المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة] - البحر المحيط في أصول الفقه - ط الكتبي - جـ ٢

[بدر الدين الزركشي]

فهرس الكتاب

- ‌[خِطَابُ الْوَضْعِ]

- ‌ السَّبَبِ

- ‌[مَسْأَلَةٌ لِلْأَسْبَابِ أَحْكَامٌ تُضَافُ إلَيْهَا]

- ‌[الْمَانِعُ]

- ‌[أَقْسَامُ الْمَانِعِ]

- ‌[مَسْأَلَة الصِّحَّة وَالْفَسَادِ]

- ‌[الصِّحَّةُ فِي الْعِبَادَاتِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْحَقَائِقُ الشَّرْعِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاهِيَّاتِ مِنْ عِبَادَةٍ وَعَقْدٍ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الصِّحَّةُ لَا تَسْتَلْزِمُ الثَّوَابَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثَوَابُ الصَّلَاةِ الْفَاسِدَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْإِجْزَاءُ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِالْفِعْلِ فِي سُقُوطِ الْأَمْرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْجَائِزُ مَا وَافَقَ الشَّرِيعَةَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ يُقَابِلُ الصِّحَّةَ الْبُطْلَانُ]

- ‌[التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الرُّخْصَةُ وَالْعَزِيمَةُ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي مَدْلُولِهِمَا]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي الرُّخْصَة مِنْ أَيِّ الْخِطَابَيْنِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ أَقْسَامِ الرُّخْصَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْأَدَاءُ وَالْقَضَاءُ وَالْإِعَادَةُ]

- ‌[فَرْعٌ تَأْخِيرُ الْمَأْمُورِ بِهِ هَلْ يَكُونُ قَضَاءً]

- ‌[فَائِدَةٌ الْعِبَادَةُ الَّتِي تَقَعُ قَبْلَ الْوَقْتِ وَتَكُونُ أَدَاءً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ مَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ الْبَقَاءِ]

- ‌[التَّكْلِيفُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ حَسَنٌ فِي الْعُقُولِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هَلْ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِالْأَصْلَحِ]

- ‌ الْمُكَلَّفِ

- ‌[فَرْعٌ تَكْلِيفُ مَنْ أَحُيِيَ بَعْدَ مَوْتِهِ]

- ‌[فُرُوعٌ الِانْشِغَالُ عَنْ الصَّلَاةِ بِلَعِبِ الشِّطْرَنْجِ]

- ‌[تَكْلِيف السَّكْرَان]

- ‌[التَّكْلِيفُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى قِسْمَيْنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَنْتَفِي شَرْطُ وُقُوعِهِ عِنْدَ وَقْتِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمَعْدُومُ الَّذِي تَعَلَّقَ الْعِلْمُ بِوُجُودِهِ مَأْمُورٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُكَلَّفِ الْحُرِّيَّةُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دُخُولُ الذُّكُورِ فِي الْإِنَاثِ فِي الْخِطَابِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَكْلِيفُ الْجِنِّ]

- ‌[الرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُكَلَّفُ بِهِ]

- ‌[جَوَازُ تَكْلِيفِ الْمُحَالِ]

- ‌[وُقُوعُ التَّكَلُّفِ بِالْمُحَالِ]

- ‌[التَّكْلِيفُ بِمَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقَعُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ الْوُجُوبِ فِي الذِّمَّةِ لَا يُشْتَرَطْ فِيهِ الْإِمْكَانُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ اسْتِحَالَةُ مُخَاطَبَةِ الْكَافِرِ بِإِنْشَاءِ فَرْعٍ عَلَى الصِّحَّةِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الثَّانِي هَلْ يُخَاطَبُ الْكَافِرُ بِالْفُرُوعِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الصُّوَرِ مِنْ تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الرَّابِعُ سُقُوط حَقّ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الْكَافِر إذَا أَسْلَمَ]

- ‌[التَّنْبِيهُ الْخَامِسُ جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِي خِطَابِ التَّكْلِيفِ]

- ‌[التَّنْبِيهُ السَّادِسُ حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ هَلْ هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ]

- ‌[التَّنْبِيه السَّابِعُ الْإِمْكَانَ الْمُشْتَرِطَ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ نَاجِزًا]

- ‌[التَّنْبِيهُ الْحَادِيَ عَشَرَ قُرَبُ الْكُفَّارِ]

- ‌[جُنُونُ الْكَافِرِ قَبْلَ الْبُلُوغِ يَرْفَعُ عَنْهُ الْقَلَمَ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّكْلِيفُ هَلْ يَتَوَجَّهُ حَالَ مُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ أَوْ قَبْلَهَا]

- ‌[تَقَدَّمَ الْأَمْرُ عَلَى وَقْتِ الْمَأْمُورِ بِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ النِّيَابَةُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ فِي الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِلتَّكْلِيفِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الْكِتَابِ] [

- ‌تَعْرِيفُ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْإِعْجَازُ فِي قِرَاءَةِ كَلَامِ اللَّهِ]

- ‌[إنْزَالُ الْقُرْآنِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ]

- ‌[الْأَلْفَاظُ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُحْكَمُ وَالْمُتَشَابِهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وُرُودُ الْمُهْمَلِ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَا زَائِدَ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ]

- ‌[بَقَاءُ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[مَسْأَلَةٌ النَّصُّ وَالظَّاهِرُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْقِرَاءَاتُ السَّبْعُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لَيْسَتْ الْقِرَاءَاتُ اخْتِيَارِيَّةً]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْبَسْمَلَةُ فِي الْقُرْآنِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ اللُّغَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُفْرَدَاتُ مَوْضُوعَةٌ]

- ‌[الْمُثَنَّى وَالْمَجْمُوعُ]

- ‌[الْمَوْضُوعُ لَهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ وَضْعُ اللَّفْظِ الْمَشْهُورِ فِي مَعْنًى خَفِيٍّ جِدًّا]

- ‌[مَعْنَى التَّوْقِيفِ]

- ‌[الْأَسْمَاءُ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ آدَمَ]

- ‌[فَائِدَةٌ أَسْمَاءُ اللَّهِ تَوْقِيفِيَّةٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ لِسَانُ الْعَرَبِ أَوْسَعُ الْأَلْسِنَةِ]

- ‌[مَسْأَلَةُ الِاحْتِجَاجُ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ اللُّغَوِيَّةِ]

- ‌[ثُبُوتُ الِاسْمِ الشَّرْعِيِّ بِالِاجْتِهَادِ]

- ‌[الْمُنَاسَبَةُ فِي الْوَضْعِ]

- ‌[تَقْسِيمُ الْأَلْفَاظِ تَقْسِيمُ الدَّلَالَةِ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ وَالِالْتِزَامِ]

- ‌[أَقْسَامُ اللَّازِمِ]

- ‌[الْمُلَازَمَةُ الذِّهْنِيَّةُ شَرْطٌ فِي الدَّلَالَةِ الِالْتِزَامِيَّةِ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَفْظِيَّةٌ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ التَّضَمُّنِ]

- ‌[دَلَالَةُ الْمُطَابَقَةِ لَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ]

- ‌[دَلَالَةُ الِاسْتِدْعَاءِ]

- ‌[انْقِسَامُ الْمُفْرَدِ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِهِ]

- ‌[الْكُلِّيُّ وَالْجُزْئِيُّ]

- ‌[الطَّبِيعِيُّ وَالْمَنْطِقِيُّ وَالْعَقْلِيُّ]

- ‌[الْفَرْقُ بَيْنَ الْكُلِّيِّ وَالْكُلِّ]

- ‌[أَقْسَامُ الْكُلِّيِّ]

- ‌[الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَضِيِّ اللَّازِمِ وَالذَّاتِيِّ]

- ‌[الْجُزْئِيُّ]

- ‌[الْفَرْقُ بَيْنَ عَلَمِ الْجِنْسِ وَعَلَمِ الشَّخْصِ وَاسْمِ الْجِنْس]

- ‌[فَصْلٌ فِي نِسْبَةِ الْأَسْمَاءِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ]

- ‌[تَقْسِيمُ اللَّفْظِ الْمُرَكَّبِ]

- ‌[أَقْسَامُ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى]

- ‌[خَاتِمَةٌ فِي أَمْرَيْنِ يَتَعَيَّنُ الِاهْتِمَامُ بِهِمَا]

- ‌[مَبَاحِثُ الِاشْتِقَاقِ]

- ‌[حَدّ الِاشْتِقَاق]

- ‌[فَائِدَةُ الِاشْتِقَاق]

- ‌[تَقْسِيم الِاشْتِقَاق]

- ‌[أَرْكَان الِاشْتِقَاق]

- ‌[أَقْسَام الِاشْتِقَاق]

- ‌[مَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ وَالْبَصْرِيِّينَ فِي اشْتِقَاقِ الْأَفْعَالِ مِنْ الْمَصَادِرِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ شَرْطُ صِدْقِ الْمُشْتَقِّ صِدْقُ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الِاشْتِقَاقُ مِنْ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالشَّيْءِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ دَلَالَةُ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ]

- ‌[مَبَاحِثُ التَّرَادُفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ هَلْ وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ تَرَادُفٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي سَبَبِ التَّرَادُفِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّرَادُفُ خِلَافُ الْأَصْلِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اللُّغَاتُ مَا عَدَا الْعَرَبِيَّةَ سَوَاءٌ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَرَادُفُ الْحَدِّ وَالْمَحْدُودِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْإِتْبَاعُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ التَّأْكِيدُ وَاقِعٌ فِي اللُّغَةِ]

- ‌[هَلْ التَّأْكِيدُ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ]

- ‌[مَسْأَلَةُ التَّأْكِيدُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ]

- ‌[أَقْسَامُ التَّأْكِيدِ]

- ‌[مَبَاحِثُ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْعِلْمُ بِكَوْنِ اللَّفْظِ مُشْتَرَكًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي حَقِيقَةِ وُقُوعِ الْمُشْتَرَكِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ خِلَافُ الْغَالِبِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اللَّفْظُ الْمُشْتَرَكُ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ الْمُشْتَرَكُ لَهُ مَفْهُومَانِ فَصَاعِدًا]

- ‌[مَسْأَلَةٌ تَجَرُّدُ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْقَرِينَةِ]

- ‌[اقْتِرَانُ الْقَرِينَةِ بِالْمُشْتَرَكِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ فِي حُكْمِ الْمُشْتَرَك بِالنِّسْبَةِ إلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ]

- ‌[تَنْبِيه الْخِلَافَ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعَانِيهِ]

- ‌[اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ]

- ‌[مَسْأَلَةٌ اتِّفَاقُ اللَّفْظَيْنِ وَاخْتِلَافُ الْمَعْنَيَيْنِ]

الفصل: ‌[مسألة خطاب الكفار بفروع الشريعة]

[مَسْأَلَةٌ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ]

سَبَقَ أَنَّ حُصُولَ الشَّرْطِ الْعَقْلِيِّ مِنْ التَّمَكُّنِ وَالْفَهْمِ وَنَحْوِهِمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ، أَمَّا حُصُولُ الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالْمَشْرُوطِ خِلَافًا لِأَصْحَابِ الرَّأْيِ، وَهِيَ مَفْرُوضَةٌ فِي تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعَمَّ مِنْهُ.

وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ عَنْهَا بِأَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ التَّكْلِيفُ فِي الْإِمْكَانِ فِي الْجُمْلَةِ وَهُوَ قَوْلُنَا، أَوْ الْإِمْكَانُ نَاجِزًا وَهُوَ وَقَوْلُ الْحَنَفِيَّةِ؟

ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَتَّبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُرَتَّبٍ وَهِيَ أُصُولُ الشَّرِيعَةِ فَهُمْ مُكَلَّفُونَ بِهَا إجْمَاعًا، وَيَلْتَحِقُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي تَصْدِيقُ الرُّسُلِ وَعَدَمُ تَكْذِيبِهِمْ، وَالْكَفُّ عَنْ قَتْلِهِمْ وَقِتَالِهِمْ اهـ. مَعَ أَنَّ الْكَفَّ عَنْ قِتَالِهِمْ مِنْ الْفُرُوعِ.

ص: 124

وَحَكَى الْمَازِرِيُّ عَنْ قَوْمٍ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ بِهَذِهِ الْمَعَارِفِ. قَالَ: وَاخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ رَآهَا ضَرُورِيَّةً، فَلِهَذَا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ رَآهَا كَسْبِيَّةً، وَلَكِنَّهُ مَنَعَ الْخِطَابَ لِمَا يُذْكَرُ فِي غَيْرِ هَذَا الْفَنِّ. اهـ.

وَتَرَدَّدَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي كَلِمَتَيْ الشَّهَادَةِ هَلْ هِيَ مِنْ الْفُرُوعِ؟ حَتَّى لَا يُكَلَّفُوا بِهَا عَلَى قَوْلٍ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ وَالشَّهَادَةُ شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ، وَفِيهِ نَظَرٌ.

وَمُقَدَّمَاتُ الْإِيمَانِ، كَالنَّظَرِ هَلْ هِيَ مُلْحَقَةٌ بِالْإِيمَانِ حَتَّى تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَيْهِ أَوْ يَأْتِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي مُقَدَّمَةِ الْوَاجِبِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَإِنْ كَانَ مُرَتَّبًا عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَهِيَ فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ، فَالْكَلَامُ فِي الْجَوَازِ وَالْوُقُوعِ.

[جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ عَقْلًا]

أَمَّا الْجَوَازُ عَقْلًا فَمَحَلُّ وِفَاقٍ كَمَا قَالَهُ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ، وَمُرَادُهُ وِفَاقُ أَصْحَابِنَا، وَإِلَّا فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ بَرْهَانٍ فِي " الْأَوْسَطِ " عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَاطِبُوا عَقْلًا بِالْفُرُوعِ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ " كِفَايَةِ الْفُحُولِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فَقَالَ: أَجَازَهُ عَقْلًا قَوْمٌ وَمَنَعَهُ آخَرُونَ.

[جَوَازُ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ شَرْعًا]

أَمَّا شَرْعًا فَفِيهِ مَذَاهِبُ: أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِهَا مُطْلَقًا فِي الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي بِشَرْطِ تَقَدُّمِ

ص: 125

الْإِيمَانِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الْآيَاتِ، وَلِأَنَّهُ تَعَالَى ذَمَّ قَوْمَ شُعَيْبٍ بِالْكُفْرِ وَنَقْصِ الْمِكْيَالِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالْكُفْرِ وَإِتْيَانِ الذُّكُورِ، وَذَمَّ عَادًا قَوْمَ هُودٍ بِالْكُفْرِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي مَوَاضِعَ: مِنْهَا: تَحْرِيمُ ثَمَنِ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ، وَقَالَ فِي " الْأُمِّ " فِي بَابِ حَجِّ الصَّبِيِّ يَبْلُغُ، وَالْمَمْلُوكِ يُعْتَقُ، وَالذِّمِّيِّ يُسْلِمُ، فِيمَا إذَا أَهَلَّ كَافِرٌ بِحَجٍّ، ثُمَّ جَامَعَ، ثُمَّ أَسْلَمَ قَبْلَ عَرَفَةَ فَجَدَّدَ إحْرَامًا وَأَرَاقَ دَمًا لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُفْسِدًا فِي حَالِ الشِّرْكِ، لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُحْرِمٍ.

قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِذَا زَعَمْت أَنَّهُ كَانَ فِي إحْرَامِهِ غَيْرَ مُحْرِمٍ، أَفَكَانَ الْفَرْضُ عَنْهُ مَوْضُوعًا؟

قِيلَ: لَا بَلْ كَانَ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُؤْمِنَ بِاَللَّهِ عز وجل وَرَسُولِهِ وَيُؤَدِّي الْفَرَائِضَ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تبارك وتعالى عَلَى نَبِيِّهِ، غَيْرَ أَنَّ السُّنَّةَ تَدُلُّ، وَمَا لَمْ أَعْلَمْ [الْمُسْلِمِينَ] اخْتَلَفُوا فِيهِ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ أَسْلَمَ ائْتَنَفَ الْفَرَائِضَ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمَ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِإِعَادَةِ مَا فَرَّطَ فِيهِ فِي الشِّرْكِ مِنْهَا، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا قَبْلَهُ إذَا أَسْلَمَ ثُمَّ اسْتَقَامَ. هَذَا لَفْظُهُ. وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِيَانِ الطَّبَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَسُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي " التَّقْرِيبِ " وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْحَلِيمِيُّ.

وَقَالَ فِي " الْمِنْهَاجِ ": إنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِنَا: إنَّ الطَّاعَاتِ مِنْ الْإِيمَانِ.

قَالَ: وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُؤَاخِذُ اللَّهُ أَحَدًا بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ: «مَنْ أَحْسَنَ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ

ص: 126

فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الْإِسْلَامِ أُخِذَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخِرِ» .

قَالَ: وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِالنَّوَاهِي إذَا يُحْسِنُ فِي الْإِسْلَامِ، لِانْتِفَاءِ مَا يُحْبِطُهَا بِخِلَافِ مَنْ أَسْلَمَ وَأَحْسَنَ فَإِنَّ. إسْلَامَهُ يُحْبِطُ كُفْرَهُ، وَحَسَنَاتِهِ تُحْبِطُ سَيِّئَاتِهِ وَمُجَرَّدُ الْإِسْلَامِ لَا يُنَافِي الْمَعَاصِيَ لِجَوَازِ صُدُورِهَا مِنْ السَّلَمِ فَلَا يَكُونُ مُحْبِطًا لَهَا. اهـ.

وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَكَذَلِكَ نَقَلُوهُ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ. إنَّهُ قَوْلُ أَهْلِ الْكَلَامِ، وَمَذْهَبُ عَامَّةِ مَشَايِخِ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ، لِأَنَّ الْكُفْرَ رَأْسُ الْمَعَاصِي فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ سُقُوطُ الْخِطَابِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَلَّفِينَ بِالْفُرُوعِ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ الْجَبَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا رَأَيْته فِي كِتَابِهِ. عِبَارَتُهُ: إنَّهُ هُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي، وَوَقَعَ فِي " الْمُنْتَخَبِ " نِسْبَتُهُ لِأَبِي إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّ أَبَا إِسْحَاقَ يَقُولُ بِتَكْلِيفِهِمْ كَمَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْجِرَاحِ وَهُوَ كَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ يَدُلُّ عَلَيْهِ، قَالَ: وَالصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِ: مَا بَدَأْنَا بِهِ. اهـ.

ص: 127

وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: إنَّهُ ظَاهِرُ مَذْهَبِ مَالِكٍ.

قُلْت: اخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ الْمَالِكِيُّ، وَقَالَ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى " بِالْجَامِعِ " إنَّهُ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ مَسَائِلُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ طَلَاقُهُمْ، وَلَا أَيْمَانُهُمْ وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمٌ مِنْ الْأَحْكَامِ.

وَزَادَ حَتَّى قَالَ: إنَّهُمْ إنَّمَا يَقْطَعُونَ فِي السَّرِقَةِ، وَيَقْتُلُونَ فِي الْحِرَابَةِ مِنْ بَابِ الدَّفْعِ، فَهُوَ تَعْزِيرٌ لَا حَدٌّ، لِأَنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا وَلَيْسَتْ هَذِهِ كَفَّارَاتٌ. وَزَادَ، فَقَالَ: إنَّ الْمُحَدِّثَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ إلَّا بَعْدَ فِعْلِ الطَّهَارَةِ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ رضي الله عنه بِقَوْلِهِ فِي الْحَائِضِ: إنَّهَا تَنْتَظِرُ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ بَعْدَ غَسْلِهَا وَفَرَاغِهَا مِنْ الْأَمْرِ اللَّازِمِ.

وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ: لَيْسَ عَنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَقَدِّمِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصٌّ، وَإِنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ فُرُوعِهِمْ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّ مَنْ نَذَرَ الصَّوْمَ، ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَمْ يَلْزَمْهُ قَضَاؤُهُ، لِأَنَّ الشِّرْكَ أَبْطَلَ كُلَّ عِبَادَةٍ، وَإِنَّمَا أَرَادَ وُجُوبُهَا، لِأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهِ بَعْدُ.

قَالَ: وَلَمْ أَرَ لِهَذَا الْمَذْهَبِ حُجَّةٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا، وَقَدْ تَفَكَّرْت فِي ذَلِكَ فَلَمْ أَجِدْ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ، لِأَنَّهُ لَا يُثَابُ كَمَا لَمْ يَجْعَلْ الْعَبْدَ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمَالِ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ.

وَقَالَ الْعَالِمُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ: لَمْ يُنْقَلْ عَنْ ثِقَةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْهُمْ خَرَجُوا عَلَى تَفْرِيعَاتِهِمْ، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَالَ: إنَّ الْكَافِرَ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَأَسْلَمَ وَأَحْرَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْمِيقَاتِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ،

ص: 128

وَلَوْ كَانَ لِلْكَافِرِ عَبْدٌ مُسْلِمٌ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ فِطْرِهِ، وَيَحِلُّ لِلْمُسْلِمِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ النَّصْرَانِيَّةِ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ لِعَادَتِهَا دُونَ الْعَشَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَغْتَسِلَ، وَيَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ.

وَقَالَ السَّرَخْسِيُّ، لَا خِلَافَ أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ وَالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخِرَةِ كَذَلِكَ.

أَمَّا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْأَدَاءِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، فَذَهَبَ الْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا إلَى أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَجِبْ لَمْ يُؤَاخَذُوا عَلَى تَرْكِهَا. قَالَ: وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهَا أَصْحَابُنَا، لَكِنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ اسْتَدَلُّوا مِنْ مَسَائِلِهِمْ عَلَى هَذَا، وَعَلَى الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا أَسْلَمَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاءُ صَلَوَاتِ الرِّدَّةِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالصَّلَاةِ عِنْدَنَا، ثُمَّ ضَعُفَ الِاسْتِدْلَال. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَرْعًا لِأَصْلٍ مَعْرُوفٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ: أَنَّ الشَّرَائِعَ عِنْدَهُ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ، وَهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ، فَيُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَتْ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ فَلَا يُخَاطَبُونَ بِأَدَائِهَا مَا لَمْ يُؤْمِنُوا، وَهَذَا ضَعِيفٌ، فَإِنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْعُقُوبَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْإِيمَانِ.

قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَالْقَائِلُونَ بِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُخَاطَبِينَ انْقَسَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ صَارَ إلَى اسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِهِمْ عَقْلًا، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَحِلَّهُ، وَلَكِنَّهُمْ مَعَ الْجَوَازِ لَمْ يُكَلَّفُوا.

وَقَالَ الْقَاضِي: أَقْطَعُ بِالْجَوَازِ، وَلَا أَقْطَعُ بِأَنَّ هَذَا الْجَائِزَ وَقَعَ، وَلَكِنْ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُهُ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِالنَّوَاهِي دُونَ الْأَوَامِرِ، لِأَنَّ الِانْتِهَاءَ مُمْكِنٌ فِي

ص: 129

حَالَةَ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَرُّبُ، فَجَازَ التَّكَلُّفُ بِهَا دُونَ الْأَوَامِرِ، فَإِنَّ شَرْطَهَا الْعَزِيمَةُ، وَفِعْلُ التَّقْرِيبِ مَعَ الْجَهْلِ بِالْمُقَرَّبِ إلَيْهِ مُحَالٌ، فَامْتُنِعَ التَّكْلِيفُ بِهَا.

وَحَكَى النَّوَوِيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ فِي " التَّحْقِيقِ " أَوْجُهًا لِلْأَصْحَابِ، وَسَبَقَ حِكَايَةُ الْأُسْتَاذِ وَابْنِ كَجٍّ الْأَوَّلَيْنِ قَوْلَيْنِ لِلشَّافِعِيِّ، وَعَلَّلَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْمَعَالِي عَزِيزِيُّ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي كِتَابِ " بَيَانِ الْبُرْهَانِ " بِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تَقَعُ عَلَيْهِمْ فِي فِعْلِ الْمَنْهِيَّاتِ دُونَ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَيُحَدُّ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَيُقْطَعُ فِي السَّرِقَةِ، وَلَا يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَإِنْ فَعَلَهَا فِي كُفْرِهِ لَمْ تَصِحَّ مِنْهُ؟ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ " اللُّبَابِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَعَامَّةِ أَصْحَابِهِ. [تَكْلِيفُ الْكُفَّارِ بِالنَّوَاهِي] وَذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَكْلِيفِهِمْ بِالْأَوَامِرِ. قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ " الْأُصُولِ " وَالْبَنْدَنِيجِيّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ قَسْمِ الصَّدَقَاتِ مِنْ " تَعْلِيقِهِ " قَالَ: وَأَمَّا الْمَعَاصِي فَمَنْهِيُّونَ عَنْهَا بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَيِّدَةٌ.

ص: 130

وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي كِتَابِهِ فِي الْأُصُولِ: لَا خِلَافَ أَنَّ خِطَابَ الزَّوَاجِرِ مِنْ الزِّنَا وَالْقَذْفِ يَتَوَجَّهُ عَلَى الْكُفَّارِ كَمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. اهـ.

وَهَذَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ فِيمَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْحَرْبِيُّ مُسْلِمًا أَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مَالًا ثَمَّ أَسْلَمَ أَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُهَا إذَا قُلْنَا: إنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالْفُرُوعِ. قَالَ: وَذَكَرَ الْعَبَّادِيُّ أَنَّهُ يُعْزَى ذَلِكَ أَيْضًا لِلْمُزَنِيِّ فِي " الْمَنْثُورِ ". وَقَالَ الْمَازِرِيُّ: لَا وَجْهَ لِهَذَا التَّفْضِيلِ، لِأَنَّ النَّهْيَ فِي الْحَقِيقَةِ أَمْرٌ، وَكَأَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ التُّرُوكَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى تَصَوُّرٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ

وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْأَوَامِرِ فَقَطْ. حَكَاهُ ابْنُ الْمُرَحَّلِ فِي " الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ " وَلَعَلَّهُ انْقَلَبَ مِمَّا قَبْلَهُ، وَيَرُدُّهُ الْإِجْمَاعُ السَّابِقُ عَلَى تَكْلِيفِهِمْ بِالنَّوَاهِي.

وَالْخَامِسُ: أَنَّ الْمُرْتَدَّ مُكَلَّفٌ دُونَ الْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ. حَكَاهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي " الْمُلَخَّصِ " وَالطُّرْطُوشِيُّ فِي " الْعُمْدَةِ "، لِالْتِزَامِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ. وَلَا مَعْنًى لِهَذَا التَّفْصِيلِ، لِأَنَّ مَأْخَذَ النَّقِيِّ فِيهِمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ جَهْلُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْخِلَافَ يَطْرُقُ الْأَصْلَ وَالْمُرْتَدَّ لَكِنْ ظَاهِرُ

ص: 131

عِبَارَةِ الْإِمَامِ فِي " الْمَحْصُولِ " أَنَّ الْخِلَافَ لَا يَطْرُقُ الْمُرْتَدُّ، وَالْأَشْبَهُ الْأَوَّلُ.

وَلِهَذَا نَقَلَ الْأَصْحَابُ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ الرِّدَّةَ تُسْقِطُ الْأَعْمَالَ السَّابِقَةَ وَتَمْنَعُ الْوُجُوبَ فِي الْحَالِ. وَلِهَذَا قَالُوا: إنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَقْضِي صَلَاةَ أَيَّامِ رِدَّتِهِ، وَعِنْدَنَا تَلْزَمُهُ.

وَقَالَ الْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي تَعْلِيقِهِ ": يُمْكِنُ بِنَا الْخِلَافُ فِي إحْبَاطِ الرِّدَّةِ الْأَعْمَالُ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ سَاوَى الْمُرْتَدُّ الْأَصْلِيُّ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامِ رِدَّتِهِ.

قُلْت: إنَّمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُرْتَدِّ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ بِخُرُوجِهِ مِنْهُ لَا يَسْقُطُ بِخِلَافِ الْأَصْلِيِّ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي الزَّكَاةِ عَلَى الْمُرْتَدِّ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: يَجِبُ، وَالثَّانِي مَوْقُوفٌ. قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: وَهُوَ نَظِيرُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ كَمَا إذَا أَسْلَمَ يُزَكِّي فَكَذَا إذَا أَسْلَمَ يُصَلِّي.

وَالسَّادِسُ: أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ بِمَا عَدَا الْجِهَادَ، أَمَّا الْجِهَادُ فَلَا، لِامْتِنَاعِ قِتَالِهِمْ أَنْفُسِهِمْ، حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ. قَالَ: وَلَا أَعْرِفُ أَيْنَ وَجَدْته.

قُلْت: صَرَّحَ بِهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي " النِّهَايَةِ "، فَقَالَ: وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مُخَاطَبًا بِقِتَالِ الْكُفَّارِ، وَكَذَا قَالَ الرَّافِعِيُّ فِي " كِتَابِ السِّيَرِ ": الذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ فَرْضِ الْجِهَادِ. وَلِهَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهُ الْإِمَامُ عَلَى الْجِهَادِ لَا يَبْلُغُ بِهِ سَهْمُ رَاجِلٍ عَلَى أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ، كَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ. نَعَمْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى الْجِهَادِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمَا جَازَ كَمَا لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ.

السَّابِعُ: الْوَقْفُ. حَكَاهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي تَقْرِيبِهِ " عَنْ بَعْضِ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَحَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ الْإسْفَرايِينِيّ عَنْ الْأَشْعَرِيِّ نَفْسِهِ.

ص: 132