاعِيَةِ، لَكِنْ جِهَةُ التَّكْلِيفِ فِيهِ سَيَأْتِي بَيَانُهَا فِي الْمُكْرَهِ.
وَكَذَلِكَ يُمْتَنَعُ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ وَمَنْ لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عَنْ الْفِعْلِ إلَّا بِالصَّبْرِ عَلَى إيقَاعِ مَا أُكْرِهَ بِهِ، كَمَنْ قَالَ لَهُ قَادِرٌ عَلَى مَا يَتَوَعَّدُ: اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا
قَتَلْتُك، لَا يَجِدُ مَنْدُوحَةً عَنْ قَتْلِهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْهَلَاكِ، فَإِقْدَامُهُ عَلَى قَتْلِ زَيْدٍ لَيْسَ كَوُقُوعِ الَّذِي أُلْقَى مِنْ شَاهِقٍ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي عَدَمِ التَّكْلِيفِ لَكِنْ تَكْلِيفُهُ هَذَا أَقْرَبُ مِنْ تَكْلِيفِ الْمُلْجَأِ، وَلِهَذَا أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ، وَكَلِمَةُ الْكُفْرِ.
وَأَمَّا تَأْثِيمُ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ فَلَيْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُكْرَهٌ وَأَنَّهُ قَتْلٌ، بَلْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ آثَرَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ، فَهُوَ ذُو وَجْهَيْنِ: الْإِكْرَاهُ وَلَا إثْمَ مِنْ نَاحِيَةٍ، وَجِهَةُ الْإِيثَارِ وَلَا إكْرَاهَ فِيهَا، وَهَذَا لِأَنَّك قُلْت: اُقْتُلْ زَيْدًا وَإِلَّا قَتَلْتُك، فَمَعْنَاهُ التَّخْيِيرُ بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ زَيْدٍ، فَإِذَا آثَرَ نَفْسَهُ فَقَدْ أَثِمَ، لِأَنَّهُ اخْتِيَارٌ، وَهَذَا كَمَا قِيلَ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ: مَحَلُّ التَّخْيِيرِ لَا وُجُوبَ فِيهِ، وَمَحَلُّ الْوُجُوبِ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ.
وَهَذَا تَحْقِيقٌ حَسَنٌ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ لِاسْتِثْنَاءِ صُورَةِ الْقَتْلِ مِنْ قَوْلِنَا الْمُكْرَهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
وَقَوْلُ الْفُقَهَاءِ: الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ إلَّا فِي صُوَرٍ إنَّمَا ذَكَرُوهُ لِضَبْطِ تِلْكَ الصُّوَرِ، لَا أَنَّهُ مُسْتَثْنًى حَقِيقَةً. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ فَإِنَّهُ احْتَجَّ عَلَى إسْقَاطِ قَوْلِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل: 106] .
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلِلْكُفْرِ أَحْكَامٌ، فَلَمَّا وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَقَطَتْ أَحْكَامُ الْإِكْرَاهِ عَنْ الْقَوْلِ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْأَعْظَمَ إذَا سَقَطَ سَقَطَ مَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهُ، نَقَلَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ فِي السُّنَنِ " وَعَضَّدَهُ بِحَدِيثِ «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
وَقَدْ أَطْلَقَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي كُتُبِهِمْ الْأُصُولِيَّةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ مُكَلَّفٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنَقَلُوا الْخِلَافَ فِيهِ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ مِنْهُمْ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ "، وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِ اللُّمَعِ "، وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ "، وَبَنَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى أَصْلِهِمْ فِي وُجُوبِ الثَّوَابِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ عِنْدَ الِامْتِثَالِ، وَكَيْفَ يُثَابُ عَلَى مَا هُوَ مُكْرَهٌ عَلَيْهِ إذْ لَا يُجِبْ دَاعِي الشَّرْعِ؟ وَإِنَّمَا يُجِيبُ دَاعِيَ الْإِكْرَاهِ؟ وَأَلْحَقُوا هَذَا بِالْأَفْعَالِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْ وُقُوعِهَا عَادَةً كَحُصُولِ الشِّبَعِ عَنْ الْأَكْلِ وَالرِّيِّ عَنْ الشُّرْبِ، فَكَمَا يَسْتَحِيلُ التَّكْلِيفُ بِالْوَاجِبِ عَقْلًا وَعَادَةً، فَكَذَا يَسْتَحِيلُ بِفِعْلِ الْمُكْرَهِ. [الْمُكْرَهُ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ] وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا: أَنَّ الْمُكْرَهَ يَصِحُّ تَكْلِيفُهُ لِفَهْمِ الْخِطَابِ، وَأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا مَا فِي الْإِقْدَامِ أَوْ الِانْكِفَافِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي تَكْلِيفِهِ، وَأَمَّا كَوْنُهُ مُتَقَرِّبًا فَيَرْجِعُ إلَى نِيَّتِهِ وَهُوَ غَيْرُ الْكَلَامِ فِي تَكْلِيفِهِ. قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَنَعْنِي بِالْمُكْرَهِ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِقْدَامِ وَالْإِحْجَامِ فَيُحْمَلُ مَثَلًا عَلَى الصَّلَاةِ بِالْإِرْجَافِ وَالْخَوْفِ وَقَتْلِ السَّيْفِ، وَاَلَّذِي بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا فِي رِعْدَتِهِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَصِحُّ تَكْلِيفُ الْمُكْرَهِ مَعَ وِفَاقِهِمْ عَلَى اقْتِدَارِهِ، وَزَادُوا عَلَيْنَا: فَقَالُوا: الْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَلَا مَعْنَى لِتَفْصِيلِ الْإِمَامِ الرَّازِيَّ وَأَتْبَاعِهِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ الْمُلْجِئِ وَغَيْرِهِ، وَلَا لِمَنْ جَعَلَهُ قَوْلًا ثَالِثًا فِي الْمَسْأَلَةِ.
وَكَذَا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي التَّلْخِيصِ ": قَالَ الْمُحَقِّقُونَ: لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ إلَّا مَعَ تَصَوُّرِ اقْتِدَارِ الْمُكْرَهِ، فَمَنْ بِهِ رَعْشَةٌ ضَرُورِيَّةٌ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُكْرَهًا، وَإِنَّمَا الْمُكْرَهُ الْمُخْتَارُ لِتَحْرِيكِهَا، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي تَكْلِيفِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ اقْتِدَارِهِ وَاخْتِبَارِهِ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ، وَبَالَغُوا حَتَّى قَالُوا: إنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ بِالضِّدَّيْنِ، وَالْمُكْرَهُ الْقَادِرُ عَلَى الْفِعْلِ قَادِرٌ عَلَى ضِدِّهِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُنَا فَقَالُوا: إذَا قَدَرَ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَمْ تَتَعَلَّقْ قُدْرَتُهُ بِتَرْكِهِ، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ قَاطِبَةً عَلَى تَوَجُّهِ النَّهْيِ عَلَى الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ عَنْ الْقَتْلِ، وَهَذَا عَيْنُ التَّكْلِيفِ. انْتَهَى.
وَهَذَا يُعْلَمُ جَوَابُهُ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ تَأْثِيمَ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ لَيْسَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مُكْرَهًا.
وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ قَدْ نَازَعَ فِيهِ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، فَقَالَ: نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُنَافِي التَّكْلِيفَ. قَالَ: وَلَيْسَ هَذَا مَذْهَبًا لِأَحَدٍ وَإِنَّمَا مَذْهَبُهُمْ أَنَّ الْإِلْجَاءَ الَّذِي يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعَبْدِ يُنَافِي التَّكْلِيفَ كَالْإِيمَانِ حَالَةَ الْيَأْسِ.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ " الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُخَاطَبٌ بِالْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَنُقِلَ عَنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ.
قَالَ: وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِمَا عَدَا مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَفْعَالِ.
وَنُقِلَ عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمُكْرَهَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ، وَهَذَا خَطَأٌ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ بَلْ هُوَ أَوْلَى بِالْخِطَابِ مِنْ الْمُخْتَارِ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ تَحْمِيلُ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ وَمَشَقَّةٌ، وَحَالَةُ الْمُكْرَهِ أَدْخَلُ فِي أَبْوَابِ التَّكْلِيفِ وَالْمَشَاقِّ مِنْ حَالَةِ الْمُخْتَارِ بِسَبَبِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَرْكِ الْفِعْلِ الَّذِي أُكْرِهَ عَلَيْهِ وَوَاجِبُ الِانْقِيَادِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِسْلَامُ، وَمَوْعُودٌ عَلَيْهِ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ. إلَّا أَنَّ الْعُلَمَاءَ رَأَوْا فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ الْمُلْجَأَ لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ، فَظَنُّوا أَنَّ الْمُلْجَأَ وَالْمُكْرَهَ وَاحِدٌ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُلْجَأُ هُوَ الَّذِي لَا يُخَاطَبُ عِنْدَهُمْ وَهُوَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى التَّرْكِ بَلْ يَكُونُ مَدْفُوعًا وَمَحْمُولًا بِأَبْلَغِ جِهَاتِ الْحَمْلِ. كَمَنْ شُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ رِبَاطًا وَأُلْقَى عَلَى عُنُقِ إنْسَانٍ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْدِفَاعُ، فَهَذَا لَيْسَ لَهُ الِاخْتِيَارُ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ فَلَهُ قَصْدٌ وَقُدْرَةٌ فَكَانَ مُكَلَّفًا.
وَلِهَذَا قَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: الْقُدْرَةُ تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، لِأَنَّهَا لَوْ صَلَحَتْ لِفِعْلٍ دُونَ فِعْلٍ صَارَ الشَّخْصُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ وَمُلْجَأً، وَلَأَمْكَنَهُ الِامْتِنَاعُ خِلَافًا لِأَصْحَابِنَا، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عِنْدَهُمْ لَا تَصْلُحُ لِلضِّدَّيْنِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالُوا: الْإِيمَانُ حَالَةَ الْيَأْسِ لَا يَنْفَعُ وَهُوَ إيمَانُ الْكَافِرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ النَّافِعَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ: أَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَتَصِيرُ الْمَعَارِفُ ضَرُورِيَّةً فَلَا يَنْفَعُ، لِأَنَّهُمْ حِينَئِذٍ أُلْجِئُوا. اهـ.
وَمَا قَالَهُ فِي الْمُلْجَأِ: إنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَهُوَ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُونَ أَطْلَقُوا الْقَوْلَ وَلَمْ يُفَصِّلُوا بَلْ الْأَظْهَرُ التَّفْصِيلُ.
وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": إنَّهُ الْمَشْهُورُ وَجَرَى عَلَيْهِ أَتْبَاعُهُ، وَقَالَ
الْآمِدِيُّ: إنَّهُ الْحَقُّ وَقَرَّرَهُ الْقَرَافِيُّ، وَيَنْبَنِي كَلَامُ الْمُطْلِقِينَ عَلَى أَحَدِ الْقِسْمَيْنِ فِيهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ بَرْهَانٍ: إنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَا يُخَالِفُونَ فِي تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ فَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ مِنْ نَقْلِ الْفُحُولِ عَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ لَا يُوجَدُ فِي مَشَاهِيرِ كُتُبِهِمْ، بَلْ قَالَ الْبَزْدَوِيُّ فِي كِتَابِهِ: الْمُكْرَهُ عِنْدَنَا مُكَلَّفٌ مُطْلَقًا، لِأَنَّهُ مُبْتَلًى بَيْنَ فَرْضٍ وَحَظْرٍ، وَإِبَاحَةٍ وَرُخْصَةٍ إلَخْ، وَقَدْ قَالُوا بِنُفُوذِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَعِتْقِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَسَبَقَ فِي فَصْلِ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ كَلَامُ صَاحِبِ الْمَبْسُوطِ " مِنْهُمْ فِيهِ وَنَقَلَ الْإِبْيَارِيُّ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ، فَالْإِكْرَاهُ لَا يُؤَثِّرُ عِنْدَهُمْ فِي الْإِقْرَارِ وَيُؤَثِّرُ فِي الْإِنْشَاءِ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَإِنَّهُمْ بَنَوْا امْتِنَاعَ تَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ عَلَى قَاعِدَتَيْنِ:
إحْدَاهُمَا: الْقَوْلُ بِالتَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ الْعَقْلِيَّيْنِ.
وَالْأُخْرَى: وُجُوبُ الثَّوَابِ عَلَى اللَّهِ، لِأَنَّ شَرْطَ التَّكْلِيفِ، عِنْدَهُمْ الْإِثَابَةُ.
وَقَدْ نَقَضَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ بِالِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الْقَتْلُ عَلَى مَنْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الزِّنَا عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَقَدْ كُلِّفَ حَالَةَ