الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ يريد: ما كان يتصدق به يوم الحصاد، لا الزكاة المقدرة لأنها فرضت بالمدينة، وكان ذلك واجبًا ثم نسخ بالعشر. وقيل: الزكاة حقيقةً، والآية مدنية، وقيل: مكية، ولم يعيَّن قدرها إلا بالمدينة، والأمر بإتيانها يوم الحصاد ليُهتم به حينئذٍ، حتى لا يؤخر عن وقت الأداء، خلاف ما يفعله العامة من خزنها مع ماله، حتى يدفعها في نوائب المخزن «1» ، وليعلم أن الوجوب بالإفراك والطيب، لا بالتصفية، ولذلك شرع التخريص، وَلا تُسْرِفُوا بصرفها في غير محلها، ولا تتعدُّوا ما أُمرتم به فتجعلوا ما أنشأ الله للأصنام، أو: لا تسرفوا في التصدق بالكل، كقوله: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «2» ، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي: لا يرضى فعلهم.
الإشارة: وهو الذي أنشأ جنات المعارف لمن خرق عوائده، معروشات بشهود أسرار الجبروت، وغير معروشات بشهود أنوار الملكوت، أو معروشات بشهود المعاني مع الأواني، وغير معروشات بشهود الأواني فقط، أو معروشات بشهود المؤثر والأثر، وغير معروشات بشهود المؤثر فقط، وكلها ترجع لمعنى واحد، والمعروش أرفع من غيره وأكمل، والأول: مقام البقاء والصحو، والثاني: مقام الفناء والسكر، والنخل والزرع: الحقيقة والشريعة على اختلاف علومهما، والزيتون والرمان: الأعمال والأحوال، متفقة وغير متفقة، وثمره: حلاوة الشهود، فليأكل منها المريد إذا طاب وقته، ولا تُسرفوا في الأحوال، إنه لا يحب المسرفين.
ثم ذكر إنشاء الأنعام، فقال:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 142 الى 144]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
قلت: (حَمولة وفرشًا) : عطف على جنات، وثَمانِيَةَ أَزْواجٍ: بدل من حَمولة، و (من الضأن اثنين) : بدل من ثمانية.
(1) أي: جامع الضرائب.
(2)
من الآية 29 من سورة الإسراء.
يقول الحق جل جلاله: وَأنشأ أيضًا مِنَ الْأَنْعامِ أنعامًا حَمُولَةً ما يحمل الأثقال، كالكبار منها، وَفَرْشاً ما لا يحمل، كالصغار لدنوها من الأرض. أو حمولة للإبل، وفرشًا للغنم، لأنها تفرش للذبح، ويُفرَشُ ما ينسج من صوفها، كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي: كلوا ما أحل الله لكم منها، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ في التحليل والتحريم من عند أنفسكم، إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.
ثم فصلها فقال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكر وأنثى من كل صنف، والصنف: ما معه آخر من جنسه يزاوجه، ثم بيَّنها فقال: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى كبش ونعجة، وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ
التيس وهو الذكر، والعنز وهي الأنثى، قُلْ لهم آلذَّكَرَيْنِ أي: ذكر الضأن والمعز، حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما؟ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الأجنة، ذكرًا كان أو أنثى؟ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ يدل على أن الله تعالى حرم شيئًا من ذلك، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه.
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى، وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ كذلك. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أم حرم ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ من الجنين مطلقًا؟ وهذا تقسيم على الكفار حتى يتبين كذبهم على الله، وتوبيخ لهم، حيث حرموا بعض الذكور مرة وبعض الأناث مرة، فألزمهم تحريم جميع الذكور، إن كان علة التحريم وصف الذكورة، أو تحريم جميع الإناث، إن كانت العلة الأنوثة، أو تحريم الجميع إن كان المُحرم ما اشتملت عليه الأرحام، ولا وجه للتخصيص، فالاستفهام للإنكار، وأكده بقوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ حاضرين حين وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم، ولا طريق لكم إلى معرفة هذا إلا المشاهدة والسماع، وليس لكم شيء من ذلك، وإنما أنتم مفترون على الله.
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم، والمراد: كبراؤهم الأوائل كعمرو ابن لحي وأمثاله، أي: لا أحد أظلم ممن كَذَبَ على الله، لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى مراشدهم، أو إلى ما ينفعهم.
الإشارة: ومن الأحوال ما تحمل صاحبها إلى مقام الحرية، بشهود الربوبية، فيغلب عليه العز والاستظهار، ومنها ما تحمله إلى مقام العبودية، فيغلب عليه الذل والإنكسار، وإليه الإشارة بقوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً، فليتمتع المريد بما يظهر عليه منهما، ولا يتبع خطوات الشيطان فيتعدى طوره، ولا يعرف قدره.
وهذه الأحوال ثمانية أنواع: أربعة سفلية تناسب العبودية، وأربعة علوية تناسب الربوبية. فالإربعة السفلية: الذل، والفقر، والعجز، والضعف. والأربعة العلوية: العز، والغنى، والقدرة، والقوة. فمن أراد التعلق بهذه الأوصاف فليناد من كوة الذل: يا عزيز من للذليل سواك؟، ومن كوة الفقر: يا غني من للفقير سواك؟، ومن كوة العجز: يا قدير من للعاجز سواك؟ ومن كوة الضعف: يا قوي من للضعيف سواك؟، ير الإجابة طوع يديه، ومن أراد التحقق بها، فليتحقق بذله يمده بعزه، وليتحقق بفقره يمده بغناه، وليتحقق بعجزه يمده بقدرته، وليتحقق بضعفه يمده بقوته، «تحقق بوصفك يُمدك بوصفه» . وبالله التوفيق.