الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِكْرَاهِ، وَلَمْ يَرْتَضِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا، وَقَالَ: إنَّ الْقَوْمَ لَا يَمْنَعُونَ مِنْ الشَّيْءِ مَعَ الْحَمْلِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَشَدُّ فِي الْمِحْنَةِ وَاقْتِضَاءِ الثَّوَابِ، وَإِنَّمَا الَّذِي مَنَعُوهُ الِاضْطِرَارَ إلَى الْفِعْلِ مَعَ الْأَمْرِ بِهِ.
[التَّكْلِيفُ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى قِسْمَيْنِ]
وَقَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ هَذَا النَّقْضُ غَيْرُ وَارِدٍ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ عَلَى قِسْمَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُكَلَّفَ بِالنَّهْيِ عَمَّا أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِهِ كَمَنْ أَكْرَهَ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِفِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَى إيقَاعِهِ، كَمَنْ تَضَيَّقَ عَلَيْهِ وَقْتُ الصَّلَاةِ بِحَيْثُ لَمْ تَبْقَ فِيهِ سَعَةٌ لِغَيْرِهَا فَأَكْرَهَهُ إنْسَانٌ عَلَى فِعْلِهَا لِهَذَا هُوَ الَّذِي مَنَعَتْ الْمُعْتَزِلَةُ صِحَّةَ التَّكْلِيفِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ مَا إذَا وَافَقَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ حَيَّةٍ أَوْ كَافِرٍ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. أَمَّا مَا خَالَفَ دَاعِيَةَ الْإِكْرَاهِ دَاعِيَةُ الشَّرْعِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ التَّكْلِيفِ، وَهَذَا أَخَذَهُ مِنْ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ فِي الرَّوْضِ ": اخْتَلَفُوا فِي الْمُكْرَهِ عَلَى الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُخَاطَبٌ بِهِ، فَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيَّةُ بِجَوَازِهِ، لِأَنَّ الْعَزْمَ إنَّمَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ
الْجِنْسِ الْعَزْمُ وَالنِّيَّةُ، وَهِيَ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ، وَإِنْ كَانَ فِي الظَّاهِرِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْ النَّاسِ، وَذَلِكَ كَمَا إذَا أُكْرِهَ عَلَى الصَّلَاةِ، فَقِيلَ لَهُ صَلِّ، وَإِلَّا قُتِلْت، أَمَّا إذَا قِيلَ لَهُ: إنْ صَلَّيْت قُتِلْت، فَظَنَّ الْقَاضِي أَنَّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ، فَغَلَّطَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ، وَقَالُوا: لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالصَّلَاةِ مَأْمُورٌ بِهَا. وَإِنْ رُخِّصَ لَهُ فِي تَرْكِهَا، فَلَيْسَ التَّرْخِيصُ مِمَّا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا يَرْفَعُ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ الْمَأْثَمَ، وَهَذَا الْغَلَطُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْقَاضِي لَيْسَ بِقَوْلٍ لَهُ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ.
قَالُوا: لَا يُتَصَوَّرُ الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ إلَى الْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يُتَصَوَّرُ انْكِفَافُهُ عَنْهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ، فَكَذَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ، وَإِنَّمَا غَلِطَ إذَنْ مِنْ نَسَبَ إلَيْهِ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أَبْطَلَهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْت مَا قَالُوهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى كَلَامَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا خِلَافَ بَيْنَ أَئِمَّتِنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي اُضْطُرَّ إلَيْهِ. تَعْرِيفُ الْمُضْطَرِّ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِهِ. فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: الْمُضْطَرُّ الْمُلْجَأُ إلَى مَقْدُورِهِ لِدَفْعِ ضَرَرٍ مُتَوَقَّعٍ بِتَقْدِيرِ عَدَمِ الْمُقَدَّرِ الْمُلْجَأِ إلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: الْمُضْطَرُّ الْمَحْمُولُ عَلَى مَا عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرٌ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَضَرُّ مِنْهُ. وَزَعَمَتْ الْمُعْتَزِلَةُ قَاطِبَةً أَنَّ الْمُضْطَرَّ لَا يُنْسَبُ إلَيْهِ فِعْلٌ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَفْعَلُ فِيهِ الْغَيْرُ فِعْلًا هُوَ مِنْ قَبِيلِ مَقْدُورَاتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ فِيهِ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى مُدَافَعَةِ الْفِعْلِ، وَخَالَفَهُ ابْنُهُ أَبُو هَاشِمٍ.
فَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُلْجَأَ قَادِرٌ عَلَى مَا أُلْجِئَ إلَيْهِ وَأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ غَيْرُهُ فِعْلًا، لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَشْعَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُهُمْ فِي تَعْرِيفِهِ، فَالْمُلْجَأُ دُونَ الْمُضْطَرِّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَمِثْلُهُ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، وَدُونَهُمَا الْمُكْرَهُ الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ وَعَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ مِنْ عَدَمِ اخْتِيَارِهِ بِالْكُلِّيَّةِ وَصَارَ كَالْآلَةِ الْمَحْضَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْمٌ، هُوَ الْمُضْطَرُّ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كَمَنْ شُدَّ وَثَاقُهُ وَأُلْقَى عَلَى شَخْصٍ فَقَتَلَهُ بِثِقَلِهِ أَوْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ فَمَاتَ وَسَقَطَ عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ. وَلَيْسَ كَالْمُكْرَهِ وَلَا كَالْمُضْطَرِّ فَإِنْ انْضَمَّ إلَى عَدَمِ اخْتِيَارِهِ عَدَمُ إحْسَاسِهِ وَشُعُورِهِ فَأَبْعَدُ عَنْ الضَّمَانِ.
وَقَدْ خَرَجَ لَنَا مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُنَافِي التَّكْلِيفَ، وَهُوَ الْحَقُّ، ثُمَّ اخْتَارَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ جَائِزٌ غَيْرُ وَاقِعٍ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:«رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُكْرَهُ وَالْمُخْتَارُ سَوَاءً فِي الِاخْتِيَارِ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: قَالَ الْقَاضِي فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ ": الْفَرْقُ بَيْنَهَا أَنَّ الْمُخْتَارَ مُطْلَقُ
الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَاتِ، وَالْمُكْرَهُ مَقْصُورُ الدَّوَاعِي وَالْإِرَادَةِ عَلَى فِعْلِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَارُ غَيْرَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ صَارَتْ هَذِهِ حَالُهُ؟ قِيلَ: لِمَا يَخَافُهُ مِنْ عِظَمِ الضَّرَرِ فَهُوَ يَدْفَعُ أَعْظَمَ الضَّرَرَيْنِ بِأَدْوَنِهِمَا وَدَوَاعِيهِ مَقْصُورَةٌ عَلَيْهِ لِأَجْلِ ذَلِكَ. انْتَهَى.
وَهَاهُنَا أُمُورٌ:
أَحَدُهَا: هَذَا الْإِكْرَاهُ الَّذِي أَسْقَطَ الشَّارِعُ حُكْمَهُ لَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ حَقِيقَتِهِ لِيَتَحَقَّقَ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا لَا يُزِيلُ حَقِيقَتَهُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، أَوْ مَا يُزِيلُهَا فَلَا يَسْقُطُ الْحُكْمُ، إذْ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ، وَهَذَا كَمَنْ قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ زَوْجَتَك، فَقَالَ: طَلَّقْت زَوْجَاتِي كُلَّهُنَّ، فَيَقَعُ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا، لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ لَا مُكْرَهٌ. وَقَدْ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مَا يَتَرَدَّدُ الذِّهْنُ فِي أَنَّهُ مُزِيلٌ، لِكَوْنِهِ إكْرَاهًا أَوْ غَيْرَ مُزِيلٍ فَيَقَعُ الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ هَلْ يَسْقُطُ أَثَرُ التَّصَرُّفِ بِهِ أَمْ لَا يَسْقُطُ؟ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ: مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ شَيْئَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ إحْدَى زَوْجَتَيْك، وَحُمِلَ عَلَى تَعَيُّنِ إحْدَاهُمَا لَا عَلَى إبْهَامِ الطَّلَاقِ، فَإِنَّ الْمَحْمُولَ عَلَى الْإِبْهَامِ مَحْمُولٌ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي نَفْسِهِ لَا عَلَى أَحَدِ شَيْئَيْنِ.
فَإِذَا قِيلَ لَهُ: طَلِّقْ إمَّا هَذِهِ وَإِمَّا هَذِهِ، فَقَالَ: طَلَّقْت هَذِهِ، فَهَلْ هُوَ اخْتِيَارٌ أَمْ لَا؟ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ اخْتِيَارٌ.
الثَّانِي: أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ دُونَ الْقَلْبِيَّةِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِكْرَاهُ عَلَى عِلْمٍ بِشَيْءٍ أَوْ جَهْلٍ بِهِ أَوْ حُبٍّ أَوْ بُغْضٍ أَوْ عَزْمٍ عَلَى شَيْءٍ.
الثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ لِكَوْنِ الْإِكْرَاهِ مَرْفُوعَ الْحُكْمِ شُرُوطٌ:
أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ فِي نَظَرِ الْعُقَلَاءِ أَشَقَّ مِنْ الْمُكْرَهِ عَلَيْهِ، وَهُوَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الشَّرْعُ بِالِاعْتِبَارِ فَعُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَرْفَعُ حُكْمَ الْقِصَاصِ، وَلَا يَرْفَعُ الْإِثْمَ عَنْ الْمُكْرَهِ.
بَيَانُهُ: أَنَّ نَفْسَهُ وَنَفْسَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى مَنْ يَقْتُلُهُ مُسْتَوِيَانِ فِي نَظَرِ الشَّارِعِ، فَإِيثَارُهُ نَفْسَهُ نَاشِئٌ عَنْ شَهَوَاتِ الْأَنْفُسِ وَحُظُوظِهَا، وَمَحَبَّتِهَا الْبَقَاءَ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَزْيَدَ مِنْ مَحَبَّتِهَا لِبَقَاءِ غَيْرِهَا، وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ مِنْ نَظَرِ الْعُقَلَاءِ، الشَّرْعَ الَّذِي يَتَعَبَّدُونَ بِهِ.
وَبِهَذَا خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي اُسْتُثْنِيَتْ مِنْ قَوْلِنَا: الْإِكْرَاهُ يُسْقِطُ أَثَرَ التَّصَرُّفِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا عَلَى فِعْلِ الْمُكَلَّفِ، فَإِنَّ الشَّارِعَ حِينَئِذٍ جَعَلَ فِعْلَهُ كَلَا فِعْلٍ، فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُتَرَتِّبًا عَلَى أَمْرٍ حِسِّيٍّ لَا يُنْسَبُ إلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِ، وَإِنْ كَانَ نَاشِئًا عَنْهَا فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُ الْإِكْرَاهِ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِكْرَاهِ الْفِعْلُ وَلَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَمَوْضِعَ الْحُكْمِ الِانْفِعَالُ وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ، لِأَنَّهُ ضَرُورِيُّ الْوُقُوعِ بَعْدَ الْفِعْلِ، لِأَنَّهُ أَثَرُ الْفِعْلِ، وَالشَّارِعُ قَدْ يُرَتِّبُ الْحُكْمَ عَلَى الْفِعْلِ، وَقَدْ رَتَّبَهُ عَلَى الِانْفِعَالِ وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ الَّذِي رَفْعُهُ مَشَقَّةٌ عَلَيْنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فَكَيْفَ يَرْتَفِعُ؟ وَبِهَذَا خَرَجَ الْإِكْرَاهُ عَلَى الرَّضَاعِ وَعَلَى الْحَدَثِ، فَإِذَا أَكْرَهَ امْرَأَةً حَتَّى أَرْضَعَتْ خَمْسَ رَضَعَاتٍ حَرُمَ رَضَاعُهَا ذَلِكَ، لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِوُصُولِ اللَّبَنِ إلَى الْجَوْفِ حَتَّى لَوْ حُلِبَ قَبْلَ مَوْتِهَا وَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ مَوْتِهَا حَرُمَ، وَإِذَا أُكْرِهَ فَأَحْدَثَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، لِأَنَّ الِانْتِقَاضَ مَنُوطٌ بِالْحَدَثِ وَقَدْ وُجِدَ.
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَهَذَا مَوْضِعُ الرُّخْصَةِ وَالتَّخْفِيفِ مِنْ الشَّارِعِ، أَمَّا إذَا كَانَ بِحَقٍّ فَقَدْ كَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْمُكْرَهِ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أُكْرِهَ وَلَمْ يَسْقُطْ أَثَرُ فِعْلِهِ، وَكَانَ آثِمًا عَلَى كَوْنِهِ أَحْوَجَ إلَى أَنْ يُكْرَهَ، وَهَذَا كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ يُكْرَهَانِ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَإِسْلَامُهُمَا صَحِيحٌ وَهُمَا آثِمَانِ، لِكَوْنِهِمَا أَحْوَجَا إلَى الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ، ثُمَّ الْإِسْلَامُ إنْ وَقَعَ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ
بَاطِنًا كَمَا وَقَعَ ظَاهِرًا فَهُوَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَحُكْمُهُمَا فِي الظَّاهِرِ حُكْمُ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي الْبَاطِنِ كَافِرَانِ، لِمَا أَضْمَرَاهُ مِنْ حَيْثُ الطَّوِيَّةُ.
وَمِنْ الْإِكْرَاهِ بِالْحَقِّ أَمْرُ السَّيِّدِ عَبْدَهُ بِالْبَيْعِ، فَيَمْتَنِعُ فَلَهُ جَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ بَيْعُهُ، لِأَنَّهُ مِنْ الِاسْتِخْدَامِ الْوَاجِبِ.
الرَّابِعُ: فِي فَتَاوَى ابْنِ الصَّلَاحِ: ذَكَرُوا فِي الْأُصُولِ أَنَّ الْمُكْرَهَ يَدْخُلُ تَحْتَ الْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ، وَذَكَرُوا فِي الْفِقْهِ أَنَّ طَلَاقَهُ وَإِقْرَارَهُ وَرِدَّتَهُ لَا تَصِحُّ، فَكَيْفَ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا؟ وَأَجَابَ بِأَنَّهُ مُكَلَّفٌ حَالَةَ الْإِكْرَاهِ، وَمَعَ ذَلِكَ يُخَفَّفُ عَنْهُ بِأَنْ لَا يُلْزَمَ بِحُكْمِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَخْتَرْهُ مِنْ طَلَاقٍ وَبَيْعٍ وَغَيْرِهِمَا، لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا.
الْخَامِسُ: قِيلَ: لِلْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَأْخَذَانِ.
أَحَدُهُمَا: الْخِلَافُ فِي خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَمَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَهَا، اتَّجَهَ الْقَوْلُ بِتَكْلِيفِ الْمُكْرَهِ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الْمَخْلُوقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى وَفْقِ إرَادَتِهِ فَيَصِيرُ التَّكْلِيفُ بِهَا مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ. وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَرَ تَكْلِيفَ الْمُكْرَهِ، لِأَنَّ الْمُعْتَزِلَةَ سَمَّوْا أَنْفُسَهُمْ أَهْلَ الْعَدْلِ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقٌ لَهُمْ لَا لَهُ سُبْحَانَهُ تَحْقِيقًا لِعَدْلِهِ: إذْ لَوْ خَلَقَهَا ثُمَّ عَابَ عَلَيْهَا كَانَ ذَلِكَ جَوْرًا.
الثَّانِي: أَنَّهُ هَلْ فِي التَّخْوِيفِ وَالْإِكْرَاهِ مَا يَتَضَمَّنُ ضَرُورِيَّةَ الْفِعْلِ أَيْ: مَا يَقْتَضِي اضْطِرَارَ الْمُكْرَهِ إلَى الْفِعْلِ لِدَاعِي الطَّبْعِ أَمْ لَا؟
[الشَّرْطُ] السَّابِعُ [عِلْمُ الْمُخَاطَبِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا] أَنْ يَعْلَمَ الْمُخَاطَبُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا قَبْلَ زَمَنِ الِامْتِثَالِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ مِنْهُ قَصْدُ الِامْتِثَالِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ وُجُودَ شَرْطِهِ، وَتَمَكُّنِهِ فِي الْوَقْتِ.
قَالَ إلْكِيَا الطَّبَرِيِّ: أَجْمَعَ أَصْحَابُنَا عَلَى اشْتِرَاطِهِ، وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ: لَا نَعْلَمُهُ مُتَمَسِّكًا بِأَنَّ الْإِمْكَانَ شَرْطٌ لِتَحَقُّقِ الْأَمْرِ، وَالْجَهْلُ بِالشَّرْطِ مُحَقَّقٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجَهْلَ بِالشُّرُوطِ، نَعَمْ. أَجْمَعَ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى إطْلَاقِ وُرُودِ الْأَمْرِ بِنَاءً عَلَى تَقْدِيرِ بَقَاءِ أَكْثَرِهِمْ، وَظُهُورِ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ.
قَالَ: وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو هَاشِمٍ لَا دَافِعَ لَهُ إلَّا أَصْلٌ لِأَصْحَابِ الْأَشْعَرِيِّ فِي النَّسْخِ. وَمَذْهَبُهُ فِيهِ: أَنَّ الْحُكْمَ ثَبَتَ قَطْعًا، ثُمَّ رُفِعَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِالنَّسْخِ.
فَقَالَ: ثَانِيًا عَلَيْهِ إذَا تَوَجَّهَ أَمْرٌ عَلَى الْمُخَاطَبِ فَقَطْ تَنَجَّزَ الْأَمْرُ، ثُمَّ إذَا زَالَ إمْكَانُهُ فَلَا رَيْبَ فِي الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا الْأَمْرُ فِي الشَّرْطِ الْقَضَاءُ لَا فِي شَرْطِ أَصْلِ الْأَمْرِ.
وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ، فَإِنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ هُوَ اللَّفْظَ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ، الطَّلَبُ وَذَلِكَ يَسْتَدْعِي شَرْطَهُ الْإِمْكَانَ إلَّا أَنْ يُنْكِرَ كَوْنَ الْإِمْكَانِ شَرْطًا، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ إلَّا بِهِ، وَأَبُو هَاشِمٍ لَا يُنْكِرُ وُجُوبَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ، وَنِيَّةُ الْوُجُودِ وَالتَّرَدُّدِ لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ لَا يُنْكَرُ، فَالْخِلَافُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ. اهـ.
وَأَمَّا الْقَاضِي فَفَرْضُ الْخِلَافِ فِي الصِّحَّةِ فَقَالَ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ إذَا اتَّصَلَ بِالْمُكَلَّفِ وَلَا مَانِعَ يَمْنَعُهُ مِنْ الِامْتِثَالِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ بِشَرْطِ أَنْ يَبْقَى عَلَى صِفَةِ التَّكْلِيفِ، فَنَسْتَيْقِنُ الْحَالَ تَوَجُّهَ الْأَمْرِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَإِنْ بَقِيَ دَامَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَإِنْ مَاتَ انْقَطَعَ عَنْهُ.
وَقَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ: لَا يَصِحُّ عِلْمُهُ بِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى الِامْتِثَالِ، أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ زَمَنٍ يَسَعُهُ مَعَ تَرْكِهِ، فَقَالُوا: لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْلَمَ كَوْنُهُ مَأْمُورًا قَطْعًا. وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّا نَقُولُ: يَقْطَعُ بِذَلِكَ وَيُؤَوَّلُ تَوَقُّعُهُ فِي اسْتِدَامَةِ الْوُجُوبِ إلَى تَوَقُّعِ الِاحْتِرَامِ وَالْبَقَاءِ.
وَقَالَ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي الْأَوْسَطِ ": الْوَاحِدُ مِنَّا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَأْمُورًا عَلَى الْحَقِيقَةِ هَذَا مَذْهَبُ كَافَّةِ الْأُصُولِيِّينَ وَالْفُقَهَاءِ، وَنُقِلَ عَنْ أَبِي هَاشِمٍ أَنَّهُ قَدْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى تَكْلِيفِ الْعَاجِزِ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا؟ فَعِنْدَنَا أَنَّهُ جَائِزٌ، وَعِنْدَهُمْ لَا يَجُوزُ، وَأَبُو هَاشِمٍ بَنَاهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُ، فَالْحَقُّ مَا قَالَهُ وَإِنْ أُبْطِلَ بَطَلَ مَذْهَبُهُ.
وَاسْتَدَلَّ الْقَاضِي بِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنَّا يَجِبُ عَلَيْهِ الشُّرُوعُ فِي الْعِبَادَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا وَالتَّقَرُّبِ بِهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ بِكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِهَا، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ.
وَشُبْهَةُ أَبِي هَاشِمٍ: أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْأَمْرِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ لَنَا فَلَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ عَالِمًا اهـ.
وَأَمَّا أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ، فَقَالَ: الْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُكْتَسَبِ.
عِلْمُ الْمُكْتَسِبِ بِهِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ كَوْنُ الْمَقْدُورِ مِمَّا يَصِحُّ الْعِلْمُ بِهِ.
قَالَ: وَاخْتَلَفُوا مَتَى يَصِحُّ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْفِعْلِ؟ فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا اتَّصَلَ الْخِطَابُ بِهِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ الِامْتِثَالِ عَلِمَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَمْرِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ، فَيُقْطَعُ بِهِ لَكِنْ يَفْتَقِرُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا إلَى الثَّانِي وَالثَّالِثِ مِنْ الْأَوْقَاتِ بِشَرْطِ وَفَاءِ شَرَائِطِ التَّكْلِيفِ.
وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ تَوَجَّهَ الْخَطَأُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَمْضِ زَمَنُ الْإِمْكَانِ حَتَّى لَوْ اشْتَغَلَ بِالِامْتِثَالِ فِي الْحَالِ لَمْ يَعْرِفْ الْوُجُوبَ أَيْضًا مَا لَمْ يَمْضِ زَمَنٌ يَتَصَوَّرُ فِيهِ الِامْتِثَالَ، وَعُمْدَتُهُمْ أَنَّهُ غَيْرُ عَالِمٍ بِبَقَاءِ الْإِمْكَانِ لَهُ إلَى انْقِرَاضِ زَمَانٍ يَمْتَنِعُ الْفِعْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْإِمْكَانُ شَرْطُ التَّكْلِيفِ،
وَالْجَاهِلُ بِوُقُوعِ الشَّرْطِ جَاهِلٌ بِوُقُوعِ الْمَشْرُوطِ لَا مَحَالَةَ، وَتَمَسَّكَ الْقَاضِي بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَوَجُّهِ الْأَمْرِ إلَى الْمُكَلَّفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَقَوْلُهُمْ: يُفْضِي إلَى أَنَّهُ لَيْسَ يَعْلَمُ أَحَدٌ عَلَى بَسِيطِ الْأَرْضِ أَنَّهُ يُنْهَى عَنْ الْقَتْلِ وَالزِّنَا، وَكَمَا لَا يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَعْلَمُ غَيْرُهُ مِنْهُ.
وَمَالَ الْإِمَامُ إلَى قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَقَالَ: تَشْغِيبُ الْقَاضِي بِالْإِجْمَاعِ تَهْوِيلٌ بِلَا تَحْصِيلٍ، فَإِنَّ إطْلَاقَاتِ الشَّرْعِ لَا تُعْرَضُ عَلَى مَأْخَذِ الْحَقَائِقِ بَلْ تُحْمَلُ عَلَى حُكْمِ الْعُرْفِ وَالتَّفَاهُمِ الظَّاهِرِ كَالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ تَعَاطِيهَا.
تَنْبِيهَاتٌ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ
الْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ: الْقَطْعِيُّ أَيْ: أَنَّهُ هَلْ يَقْطَعُ بِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا قَبْلَ زَمَنِ الِامْتِثَالِ؟ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْقَاضِي وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَابْنُ بَرْهَانٍ، وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ أَبَا هَاشِمٍ لَا يُخَالِفُ فِي الظَّنِّ، فَإِنَّ الشُّرُوعَ فِي الْفِعْلِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَطْعُ بَلْ تَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ مَهْمَا بَادَرَ وَاسْتَمَرَّ فِي حَيَاتِهِ إلَى الْفَرَاغِ. [التَّنْبِيهُ] الثَّانِي
أَنَّ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا كَانَ الْآمِرُ عَالِمًا بِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِامْتِثَالِ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بَقَاءَهُ فَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَأْمُورَ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَيْضًا
[التَّنْبِيهُ] الثَّالِثُ.
أَنَّ الْخِلَافَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآحَادِ لَا فِي حَقِّ الْجِنْسِ، فَقَدْ وَافَقَ أَبُو هَاشِمٍ عَلَى أَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ، لِأَنَّ الشَّرْطَ وَهُوَ الِاسْتِطَاعَةُ مَعْلُومٌ هُنَا قَطْعًا، لِعِلْمِنَا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَعُمُّ الْكُلَّ بِالْهَلَاكِ كَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ.
وَفَرَضَ الْإِمَامُ الْخِلَافَ فِيمَا إذَا خَصَّ بِالْخِطَابِ وَاحِدًا وَكَانَ مُنْدَرِجًا مَعَ آخَرَ تَحْتَ عُمُومِ الْخِطَابِ، وَهُوَ فِي حَالَةِ اتِّصَالِ الْخِطَابِ بِهِ مُسْتَجْمِعٌ شَرَائِطَ التَّكْلِيفِ. وَلَمْ يَقِفْ الصَّفِيُّ الْهِنْدِيُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْخِلَافِ: هَذَا إذَا كَانَ الْأَمْرُ خَاصًّا، فَإِنْ كَانَ عَامًّا وَلَمْ يُعْلَمْ انْقِرَاضُ الْجَمِيعِ بَلْ بَعْضُهُمْ فَأَظُنُّ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِيهِ، إذْ أَكْثَرُ أَوَامِرِ اللَّهِ كَذَلِكَ، فَإِنَّ بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ يَمُوتُ قَبْلَ التَّمَكُّنِ، وَكَلَامُ بَعْضِهِمْ يُشْعِرُ بِخِلَافٍ فِيهِ أَيْضًا. انْتَهَى.
مَسْأَلَةٌ [هَلْ يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ]
قِيلَ: لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّكْلِيفِ عِلْمُ الْمُكَلَّفِ بَلْ يُشْتَرَطُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْعِلْمِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ هَلْ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: يَثْبُتُ الْمُبْتَدَأُ دُونَ النَّاسِخِ، قَالَ: وَالْمَرْجِعُ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْبَلَاغِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى:{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] وَلَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، الصَّحَابَةَ بِاسْتِدْرَاكِ مَا فَعَلُوهُ عَلَى خِلَافِ الْأَمْرِ حَيْثُ جَهِلُوهُ كَمَا لَمْ يَأْمُرْ الْمُشَمِّتَ الْعَاطِسَ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُصَلِّيَ إلَى قِبْلَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَغَيْرِهِ.