الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَنْ رَبِّهِ تبارك وتعالى: «إنِّي حَرَّمْت الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا» وَهُوَ عَامٌّ.
[الْفَرْعُ] الرَّابِعُ
قَوْلُهُمْ: فَائِدَةُ التَّكْلِيفِ عِقَابُهُمْ فِي الْآخِرَةِ هَذَا إنْ لَمْ يَأْتُوا بِهَا، وَكَذَا إنْ أَتَوْا بِهَا فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ نِيَّةُ الْقُرْبَةِ، وَأَمَّا مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَأَدَاءِ الدُّيُونِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالْعَوَارِيِّ وَالْغُصُوبِ وَالْكَفَّارَةِ إذَا غَلَبَ فِيهَا شَائِبَةُ الْقُرْبَةِ، فَإِذَا فَعَلُوهَا لَمْ يُعَاقَبُوا فِي الْآخِرَةِ عَلَى تَرْكِهَا. وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَنَبُوا الْمُحَرَّمَاتِ لَمْ يُعَذَّبُوا عَلَى ارْتِكَابِهَا إذَا لَمْ يَرْتَكِبُوهَا. وقَوْله تَعَالَى:{وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} [فاطر: 36] أَيْ: عَلَى كُفْرِهِمْ الَّذِينَ عُذِّبُوا لِأَجْلِهِ
[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هَلْ يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهَا]
التَّكْلِيفُ هَلْ يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ أَوْ قَبْلَهَا؟ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ غَوَامِضِ أُصُولِ الْفِقْهِ تَصْوِيرًا وَنَقْلًا.
وَنَقْلُ " الْمَحْصُولِ " مُخَالِفٌ لِنَقْلِ " الْإِحْكَامِ "، وَفِيهِمَا تَوَقُّفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَ أَمْرِ الْإِعْلَامِ وَأَمْرِ الْإِلْزَامِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي بَحْثِ الْأَمْرِ.
فَنَقُولُ: فِعْلُ الْمُكَلَّفِ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الزَّمَانِ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَاضٍ وَحَالٍ وَمُسْتَقْبَلٍ.
أَمَّا بِاعْتِبَارِ الِاسْتِقْبَالِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِعْلَ يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهِ قَبْلَ وُجُودِهِ قَطْعًا سِوَى شُذُوذٍ مِنْ أَصْحَابِنَا. كَذَا قَالَ الْآمِدِيُّ. وَهَذَا أَحَدُ شِقَّيْ مَا اخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، وَنَصْبُ مَحَلِّ النِّزَاعِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ، فَقَالَ: ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إنَّمَا يَصِيرُ مَأْمُورًا حَالَةَ زَمَانِ الْفِعْلِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ أَمْرًا بَلْ إعْلَامٌ لَهُ بِأَنَّهُ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي سَيَصِيرُ مَأْمُورًا. وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: إنَّمَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْفِعْلِ قَبْلَ وُقُوعِهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُمْتَنَعُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ وَظَنَّ الْعَبْدَرِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُسْتَصْفَى " الْخِلَافَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، فَقَالَ: أَثْبَتَ الْمُعْتَزِلَةُ وَنَفَاهُ الْأَشْعَرِيَّةُ، فَالْقَائِمُ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ قَادِرٌ عَلَى الْقُعُودِ، وَعِنْدَ الْأَشْعَرِيَّةِ غَيْرُ قَادِرٍ، وَلَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مُرَادَ الْمُعْتَزِلَةِ: قَادِرٌ بِالْقُوَّةِ، وَمُرَادُ الْأَشْعَرِيَّةِ: قَادِرٌ بِالْفِعْلِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا كَذَلِكَ، فَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا. اهـ.
وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ ": وَأَمَّا تَقَدُّمُ الْأَمْرِ عَلَى
وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ شُيُوخِنَا الْمُثْبِتَةِ: إنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْحَقِيقَةِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَابُ وَالْإِلْزَامُ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ، لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّمَا هُوَ إعْلَامٌ وَإِنْذَارٌ، وَأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَا قَارَنَ الْفِعْلَ وَقَالَ الْبَاقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَى وَقْتِ الْفِعْلِ.
وَاخْتَلَفَ الْمُعْتَزِلَةُ فِي مِقْدَارِ مَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ الْأَوْقَاتُ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ مَعَ أَصْحَابِنَا عَلَى وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ بِوَقْتٍ يَحْصُلُ بِهِ لِلْمَأْمُورِ فَهْمُهُ وَالْعِلْمُ بِمَا يَقْتَضِي مِنْهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ بِأَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِوَقْتٍ وَاحِدٍ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ شُرُوطًا أُخْرَى مِنْ كَوْنِ تَقَدُّمِهِ صَلَاحًا لِلْمُكَلَّفِ، وَلِغَيْرِهِ، وَكَوْنُ الْمُكَلَّفِ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَوْقَاتِ حَيًّا سَلِيمًا قَادِرًا بِجَمِيعِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ.
وَاَلَّذِي يَخْتَارُهُ الْقَاضِي أَنَّ الْأَمْرَ الْمُتَقَدِّمَ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ بِوَقْتَيْنِ. أَحَدُهُمَا: وَقْتُ إدْرَاكِ وَاسْتِكْمَالِ سَمَاعِهِ.
وَالثَّانِي: لِحُصُولِ فَهْمِهِ وَالْعِلْمِ بِالْمُرَادِ بِهِ.
قَالَ: وَيَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ يَصِحُّ إيقَاعُ الْفِعْلِ فِي حَالِ الْعِلْمِ بِتَضَمُّنِ الْأَمْرِ، لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْمُكَلَّفُ إلَى تَقَدُّمِ دَلِيلٍ لَهُ عَلَى وُجُوبِ الْفِعْلِ الْمُقْتَضِي لِمُدَّةٍ شَامِلَةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عَلَى إيقَاعِ مَا حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِوُجُوبِهِ، وَإِلَّا لَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ.
وَالْكَلَامُ فِي هَذَا مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهُمَا: فِي وُجُوبِ تَقْدِيمِ الْأَمْرِ عَلَى وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ.
وَالثَّانِي: فِي أَنَّ تَقَدُّمَهُ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا وَإِنْ كَانَ إعْلَامًا وَإِنْذَارًا.
وَالثَّالِثُ: فِي تَصَوُّرِ تَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْفِعْلِ حَالَ إيجَادِهِ.