الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قال لهم: أَوَعَجِبْتُمْ أي: أكذبتم وعجبتم من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ أي: تذكير ووعظ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ أي: من جملتكم، أو من جنسكم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ «1» ، قال القشيري: عجبوا مِن كونِ شخص رسولاً، ولم يَعجبوا من كون الصنم شريكًا لله، هذا فَرطُ الجهالة وغاية الغواية. هـ. وحكمة إرساله كونه جاءكم لِيُنْذِرَكُمْ عاقبة الكفر والمعاصي، وَلِتَتَّقُوا الله بسبب ذلك الإنذار، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بتلك التقوى، وفائدة حرف الترجي التنبهُ على أن التقوى غير مُوجب للترحم بذاته، وإنما هو- أي: الترحم- فضل من الله، وأن المتقي ينبغي ألا يعتمد على تقواه، ولا يأمَن من عذاب الله.
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ هو ومن آمن به، وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل: عشرة، وقيل:
ثمانية، حَملناهم فِي الْفُلْكِ أي: السفينة، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي: عُمي القلوب، غير مستبصرين، وأصله: عَميين، مخفف. قاله البيضاوي.
الإشارة: الشريعة المحمدية: سفينة نوح عليه السلام، فمن ركب بحر الحقائق وحاد عنها حال بينه وبينها الموج فكان من المغرقين في بحر الزندقة والكفر، ومن تمسك بها في ذلك كان من الناجحين الفائزين.
ثم ذكر قصة هود عليه السلام فقال:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
(1) كما جاء فى الآية 24 من سورة (المؤمنون) .
قلت: (أخاهم) : عطف على نوح، و (هودًا) : عطف بيان أو بدل، وكذلك (أخاهم صالحًا) وما بعده حيث وقع.
يقول الحق جل جلاله: وَأرسلنا إِلى قبيلة عادٍ أَخاهُمْ أي: واحد من قبيلتهم، كقولهم:
يا أخا العرب، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عادٌ بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: هو هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهو ابن عم أبي عاد، وإنما أرسل إليهم منهم لأنهم أفهم لقوله، وأعرف بحاله، وأرغب في أتباعه، ثم وعظهم فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ عذاب الله، قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ، كان قومه أحسن من قوم نوح، إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد، ولذلك قيد الملأ بمن كفر، بخلاف قوم نوح لم يكن أحد منهم آمن به، فأطلق الملأ، قالوا لهود عليه السلام: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي: متمكنًا في خفة العقل، راسخًا فيها، حيث فَارَقتَ دين قومك، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعاء الرسالة.
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ، يحتمل أن يريد أمانته على الوحي، أو أنهم كانوا قد عرفوه بالأمانة والصدق قبل الرسالة. ثم قال:
أَوَعَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ، تقدم تفسيرها.
قال البيضاوي: وفي ذكر إجابة الأنبياء الكفرةَ عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا به والإعراض عن مقالتهم:
كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ: تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. هـ.
ثم قال لهم: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ في مساكنهم، أو خلفاء في الأرض من بعدهم بأن جعلكم ملوكًا، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى بحر عمان، خوفهم أولاً من
عقاب الله، ثم ذكرهم بإنعامه وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي: قامة وقوة، فكانوا عظام الأجساد، فكان أصغرهم: ستين ذراعًا، وأطولهم: مائة ذراع. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي: نعمه، تعميم بعد تخصيص، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح، ومن شكرها: الإيمان برسولهم.
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما وجدوا عليه آباءهم انهماكًا في التقليد، وحبًا لما ألفوه مع اعترافهم بالربوبية، ولذلك قال لهم هود عليه السلام: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ، بعد أن قالوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.
قالَ قَدْ وَقَعَ أي: وجب عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب وَغَضَبٌ إرادة الانتقام، أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي: أتجادلونني في عبادة مسميات أسماء، ففي الكلام حذف. وأراد بقوله: سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي: جعلتم لها أسماء، فدل ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل، وهو معنى قوله: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: حجة تدل على استحقاقها للعبادة، فالمجادلة يحتمل أن تكون في عبادتها، أو في تسميتها آلهة، والمراد بالاسم- على الأول- المسمى، وعلى الثاني: التسمية.. قاله ابن جزي. فَانْتَظِرُوا نزول العذاب، الذي طلبتم حين أصررتم على العناد، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ نزوله.
قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم. قال القشيري: لا رتبةَ فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة، وقد أخبر سبحانه: أنه نجَّى هودًا برحمته، وكذا نجَّى الذين آمنوا معه برحمته، ليُعلَم أن النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون ابتداء فضلٍ من الله ورحمة، فما نَجَا مَن نَجَا إلا بفضل الله سبحانه وتعالى. هـ.
وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: استأصلناهم، وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ، تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نَجَا وبين من هلك: هو الإيمان.
رُوِي أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم هودًا فكذبوه، وزادوا عتوا، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذٍ، مسلمهم ومشركهم، إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه «قيل بن عنز» ، ومرثد بن سعد، في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاود بن سام، وسيدهم: معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه، وهو بظاهر مكة، أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنى عليهم الجرادتان- قَينَتَانِ له- فلما رأى ذهولهم عما
بعثوا له أهمه ذلك، واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم، فعلم المغنيتين بيتين من الشعر، وأمرهما أن تغنيا به وهما:
ألا يا قَيلُ ويَحكَ، قُم، فَهَينِم
…
لَعلَّ الله يسقِينَا الغَمَامَا
فيسقيِ أرضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا
…
قَدَ امسَوا لَا يُبِينُونَ الكَلامَا
فلما غنيتا به أزعجهم ذلك، فقال مرثد: والله لا يُسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله، سقيتم، فقالوا لمعاوية: أحبسه عنا، لا يقدمنّ معنا مكة فإنه فد أتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله سحابات ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك. فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماءً، فخرجت إلى عاد من وادي المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض مُمطرنا، فجاءتهم، فيها ريح عقيم، فأهلكتهم، رُوِي أنها لما قربت من ديارهم حملت أنعامهم في الهواء، كأنها جراد، فاستمرت عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام، شدخَت رؤوسهم إلى الحجارة حتى هلكوا جميعًا، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله حتى هلكوا. قاله البيضاوي وغيره.
وهاهنا بحث وهو أن البيت إنما بناه إبراهيم عليه السلام حسبما في الصحيح، ولم تعمر مكة إلا بعد إنزال إسماعيل فيها، وهود كان قبل إبراهيم، والبيت حينئذٍ خرب، كان خربه الطوفان، فكيف يتوجهون إليه وهو لم يكن؟.
ويمكن الجواب: بأنهم كانوا يلتجئون إلى رسومه وخربته التي بقيت بعد الطوفان لأن أول من بناه آدم عليه السلام فلما خربه الطوفان بقي أثره، فكانوا يتبركون به، وفي بعض التواريخ: أن العماليق بنوه قبل إبراهيم، فكانوا يطوفون به ويتبركون، ثم هُدم، وبناه بعدهم خليل الله إبراهيم. وبهذا- إن صح- يزول الإشكال. والله تعالى أعلم.
وأما من قال: إن هودًا تعدد، فغير سديد.
الإشارة: قد تضمنت موعظة هود عليه السلام لقومه خصلتين، بهما النجاة من كل هول وشر، والفوز بكل خير، وهما: التوحيد والتقوى، وهي الطاعة لله ولرسوله فيما جاء به من أمر ونهي. فالتوحيد تطهير الباطن من الشرك الجلي والخفي، والتقوى: حفظ الجوارح من المخالفة في السر والعلانية، وهاتان الخصلتان هما أساس الطريق ونهايته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة صالح عليه السلام، فقال: