الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَيْئًا مِنْ الْمُكَرَّرَاتِ، ثُمَّ الْجَوَابُ أَنَّ مَنَاطَ التَّكْفِيرِ غَيْرُ مُنَاطِ الْقَطْعِ، فَكَمْ مِنْ قَطْعِيٍّ لَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُهُ بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالظَّنِّ كَمَا فَعَلَ غَيْرُ وَاحِدٍ. ثُمَّ نَقُولُ: نَفْسُ الْآيَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِقَاطِعٍ، فَأَمَّا تَكْرَارُهَا فِي الْمُحَالِّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَاطِعِ.
[مَسْأَلَةٌ فِي الْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ]
ِ] حَقِيقَةُ الشَّاذِّ لُغَةً: الْمُنْفَرِدُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ عَكْسُ الْمُتَوَاتِرِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْمُتَوَاتِرَ قِرَاءَةٌ سَاعَدَهَا خَطُّ الْمُصْحَفِ مَعَ صِحَّةِ النَّقْلِ فِيهَا وَمَجِيئُهَا عَلَى الْفَصِيحِ مِنْ لُغَةِ الْعَرَبِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو شَامَةَ: فَمَتَى اخْتَلَّ أَحَدُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ أُطْلِقَ عَلَى تِلْكَ الْقِرَاءَةِ أَنَّهَا شَاذَّةٌ. قَالَ: وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَنَصَّ عَلَيْهِ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيُّ. ذَكَرَهُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ فِي كِتَابِ جَمَالِ الْقُرَّاءِ ".
ثُمَّ الْكَلَامُ فِي مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُرَادِ بِهَا وَالْمَعْرُوفُ أَنَّهَا مَا وَرَاءَ السَّبْعِ، وَالصَّوَابُ: مَا وَرَاءَ الْعَشْرِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ أُخَرُ: يَعْقُوبُ وَخَلَفٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ يَزِيدُ بْنُ الْقَعْقَاعِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ غَيْرُ مُتَوَاتِرَةٍ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَغَوِيّ فِي تَفْسِيرِهِ " الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ الْقِرَاءَةِ بِهَا.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْعَوَاصِمِ: ضَبْطُ الْأَمْرِ عَلَى سَبْعِ قِرَاءَاتٍ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ جَمَعَ قَوْمٌ ثَمَانِيَ قِرَاءَاتٍ، وَقَوْمٌ عَشْرًا، أَصْلُ ذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم، قَالَ:«أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَى سَبْعِ أَحْرُفٍ» فَظَنَّ قَوْمٌ أَنَّهَا سَبْعُ قِرَاءَاتٍ وَهَذَا بَاطِلٌ، وَتَيَمَّنَ آخَرُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَجَمَعُوا سَبْعَ قِرَاءَاتٍ. وَبَعْدَ أَنْ ضَبَطَ اللَّهُ الْحُرُوفَ وَالسُّوَرَ، فَلَا مُبَالَاةَ بِهَذِهِ التَّكْلِيفَاتِ. وَسَبَقَ عَنْهُ أَنَّ قِرَاءَةَ أَبِي جَعْفَرٍ ثَابِتَةٌ لَا كَلَامَ فِيهَا. اهـ.
الثَّانِي: بِالنِّسْبَةِ إلَى الْقِرَاءَةِ بِهَا.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ السَّخَاوِيُّ: وَلَا تَجُوزُ الْقِرَاءَةُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّوَاذِّ لِخُرُوجِهَا عَنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَعَنْ الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ بِهِ الْقُرْآنُ، وَهُوَ الْمُتَوَاتِرُ وَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْعَرَبِيَّةِ وَخَطِّ الْمُصْحَفِ، لِأَنَّهُ جَاءَ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ، إنْ كَانَتْ نَقَلَتُهُ ثِقَاتٍ.
قَالَ أَبُو شَامَةَ: وَالشَّأْنُ فِي الضَّبْطِ مَا تَوَاتَرَ مِنْ ذَلِكَ وَمَا اُجْتُمِعَ عَلَيْهِ، وَنَقَلَ الشَّاشِيُّ فِي الْمُسْتَظْهِرِيِّ " عَنْ الْقَاضِي الْحُسَيْنِ أَنَّ الصَّلَاةَ بِالْقِرَاءَةِ الشَّاذَّةِ لَا تَصِحُّ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي فَتَاوِيهِ ": تَحْرُمُ.
الثَّالِثُ: فِي الِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي الْأَحْكَامِ وَتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ. اعْلَمْ أَنَّ الْآمِدِيَّ نَسَبَ الْقَوْلَ بِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ إلَى الشَّافِعِيِّ. وَكَذَا ادَّعَى
الْإِبْيَارِيُّ فِي شَرْحِ الْبُرْهَانِ " أَنَّهُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَتَبِعَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَكَذَلِكَ النَّوَوِيُّ، فَقَالَ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ " مَذْهَبُنَا: أَنَّ الْقِرَاءَةَ الشَّاذَّةَ لَا يُحْتَجُّ بِهَا، وَلَا يَكُونُ لَهَا حُكْمُ الْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ نَاقِلَهَا لَمْ يَنْقُلْهَا إلَّا عَلَى أَنَّهَا قُرْآنٌ، وَالْقُرْآنُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّوَاتُرِ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا لَمْ يَثْبُتْ خَبَرًا، وَالْمُوقِعُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ دَعْوَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ فِي الْبُرْهَانِ ": أَنَّ ذَلِكَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَتَبِعَهُ أَبُو نَصْرِ بْنُ الْقُشَيْرِيّ وَالْغَزَالِيُّ فِي الْمَنْخُولِ " وَإِلْكِيَا الطَّبَرِيِّ فِي التَّلْوِيحِ "، وَابْنُ السَّمْعَانِيِّ فِي الْقَوَاطِعِ " وَغَيْرُهُمْ، فَقَالَ إلْكِيَا: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ مَرْدُودَةٌ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
قَالَ: وَأَمَّا إيجَابُ أَبِي حَنِيفَةَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِأَجْلِ قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَلَيْسَ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ أَثْبَتَ نَظْمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ، وَلَكِنْ أَمْكَنَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَدِيمِ الزَّمَانِ، ثُمَّ نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ، فَانْدَرَسَ مَشْهُورٌ رَسْمُهُ فَنُقِلَ آحَادًا، وَالْحُكْمُ بَاقٍ، وَهَذَا لَا يُسْتَنْكَرُ فِي الْعُرْفِ.
قَالَ: وَالشَّافِعِيُّ لَا يُرَدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ اشْتِرَاطُ التَّتَابُعِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ: لَعَلَّ مَا زَادَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ تَفْسِيرًا مِنْهُ، وَمَذْهَبًا رَآهُ، فَلَا بُعْدَ فِي تَقْدِيرِهِ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْقُرْآنِ. فَإِنْ قَالُوا: لَا يَجُوزُ ضَمُّ الْقُرْآنِ إلَى غَيْرِهِ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ضَمُّ مَا نُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ إلَى الْقُرْآنِ تِلَاوَةً. وَهَذَا قَدْ يَدُلُّ مِنْ وُجْهَةٍ عَلَى بُطْلَانِ نَقْلِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَإِنَّا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ نُبْعِدُ قِرَاءَةَ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ مَعَ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ: وَالدَّلِيلُ الْقَاطِعُ عَلَى إبْطَالِ نِسْبَةِ الْقِرَاءَاتِ الشَّاذَّةِ إلَى الْقُرْآنِ أَنَّ
الِاهْتِمَامَ بِالْقُرْآنِ مِنْ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَذَلُوا أَرْوَاحَهُمْ فِي إحْيَاءِ مَعَالِمِ الدِّينِ يَمْنَعُ تَقْدِيرَ دُرُوسِهِ وَارْتِبَاطَ نَقْلِهِ بِالْآحَادِ.
قُلْت: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيَّ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ إنَّمَا عَمِلُوا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ لِاسْتِفَاضَتِهَا وَشُهْرَتِهَا عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ، وَإِنْ كَانَ، إنَّمَا نُقِلَتْ إلَيْنَا الْآنَ بِطَرِيقِ الْآحَادِ، لِأَنَّ النَّاسَ تَرَكُوا الْقِرَاءَةَ بِهَا، وَاقْتَصَرُوا عَلَى غَيْرِهَا، وَكَلَامُنَا إنَّمَا هُوَ فِي أُصُولِ الْقَوْمِ. اهـ. وَذَكَرَ أَبُو زَيْدٍ فِي الْأَسْرَارِ " وَصَاحِبُ الْمَبْسُوطِ " مِنْ الْحَنَفِيَّةِ اشْتِرَاطَ الشُّهْرَةِ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ السَّلَفِ، وَلِهَذَا لَمْ يَعْمَلُوا بِقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامِ أُخَرَ مُتَتَابِعَةٍ " لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ شَاذَّةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ، وَبِمِثْلِهَا لَا يَثْبُتُ الزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ، فَأَمَّا قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَدْ كَانَتْ مَشْهُورَةً فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى كَانَ الْأَعْمَشُ يَقْرَأُ خَتْمًا عَلَى حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَخَتْمًا مِنْ مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَالزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تَثْبُتُ بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ. اهـ.
تَنْبِيهَانِ [التَّنْبِيهُ] الْأَوَّلُ
إنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَى نِسْبَةِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ لِلشَّافِعِيِّ عَدَمُ إيجَابِهِ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مَعَ عِلْمِهِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ، فَقَدْ سَبَقَ مِنْ كَلَامِ إلْكِيَا إبْطَالُ اسْتِنْبَاطِهِ مِنْهُ، وَقَدْ نَصَّ رحمه الله فِي مُخْتَصَرِ الْبُوَيْطِيِّ " عَلَى أَنَّهَا حُجَّةٌ فِي بَابِ الرَّضَاعِ، وَفِي بَابِ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ، فَقَالَ: ذَكَرَ اللَّهُ الرَّضَاعَ بِلَا تَوْقِيتٍ. وَرَوَتْ عَائِشَةُ التَّوْقِيتَ بِخَمْسٍ، وَأَخْبَرَتْ أَنَّهُ مِمَّا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ، وَهُوَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا فَأَقَلُّ حَالَاتِهِ أَنْ يَكُونَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَأْتِي بِهِ غَيْرُهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» ، فَحَكَمْنَا بِهِ عَلَى هَذَا، وَلَيْسَ هُوَ قُرْآنًا يُقْرَأُ اهـ.
وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِهَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا خَبَرًا لَا قُرْآنًا، وَجَرَى عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ، وَالرُّويَانِيُّ فِي الصِّيَامِ وَالرَّضَاعِ، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي الصِّيَامِ وَوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَالْقَاضِي الْحُسَيْنُ فِي الصِّيَامِ، وَالْمَحَامِلِيُّ وَالرَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاحْتَجُّوا فِي إيجَابِ قَطْعِ الْيَمِينِ مِنْ السَّارِقِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُمَا ".
وَقَالَ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ " فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى الْخَبَرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَوْ الْأَثَرِ عَنْ الصَّحَابَةِ، نَعَمْ الشَّرْطُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُخَالِفَ رَسْمَ الْمُصْحَفِ، وَلَا يُوجَدُ غَيْرُهَا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، وَلِذَلِكَ لَمْ يَحْتَجَّ بِقِرَاءَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ " مَعَ أَنَّ مَذْهَبَهُ وُجُوبُ الْفِدْيَةِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُخْتَصَرِ ".
قَالَ شَارِحُوهُ: إنَّمَا عَدَلَ الشَّافِعِيُّ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّهَا تَشِذُّ عَنْ الْجَمَاعَةِ، وَتُخَالِفُ رَسْمَ الْمُصْحَفِ.
قُلْت: أَوْ لِأَنَّهُ رَأَى أَنَّهُ لَا اسْتِدْلَالَ بِهَا مَعَ وُجُودِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهَا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ قَدْ خَيَّرَ أَوَّلًا بَيْنَ الصِّيَامِ وَبَيْنَ الْإِفْطَارِ وَالْفِدْيَةِ، ثُمَّ خَتَمَ الصِّيَامَ بِقَوْلِهِ:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَبَقِيَ مَنْ لَمْ يُطِقْ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ فِي جَوَازِ الْفِطْرِ وَوُجُوبِ الْفِدْيَةِ. وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخِ أَبِي إِسْحَاقَ الشِّيرَازِيِّ شَرْطٌ آخَرُ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ التَّذْكِرَةِ فِي الْخِلَافِ ": الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إنَّمَا تَلْحَقُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا قَرَأَهَا قَارِئُهَا عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ، فَإِنْ ذَكَرَهَا عَلَى أَنَّهَا تَفْسِيرٌ فَلَا، كَقِرَاءَةِ ابْنِ عُمَرَ:" فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ أَوْ غَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا " وَقِرَاءَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: " فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ". اهـ.
وَفِيمَا قَالَهُ فِي التَّفْسِيرِ نَظَرٌ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْمَرْفُوعِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ فَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّلَائِلِ وَالْأَعْلَامِ ": مَا رُوِيَ آحَادًا مِنْ آيِ الْقُرْآنِ كَرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ آيَةَ الرَّجْمِ وَخَبَرِ عَائِشَةَ فِي الرَّضَاعِ وَخَبَرِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ الذَّهَبِ لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» فَإِنَّهَا ثَابِتَةُ الْأَسَانِيدِ صَحِيحَةٌ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ. وَنَحْنُ نُثْبِتُ مَا قَالُوا عَلَى مَا قَالُوا غَيْرَ مُتَأَوِّلِينَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا إلَّا أَنْ لَا نَجِدَ وَجْهًا غَيْرَ التَّأْوِيلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مِنْ الْقُرْآنِ مَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ، وَإِنَّمَا تَجِبُ تِلَاوَةُ الْمَرْسُومِ، فَأَمَّا مَا بَقِيَ حُكْمُهُ فَلَا تَجِبُ تِلَاوَتُهُ.
وَاَلَّذِي أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فِي الرَّسْمِ هُوَ الْوَاجِبُ تِلَاوَتُهُ، وَاَلَّذِي لَمْ يُرْسَمْ يُتْلَى وَيُنْقَلُ حُكْمُهُ إذْ كَانَ الْقُرْآنُ الْمَتْلُوُّ يُوجِبُ شَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إثْبَاتُ حُكْمِهِ وَتِلَاوَتُهُ وَالْقَطْعُ عَلَيْهِ بِمَا يُعْمَلُ بِهِ وَالتَّسْمِيَةُ بِمَا سَمَّاهُ النَّاقِلُ، وَلَيْسَ يَثْبُتُ الْمَتْلُوُّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ قَدْ يَخُصُّ ظَاهِرَ الْمَتْلُوِّ وَيُثْبِتُهُ تَثْبِيتَ الْأَحْكَامِ كَانَ أَيْضًا كَذَلِكَ مَا أُثْبِتَ حُكْمُهُ مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ أَنَّهُ قُرْآنٌ فِي الْحُكْمِ لَا فِي الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ.
انْتَهَى.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إنْ أَضَافَهَا الْقَارِئُ إلَى التَّنْزِيلِ أَوْ إلَى سَمَاعٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أُجْرِيَتْ مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ، وَإِلَّا فَهِيَ جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّأْوِيلِ. اهـ. وَيَخْرُجُ مِنْ هَذَا التَّفْصِيلِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ، وَبِهِ صَرَّحَ الْبَاجِيُّ فِي الْمُنْتَقَى " فَقَالَ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى خَبَرِ الْوَاحِدِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: ثَالِثُهَا: التَّفْصِيلُ بَيْنَ أَنْ تُسْنَدَ أَمْ لَا. اهـ.
وَيَخْرُجُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْحُسَيْنِ فِي الْمُعْتَمَدِ " مَذْهَبٌ رَابِعٌ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي بَابِ الْأَخْبَارِ: الْقُرْآنُ الْمَنْقُولُ بِالْآحَادِ إمَّا أَنْ يَظْهَرَ فِيهِ الْإِعْجَازُ أَوْ لَا، فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ جَازَ أَنْ يُعْمَلَ بِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عَمَلٍ إذَا نُقِلَ إلَيْنَا بِالْآحَادِ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُتَتَابِعَاتٍ " وَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ حُجَّةٌ لِلنُّبُوَّةِ، وَلَا يَكُونُ حُجَّةً إلَّا وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُعَارَضْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، مَعَ سَمَاعِ أَهْلِ عَصْرِهِ لَهُ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا وَقَدْ تَوَاتَرَ نَقْلُ ظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ. وَأَطْلَقَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ دَعْوَى الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهَا لَا تُوجِبُ عِلْمًا وَلَا عَمَلًا، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ. وَجَعَلَ الْقُرْطُبِيُّ شَارِحُ مُسْلِمٍ " مَحَلَّ الْخِلَافِ بَيْنَ الْحَنَفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ فِيمَا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا وَقَطَعَ بِعَدَمِ حُجِّيَّتِهَا.
قَالَ: فَأَمَّا لَوْ صَرَّحَ الرَّاوِي بِسَمَاعِهَا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَاخْتَلَفَتْ الْمَالِكِيَّةُ فِي الْعَمَلِ بِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَالْأَوْلَى الِاحْتِجَاجُ بِهَا تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ الْخَبَرِ.
[التَّنْبِيهُ] الثَّانِي
أَنَّ هَاهُنَا سُؤَالًا، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا حُجَّةٌ فَهَلَّا أَوْجَبَ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ اعْتِمَادًا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ " مُتَتَابِعَاتٍ " وَهَلَّا قَالَ فِي الصَّلَاةِ الْوُسْطَى: إنَّهَا صَلَاةُ الْعَصْرِ اعْتِمَادًا عَلَى قِرَاءَةِ عَائِشَةَ: " وَصَلَاةِ الْعَصْرِ "؟ وَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فَكَيْفَ اعْتَمَدَ فِي التَّحْرِيمِ فِي الرَّضَاعِ بِخَمْسٍ عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ؟ وَكَيْفَ قَالَ: إنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ؟ وَاعْتَمَدَ فِي الْأُمِّ " عَلَى أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَرَأَ: " لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ " وَاَلَّذِي يَفْصِلُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ لَا يُطْلَقَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ، بَلْ يُقَالُ: لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ أَوْ لِابْتِدَائِهِ،
فَإِنْ وَرَدَتْ لِبَيَانِ حُكْمٍ، فَهِيَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ، كَحَدِيثِ عَائِشَةَ فِي الرَّضَاعِ وَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" أَيْمَانَهُمَا "، وَقَوْلُهُ:" لِقَبْلِ عِدَّتِهِنَّ ".
وَإِنْ وَرَدَتْ ابْتِدَاءَ حُكْمٍ، كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" مُتَتَابِعَاتٍ "، فَلَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّهَا لَمْ تَثْبُتْ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ كَانَ مِمَّا أُنْزِلَ:" فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " فَسَقَطَتْ " مُتَتَابِعَاتٍ ".
أَوْ يُقَالُ: الْقِرَاءَةُ الشَّاذَّةُ إمَّا أَنْ تَرِدَ تَفْسِيرًا أَوْ حُكْمًا، فَإِنْ وَرَدَتْ تَفْسِيرًا فَهِيَ حُجَّةٌ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَيْمَانَهُمَا وَقَوْلِهِ: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ مِنْ أُمٍّ وَقِرَاءَةِ عَائِشَةَ: " وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ "، وَإِنْ وَرَدَتْ حُكْمًا فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُعَارِضَهَا دَلِيلٌ آخَرُ أَمْ لَا، فَإِنْ عَارَضَهَا فَالْعَمَلُ لِلدَّلِيلِ كَقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي صِيَامِ الْمُتَمَتِّعِ:" فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ "، فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَالَ:«إنْ شِئْت فَتَابِعْ أَوْ لَا» ، وَإِنْ لَمْ يُعَارِضْهَا دَلِيلٌ آخَرُ فَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ، كَوُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ.
وَأَمَّا تَحْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ فَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ، عَنْهُ أَنَّهُ يُنْزِلُهَا مَنْزِلَةَ خَبَرِ الْوَاحِدِ، قَالَ ابْنُ الْقُشَيْرِيّ: وَهَذَا يُنَاقِضُ قَوْلَهُ: إنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ بَعْضِ النَّقَلَةِ لَا تُقْبَلُ، وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ الدَّبُوسِيُّ فِي كِتَابِ تَقْدِيمِ الْأَدِلَّةِ ": لَا تَثْبُتُ الْقِرَاءَةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، وَلِهَذَا قَالَتْ الْأَئِمَّةُ، فِيمَنْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ بِكَلِمَاتٍ تَفَرَّدَ بِهَا ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ صَلَاتَهُ لَا تَجُوزُ كَمَا لَوْ قَرَأَ خَبَرًا مِنْ أَخْبَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ: وَإِنَّمَا أَخَذْنَا بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " مُتَتَابِعَاتٍ " لِإِيجَابِ التَّتَابُعِ فِي الْكَفَّارَةِ، فَأَخَذْنَا بِهَا عَمَلًا كَمَا لَوْ رَوَى خَبَرًا
عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، لِأَنَّهُ إنَّمَا قَرَأَهَا نَاقِلًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ قُرْآنًا لِفَوَاتِ شَرْطِهِ بَقِيَ خَبَرًا، فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوا كَذَلِكَ فِي الْبَسْمَلَةِ لِيَجِبَ الْجَهْرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَحُرْمَةُ قِرَاءَتِهَا عَلَى الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ الْقُرْآنِ.
قُلْنَا: لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حُكْمًا بِظَاهِرِ مَا تُوجِبُهُ التَّسْمِيَةُ، بَلْ كَانَ عَمَلًا بِمُقْتَضَى أَنَّهَا مِنْ الْفَاتِحَةِ، وَلَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا لَا بُدَّ مِنْهُ.