الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[مَسْأَلَةٌ ثُبُوتُ اللُّغَةِ بِالْقِيَاسِ]
لَا خِلَافَ فِي ثُبُوتِ اللُّغَةِ بِالنَّقْلِ وَالتَّوْقِيفِ، وَهَلْ تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْأُصُولِيِّينَ، وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ فِي اللُّمَعِ " وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي الْحَاوِي "، وَالرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ "، فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ حَاتِمٍ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِهِ اللَّامِعِ "، وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ إلَى الْمَنْعِ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ اللُّغَةِ دُونَ الشَّرْعِ، وَنَقَلَهُ عَنْ مُعْظَمِ الْمُحَقِّقِينَ، وَنَقَلَهُ فِي الْمَحْصُولِ " عَنْ مُعْظَمِ أَصْحَابِنَا وَعَنْ جُمْهُورِ الْحَنَفِيَّةِ، وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ عَنْ الْحَنَفِيَّةِ وَبَعْضِ أَصْحَابِنَا، وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ فِي التَّقْرِيبِ " عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ خُوَيْزِ مَنْدَادٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْآمِدِيَّ وَابْنُ الْحَاجِبِ إلَّا أَنَّهُمَا وَهِمَا فِي النَّقْلِ عَنْ الْقَاضِي فَنَقَلَا عَنْهُ الْجَوَازَ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ فِي كِتَابِ التَّقْرِيبِ " إنَّمَا هُوَ الْمَنْعُ، وَكَذَا نَقَلَهُ عَنْهُ الْمَازِرِيُّ وَالْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَنَقَلَهُ ابْنُ جِنِّي وَابْنُ سِيدَهْ فِي كِتَابِ الْقَوَافِي " عَنْ النَّحْوِيِّينَ.
قَالَ: لِأَنَّ الْعَرَبَ قَدْ فَرَغَتْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْأَشْيَاءِ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَبْتَدِعَ
أَسْمَاءً، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ الِاشْتِقَاقَ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، لِئَلَّا يَقَعَ اللَّبْسُ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ لِلْبَيَانِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ سَمَّوْا الزُّجَاجَةَ قَارُورَةً لِاسْتِقْرَارِ الشَّيْءِ فِيهَا، فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نُسَمِّيَ الْجُبَّ وَالْبَحْرَ قَارُورَةً لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهِمَا. وَالْأَكْثَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الطَّبَرِيُّ وَابْنُ بَرْهَانٍ وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ عَلَى الْجَوَازِ.
قُلْت: مِنْهُمْ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنُ سُرَيْجٍ وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ وَنَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ فِي كِتَابِ التَّحْصِيلِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الشُّفْعَةِ: إنَّ الشَّرِيكَ جَارٍ، وَقَاسَهُ عَلَى تَسْمِيَةِ الْعَرَبِ امْرَأَةَ الرَّجُلِ جَارَهُ.
وَقَالَ ابْنُ فُورَكٍ: إنَّهُ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، إذْ قَالَ: الشَّرِيكُ جَارٌ فِي مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ يُقَالُ: امْرَأَتُك أَقْرَبُ إلَيْك أَمْ جَارُك؟ وَنَقَلَهُ سُلَيْمٌ الرَّازِيَّ عَنْ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ النَّحْوِيِّينَ، وَقَالَ فِي الْمَحْصُولِ ": نَقَلَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ " أَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ عُلَمَاءِ الْعَرَبِيَّةِ كَالْمَازِنِيِّ وَأَبِي عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ، وَاخْتَارَهُ الْإِمَامُ الرَّازِيَّ.
قَالَ: وَمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ الْعَرُوضِيُّونَ مِنْ أَسْمَاءِ الْبُحُورِ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالنَّقْلِ لِمَا وَضَعَتْهُ الْعَرَبُ فِي أَوَّلِيَّةِ مَوْضُوعِ اللُّغَةِ.
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ فِي فِقْهِ الْعَرَبِيَّةِ " أَجْمَعَ أَهْلُ اللُّغَةِ إلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ أَنَّ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ دُرُسْتَوَيْهِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّرْتِيبِ ": تَكَلَّمْت يَوْمًا مَعَ أَبِي الْحُسَيْنِ بْنِ الْقَطَّانِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَصَرْت الْقَوْلَ بِجَوَازِ
أَخْذِ الْأَسَامِي قِيَاسًا، فَقَالَ مَنْ يَقُولُ بِهَذَا يَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ ابْنَ دُرُسْتَوَيْهِ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ رَجُلًا كَبِيرًا فِي النَّحْوِ وَاللُّغَةِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ يُتَّهَمُ فِي دِينِهِ فَقَالَ ابْنُ دُرُسْتَوَيْهِ: يَجُوزُ أَخْذُ الْأَسَامِي قِيَاسًا إذَا كَانَ مِمَّا يُقَاسُ عَلَيْهِ، فَمِمَّا أُخِذَ وَاشْتُقَّ اسْمُهُ مِنْ مَعْنًى فِيهِ مِثْلَ الْقَارُورَةِ تُسَمَّى قَارُورَةً، لِاسْتِقْرَارِ الْمَاءِ فِيهَا، فَلِكُلِّ مَا فِي مَعْنَاهَا يَكُونُ قَارُورَةً.
قِيلَ: وَأَيْشِ يَقُولُ فِي الْجُبِّ يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فِيهِ؟ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى قَارُورَةً؟ قَالَ: نَعَمْ.
قِيلَ: فَمَا تَقُولُ فِي الْبَحْرِ وَالْحَوْضِ؟ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ، وَرَكَّبَ الْبَابَ كُلَّهُ. فَاسْتَبْشَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ، وَشَنَّعُوا عَلَيْهِ. فَقُلْت لِأَبِي الْحُسَيْنِ: أَيْشٍ إذَا أَخْطَأَ وَاحِدٌ فِي الْقِيَاسِ؟ بَلْ كَانَ مِنْ سَبِيلِهِ أَنْ يَحْتَرِزَ فِيهِ بِنَوْعٍ مِنْ الِاحْتِرَازِ بِأَنْ يَقُولَ: مَا يَسْتَقِرُّ الْمَاءُ فِيهِ وَيَخِفُّ عَلَى الْيَدِ وَنَحْوُهُ وَحَكَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ: قَوْلًا ثَالِثًا أَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ: الْقَائِلُونَ بِالْجَوَازِ اخْتَلَفُوا فِي الْوُقُوعِ عَلَى وَجْهَيْنِ. وَقَالَ ابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ ": الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ بِجَوَازِ إثْبَاتِ الْأَسَامِي شَرْعًا، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا لُغَةً، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ، وَيُخَرَّجُ مِمَّا سَيَأْتِي فِي عَلَامَاتِ الْحَقِيقَةِ مَذْهَبٌ آخَرُ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فَيَجُوزُ الْقِيَاسُ فِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ، وَيَمْتَنِعُ فِيمَا ثَبَتَ كَوْنُهُ مَجَازًا احْتَجَّ الْمَانِعُ بِأَنَّ الْقِيَاسَ: إلْحَاقُ مَسْكُوتٍ عَنْهُ بِمَنْطُوقٍ بِهِ، وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ فِي اللُّغَةِ، لِأَنَّ الْفَرْعَ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ لُغَتِهَا، وَإِنْ أُرِيدَ إلْحَاقُهُ بِمَا نَطَقَتْ بِهِ، فَهُوَ وَضْعٌ مِنْ جِهَتِهِ لَا مِنْ جِهَتِهِمْ، فَلَا يَكُونُ مِنْ لُغَتِهِمْ.
وَاحْتَجَّ الْمُجَوِّزُ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ فِي الِاشْتِقَاقِ وَالنَّحْوِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ النَّحْوِيَّ تَصَرُّفٌ فِي أَحْوَالِ الْكَلِمِ فَلَيْسَ وَضْعًا مُسْتَأْنَفًا بِخِلَافِ وَضْعِ ذَوَاتِ الْكَلِمِ، وَالْأَقْيِسَةُ النَّحْوِيَّةُ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مَسْكُوتٌ عَنْهُ،
بَلْ إمَّا مَنْطُوقٌ بِعَيْنِهِ أَوْ بِنَظِيرِهِ، وَمِنْ مُهِمَّاتِ هَذَا الْأَصْلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِهِ إلْحَاقُ النَّبِيذِ بِالْخَمْرِ فِي الِاسْمِ حَتَّى يُحْكَمَ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ. وَنَحْنُ وَإِنْ لَمْ نَقُلْ بِالْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ، فَنَحْنُ نَحْكُمُ بِتَحْرِيمِ قَلِيلِ النَّبِيذِ تَمَسُّكًا بِأَصْلِ الِاسْمِ فَإِنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّيهِ خَمْرًا، كَمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ فَهَمَتْ الْعَرَبُ مِنْهَا تَحْرِيمَ النَّبِيذِ وَغَيْرِهِ، فَإِنَّ أَقْوَامًا أَرَاقُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنْ النَّبِيذِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ وَلَا اسْتِفْسَارٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ لُغَتِهِمْ وَاصْطِلَاحِهِمْ. ثُمَّ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَعَانِي الدَّائِرَةِ مَعَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْجُودَةِ فِيهَا وُجُودًا وَعَدَمًا كَالْخَمْرِ اسْمٌ لِلْمُسْكِرِ الْمُعْتَصِرِ مِنْ الْعِنَبِ، لِيَصِحَّ الْإِلْحَاقُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وُضِعَ اسْمُ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ. أَمَّا الْأَعْلَامُ كَزَيْدٍ وَعَمْرٍو فَلَا يَجْرِي فِيهَا وِفَاقًا.
قَالَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْقَطَّانِ، وَالْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي الْمُلَخَّصِ " وَالْمَازِرِيُّ.
قَالَ: وَالْمَعْنَى فِيهِ كَوْنُهَا غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ فَهِيَ كَالْمَنْصُوصِ لَا تُعَلَّلُ.
قَالَ: وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ الصَّادِرَةِ فِي مَعَانٍ مَعْقُولَةٍ كَالْخَمْرِ وَالزِّنَى، وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ دُونَ الْجَوَامِدِ وَأَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَجْنَاسِ، وَنَازَعَهُ الْمُقْتَرِحُ بِأَنَّ الْمُشْتَقَّةَ قَدْ نُقِلَ عَنْهَا فِي الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ طَرَدُوا فِيهِ الِاشْتِقَاقَ، وَقِسْمٌ: مَنَعُوهُ فِيهِ، وَقِسْمٌ: لَمْ يُعْلَمْ هَلْ طَرَدُوهُ أَوْ مَنَعُوهُ.
قَالَ: وَهَذَا مَوْضِعُ الْخِلَافِ: أَمَّا الْأَوَّلَانِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِمَا نِزَاعٌ، لِأَنَّا إذَا عَلِمْنَا الِاشْتِقَاقَ كَانَ هَذَا مَأْخُوذًا مِنْ اللَّفْظِ لَا مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، وَإِنْ عَلِمْنَا الْمَنْعَ مِنْ طَرْدِ الِاشْتِقَاقِ امْتَنَعَ الْقِيَاسُ لِئَلَّا يُلْتَحَقَ بِلُغَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِيهَا فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّا إذَا شَكَكْنَا فِي أَنَّهُمْ أَجَازُوا الِاطِّرَادَ أَوْ مَنَعُوهُ فَتَعَيَّنَ أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ إلَّا السَّمْعُ، وَلَمْ يُنْقَلْ لَنَا عَنْ الْعَرَبِ مَنْعٌ.
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: لَيْسَ مِنْ مَحَلِّ الْخِلَافِ مَا عُلِمَ أَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ وَضَعُوهُ لِمَعْنًى يَشْمَلُ الْجُزَيْئَاتِ، فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّ إطْلَاقَهُ عَلَى الْجُزْئِيَّاتِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَلَا يَجْرِي أَيْضًا فِيمَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ إرَادَةٌ إلَى الْمَعْنَى الْكُلِّيِّ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ نَصُّهُمْ أَنَّ الْمَوْضُوعَ هُوَ الْمَعْنَى الْكُلِّيُّ. مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُنَا: رَجُلٌ، وَالثَّانِي قَوْلُنَا: الْفَاعِلُ مَرْفُوعٌ وَالْمَفْعُولُ مَنْصُوبٌ، بَلْ مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا أَطْلَقُوا اسْمًا مُشْتَمِلًا عَلَى وَصْفٍ وَاعْتَقَدْنَا أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِذَلِكَ الْوَصْفِ فَأَرَدْنَا تَعَدِّيَةَ الِاسْمِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ، كَمَا إذَا اعْتَقَدْنَا أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْخَمْرِ بِاعْتِبَارِ التَّخْمِيرِ، فَعَدَّيْنَاهُ إلَى النَّبِيذِ.
وَكَذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: إنَّ الْخِلَافَ لَا يَجْرِي فِيمَا ثَبَتَ بِالِاسْتِقْرَاءِ كَرَفْعِ الْفَاعِلِ، لَكِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا الطَّيِّبَ قَالَ: مَا طَرِيقُ اللُّغَةِ مِنْ اسْمٍ أَوْ إعْرَابٍ هَلْ يَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ؟ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إلَى ثُبُوتِهِ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ، وَبِهِ قَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ. اهـ.
وَجَعَلَ فِي الْإِرْشَادِ " مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا إذَا أُرِيدَ إلْحَاقُ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بِقِيَاسٍ لُغَوِيٍّ أَوْ الْأَسْمَاءِ الشَّرْعِيَّةِ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ. قَالَ: فَإِنْ أُرِيدَ إلْحَاقُهُ بِهِ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ لَمْ يَجُزْ قَطْعًا، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ سَابِقَةٌ عَلَى الشَّرْعِ، فَلَمْ يَصِحَّ إثْبَاتُهَا بِعِلَلٍ شَرْعِيَّةٍ.
حَكَاهُ بَعْضُ شُرَّاحِ اللُّمَعِ ".
وَقَالَ ابْنُ الصَّبَّاغِ فِي " الْعُدَّةِ ": يَمْتَنِعُ إثْبَاتُ الِاسْمِ اللُّغَوِيِّ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ، مِثْلُ أَنْ يَثْبُتَ فِيمَنْ وَطِئَ الْغُلَامَ أَنَّهُ يُسَمَّى زِنًى، لِأَنَّهُ وَطِئَ فِي فَرْجٍ، لِأَنَّ الْأَسْمَاءَ اللُّغَوِيَّةَ سَابِقَةٌ لِلشَّرْعِ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ، وَإِنَّمَا الِاسْمُ الشَّرْعِيُّ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِقِيَاسٍ شَرْعِيٍّ مِثْلُ تَسْمِيَةِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ صَلَاةٌ.
وَقَالَ الْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " تَحْرِيرُ النِّزَاعِ: أَنَّ صِيَغَ التَّصَارِيفِ عَلَى
الْقِيَاسِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ مَصْدَرٍ نُقِلَ بِالِاتِّفَاقِ، إذْ هُوَ فِي حُكْمِ الْمَنْقُولِ، وَتَبْدِيلُ الْعِبَارَاتِ مُمْتَنِعٌ بِالِاتِّفَاقِ كَتَسْمِيَةِ الْفَرَسِ دَارًا، وَالدَّارِ فَرَسًا. وَمَحَلُّ النِّزَاعِ فِي الْقِيَاسِ عَلَى عِبَارَةٍ تُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ حَائِدٌ عَنْ نَهْجِ الْقِيَاسِ كَقَوْلِهِمْ لِلْخَمْرِ: خَمْرٌ لِأَنَّهُ يُخَامِرُ الْعَقْلَ، فَهَلْ يُقَاسُ عَلَيْهِ سَائِرُ الْمُسْكِرَاتِ؟ جَوَّزَهُ الْأُسْتَاذُ، وَالْمُخْتَارُ: مَنْعُهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي. اهـ.
وَقَالَ الصَّيْرَفِيُّ: الْقِيَاسُ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى عِلَّةٍ، وَالْأَسْمَاءُ لَا قِيَاسَ لَهَا، وَإِنَّمَا الْعِلَّةُ كَالْحَدِّ لِلشَّيْءِ وَالْعِلْمِ عَلَيْهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ صُورَةَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَصْلُحُ الْجَرْيُ فِيهِ عَلَى مُقْتَضَى الِاشْتِقَاقِ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ قَصْدُ الْقَصْرِ أَوْ التَّعَدِّيَةِ كَتَسْمِيَةِ عَصِيرِ الْعِنَبِ خَمْرًا مِنْ الْمُخَامَرَةِ أَوْ التَّخْمِيرِ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْكِبْرِيتِ الْأَحْمَرِ "، أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ الْأَسْمَاءِ اللُّغَوِيَّةِ بِالْقِيَاسِ اللُّغَوِيِّ جَائِزٌ إذَا كَانَ الِاسْمُ اسْمَ مَعْنًى، وَكَانَ الْقِيَاسُ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ كَالِاشْتِقَاقِ، أَمَّا هَلْ يَجُوزُ إثْبَاتُ الْأَسْمَاءِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ أَوْ لَا؟ وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ، وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَغَيْرُهُ إلَى الْجَوَازِ فَأَثْبَتُوا لِنَبِيذِ التَّمْرِ اسْمَ الْخَمْرِ بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، ثُمَّ أَوْجَبُوا الْحَدَّ بِشُرْبِهِ، وَأَثْبَتُوا لِفِعْلِ اللِّوَاطِ اسْمَ الزِّنَى بِالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ، ثُمَّ أَوْجَبُوا حَدَّ الزِّنَى فِيهِمَا بِالنَّصِّ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِرَاعُ أَلْفَاظٍ مُبْتَكَرَةٍ بِالْقِيَاسِ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ: وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ مِمَّا لَمْ يَضَعُوا لَهُ اسْمًا وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فَلَمْ يَعْرِفُوهُ فِي وَقْتِهِمْ، فَلَنَا أَنْ نُسَمِّيَهُ.
قَالَ: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَيْفِيَّتِهِ، فَقَالَ مَنْ جَوَّزَ أَخْذَ الْأَسَامِي قِيَاسًا: إنَّا نَقِيسُ مَا لَمْ نَعْرِفْهُ فَنَعْزِيهِ إلَى مَا يُشْبِهُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ الْعَرَبِ بِأَصْلِهَا.
وَقَالَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْهُ: إنَّا نُسَمِّيهِ بِمَا شِئْنَا لِلْحَاجَةِ الدَّاعِيَةِ إلَيْهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنَّهُ كَمَا يُعَرَّبُ مِنْ كَلَامِ الْفَرَسِ لِلْحَاجَةِ.
تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ الْأَوَّلُ][الْقِيَاسُ فِي الْمَجَازِ]
الْخِلَافُ فِي الْقِيَاسِ فِي اللُّغَةِ كَمَا يَجْرِي فِي الْحَقِيقَةِ فِي الْمَجَازِ أَيْضًا، وَأَشَارَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ فِي الْمَجَازِ بِلَا خِلَافٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَنْعَ فِي الْقِيَاسِ فِي الْمَجَازِ لَا يُوقِعُ فِي ضَرُورَةٍ لِبَقَاءِ اسْمِ الْحَقِيقَةِ، وَلَوْ مَنَعْنَا الْقِيَاسَ فِي الْحَقِيقَةِ بَقِيَتْ بِغَيْرِ اسْمٍ، وَقَدْ يُحْتَاجُ إلَى التَّعْبِيرِ عَنْهَا فَيُوقِعُ مَنْعُ الْقِيَاسِ فِي ضَرَرٍ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: هَذَا إنَّمَا يَتِمُّ لَهُ فِي ذَاتٍ لَا اسْمٍ لَهَا أَصْلًا فِي لِسَانِ الْعَرَبِ.
[الْمَجَازُ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْحَقِيقَةِ]
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَجَازَ أَخْفَضُ رُتْبَةً مِنْ الْحَقِيقَةِ فَيَجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ مَنَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْقِيَاسَ فِي الْمَجَازِ.
قَالَ: فَلَا يُقَالُ: سَأَلْت الثَّوْبَ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِمْ سَأَلْت الرَّبْعَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْتِيبِ مِنْ " خِلَافِهِ ": أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَجَازَ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْقِيَاسِ.
التَّنْبِيهُ الثَّانِي]
قِيلَ: هَذَا الْخِلَافُ فِي نَفْسِ اللُّغَةِ. أَمَّا حُكْمُهَا فَلَا خِلَافَ فِيهِ كَقِيَاسِ النَّحْوِيِّ " إنَّ " النَّافِيَةِ فِي الْعَمَلِ عَلَى " مَا " النَّافِيَةِ بِجَامِعِ كَوْنِهِمَا وَضْعًا عَلَى حَرْفَيْنِ كَنَفْيِ الْحَالِ، وَهَذَا عَجِيبٌ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَفْرُوضَةٌ فِي اللُّغَةِ، وَهِيَ غَيْرُ النَّحْوِ، وَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ النَّحْوَ بِالْقِيَاسِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَقَايِيسِ كَلَامِ الْعَرَبِ؟
قَالَ ابْنُ خَرُوفٍ: لَمَّا كَانَ كَلَامُ الْعَرَبِ لَا يُضْبَطُ بِالْحِفْظِ انْتَدَبَ لَهُ الْأَئِمَّةُ، وَوَضَعُوا لَهُ قَوَانِينَ يُعْلَمُ بِهَا كَلَامُهُمْ، فَصَارَ النَّوْعُ الَّذِي يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى بِالنَّحْوِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَالنَّوْعُ الَّذِي لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ، هُوَ اللُّغَةُ، وَيَسْتَوِي فِي حَمْلِهِ الْعَالِمُ وَالْجَاهِلُ، لِأَنَّهُ قَيْدُ اللَّفْظِ. وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ جِنِّي فِي الْخَصَائِصِ: قَالَ لِي أَبُو عَلِيٍّ: وَلِأَنَّ مَسْأَلَةً وَاحِدَةً مِنْ الْقِيَاسِ أَنْبَهُ وَأَنْبَلُ مِنْ كِتَابِ لُغَةٍ عِنْدَ عُيُونِ النَّاسِ، وَقَالَ لِي أَيْضًا: أَخْطَأُ فِي خَمْسِينَ مَسْأَلَةً مِنْ اللُّغَةِ، وَلَا أَخْطَأُ فِي وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِيَاسِ.
قَالَ ابْنُ جِنِّي: وَصَدَقَ، لِأَنَّهُ بِالْقِيَاسِ ضُبِطَ كَلَامُهُمْ، وَجَمَعُوا الْكَثِيرَ الَّذِي لَا يَضْبِطُهُ الْحِفْظُ الْقَلِيلُ بِالْقِيَاسِ، وَاسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ حِفْظِ مَا لَا يَنْحَصِرُ إذْ فَاتَهُمْ الْأَصْلُ عَنْ الْعَرَبِ. اهـ.