الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نِزَاعٌ بَيْنَ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي أَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ بِفُرُوعِ الدِّينِ فَقَالَ بَعْضُ مُحَقِّقِيهِمْ: إنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا فِي الْجُمْلَةِ لَكِنْ لَا عَلَى حَدِّ تَكْلِيفِ الْإِنْسِ بِهَا، لِأَنَّهُمْ يُخَالِفُونَ الْإِنْسَ بِالْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ، فَبِالضَّرُورَةِ يُخَالِفُونَهُمْ فِي بَعْضِ التَّكَالِيفِ. مِثَالُهُ. أَنَّ الْجِنَّ قَدْ أُعْطِيَ بَعْضُهُمْ قُوَّةَ الطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ فَهُوَ مُخَاطَبٌ بِقَصْدِ الْبَيْتِ الْحَرَامِ لِلْحَجِّ طَائِرًا، وَالْإِنْسَانُ لِعَدَمِ تِلْكَ الْقُوَّةِ لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ.
هَذَا فِي طَرَفِ زِيَادَةِ تَكْلِيفِهِمْ عَلَى تَكْلِيفِ الْإِنْسِ، فَكُلُّ تَكْلِيفِهِ يَتَعَلَّقُ بِخُصُوصِ طَبِيعَةِ الْإِنْسِ يَنْتَفِي فِي حَقِّ الْجِنِّ، لِعَدَمِ تِلْكَ الْخُصُوصِيَّةِ فِيهِمْ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى تَكْلِيفِ الْجِنِّ بِالْفُرُوعِ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ بِالْقُرْآنِ إلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَجَمِيعُ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ يَتَوَجَّهُ إلَى الْجِنْسَيْنِ، وَقَدْ تَضْمَنَّ ذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ الْإِنْسِ مُخَاطَبُونَ بِهَا وَكَذَلِكَ كُفَّارُ الْجِنِّ.
[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ]
ِ] وَلَهُ شُرُوطٌ [شُرُوطُ الْمُكَلَّفِ بِهِ]
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا مِنْ حَيْثُ هُوَ يُمْكِنُ حُدُوثُهُ، إذْ إيجَادُ الْمَوْجُودِ تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْعَدَمَ الْأَصْلِيَّ، إذْ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِلْقُدْرَةِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا بِكَسْبِ الْمُكَلَّفِ، فَلَا يَصِحُّ أَمْرُ زَيْدٍ بِكِتَابَةِ عَمْرٍو، وَلَا يَعْتَرِضُ عَلَى هَذَا بِإِلْزَامِ الْعَاقِلَةِ دِيَةَ خَطَأِ وَلِيِّهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ رَبْطِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْمُخَالِفُ فِيهِ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْفَرَائِضِ: ذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ إلَى أَنَّهُ كَانَ يَجِبُ عَلَى
الْمُحْتَضَرِ أَنْ يُوصِيَ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْوَرَثَةِ بِمَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الْفَرَائِضِ، وَكَانَ مَنْ يُوَفَّقُ لِذَلِكَ مُصِيبًا وَمَنْ تَعَدَّاهُ مُخْطِئًا.
قَالَ الْإِمَامُ: وَهَذَا زَلَلٌ لَا يَجُوزُ مِثْلُهُ فِي الشَّرَائِعِ فَإِنَّهُ تَكْلِيفٌ عَلَى عَمَائِهِ.
رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ بِالْفِعْلِ، وَالْمُكَلَّفُ بِهِ فِي النَّهْيِ الْكَفُّ وَالْكَفُّ فِعْلُ الْإِنْسَانِ دَاخِلٌ تَحْتَ كَسْبِهِ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: التَّرْكُ نَفْيٌ مَحْضٌ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَلَا الْكَسْبِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ:«تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ» نَعَمْ. لَا يَحْصُلُ الثَّوَابُ عَلَى الْكَفِّ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ وَالْقَصْدِ دُونَ الْغَفْلَةِ وَالذُّهُولِ.
خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لَهُ عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الشَّرْطِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَبَعْضُهُمْ تَرْجَمَهَا بِالتَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَحْقِيقِهَا.
فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَعْدُومَ إمَّا مُمْكِنٌ أَوْ وَاجِبٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ، فَالْمُمْكِنُ مَا اسْتَوَتْ نِسْبَتُهُ إلَى الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَيَحْتَاجُ فِي وُجُودِهِ إلَى مُرَجِّحٍ وَمُخَصِّصٍ، وَالْوَاجِبُ مَا تَرَجَّحَ وُجُودُهُ عَلَى عَدَمِهِ وَالْمُمْتَنِعُ مَا تَرَجَّحَ عَدَمُهُ عَلَى وُجُودِهِ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاجِبِ وَالْمُمْتَنِعِ إمَّا أَنْ يَكُونَ وُجُوبُهُ أَوْ امْتِنَاعُهُ لِذَاتِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، فَالْوَاجِبُ لَا لِذَاتِهِ مَا تَوَقَّفَ وُجُودُهُ عَلَى سَبَبٍ خَارِجٍ عَنْ ذَاتِهِ كَسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ حَالَ وُجُودِهَا، وَالْمُمْتَنِعُ لِذَاتِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ
الضِّدَّيْنِ، وَالْمُمْتَنِعُ لِغَيْرِهِ كَتَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ أَنَّ فُلَانًا يَمُوتُ كَافِرًا وَهُوَ أَمْثَالُ الْمَشْهُورِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَإِذَنْ الْمُحَالُ ضَرْبَانِ: مُحَالٌ لِذَاتِهِ وَمُحَالٌ لِغَيْرِهِ، وَالْخِلَافُ مَوْجُودٌ فِيهِمَا.
وَيُطْلِقُهُ الْأُصُولِيُّونَ وَالْمُتَكَلِّمُونَ عَلَى أَرْبَعَةِ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: مَا لَا يُعْقَلُ عَلَى حَالٍ، وَهُوَ الْمُسْتَحِيلُ لِذَاتِهِ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَقَلْبِ الْأَجْنَاسِ، وَإِعْدَامِ الْقَدِيمِ، وَإِيجَادِ الْمَوْجُودِ.
الثَّانِي: عَلَى مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ كَخَلْقِ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ، فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ وَإِلَّا لَمَا أَدْرَكُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ عَجْزًا عَنْهُ.
الثَّالِثُ: مَا لَا يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَقْدُورِهِمْ، كَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ، وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ.
الرَّابِعُ: عَلَى جِنْسِ الْمَقْدُورِ فِي الْعَادَةِ وَلَكِنْ لَمْ يَخْلُقْ اللَّهُ لِلْعَبْدِ قُدْرَةً عَلَيْهِ، وَمِنْ هَذَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الَّتِي لَمْ تَقَعْ، وَالْمَعَاصِي الْوَاقِعَةُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُقَدِّرْ الْعَاصِيَ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا الْمُمْتَنِعَ مِنْ الطَّاعَةِ عَلَى فِعْلِهَا. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ قِسْمًا آخَرَ، وَهُوَ تَكْلِيفُ الْقَاعِدِ الْقِيَامَ وَالْقَائِمِ الْقُعُودَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ مَعَ الْفِعْلِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ.