الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإن قلت: العارف لم تبق له نفس يتهما لفنائه في شهوده وانطوائه في وجوده؟ قلت: العارف الكامل هو الذي لا يحجبه جمعه عن فرقه، ولا فرقة عن جمعه، فإذا رجع إلى شهود فرقه، رأى نفسه عبدًا متصفًا بنقائص العبودية التي لا نهاية لها، ولذلك قالوا: للنفس من النقائص ما لله من الكمالات. فلو تطهرت كل التطهير لم يقبل منها، وإذا نظر إلى نعت جمعه رأى نفسه مجموعًا في الحضرة، متصفًا بالكمالات التي لا نهاية لها، فيغيب عن شهود عبوديته في عظمة ربوبيته، لكنه لا يحجب بجمعه عن فرقه لكماله، وإلى هذا المعنى أشار في الحِكَم بقوله:
«لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك، ولا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك» . وبالله التوفيق.
ثم أمر نبيه- عليه الصلاة والسلام بالتبرؤ من الشرك مطلقا، تشريعا، فقال:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قلت: (ونُردُّ) : عطف على (ندعو) والهمزة للإنكار، والرد على العقب: الرجوع إلى وراء، لعلَّةٍ في المشي، واستعير للمعاني، و (كالذي استهوته) : الكاف في موضع نُصب على الحال من الضمير في (نُردّ) أي: كيف نرجع مشبهين بمن استهوته الشياطين، أو نعت لمصدر محذوف، أي: ردًا كرد الذي
…
الخ. واستهوى: استفعل، من هَوَى في الأرض إذا ذهب، وقال الفارسي: استهوى بمعنى أهوى، مثل استزل بمعنى أزل، و (حيران) : حال من مفعول استهوى.
و «أن أقيموا» : عطف على «لنُسلم» ، أو «أمرنا» . «قوله الحق» : مبتدأ، و «يوم يقول» : خبر مقدم، أي: قوله الحق حاصل يوم يقول: كن فيكون، وفاعل «يكون» : ضمير فاعل كن، أي: حين يقول للشيء: كن فيكون ذلك الشيء، و «يوم ينفخ» : ظرف لقوله: «الملك» ، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «1» .
(1) من الآية 16 من سورة غَافر.
يقول الحق جل جلاله: قُلْ لهم يا محمد أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: نعبد ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا من الأصنام الجامدة، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي: نرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ وأنقذنا، ورزقنا الإسلام، وهذا على الصحابة. وأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتقدم له شرك لعصمته، أي: كيف نرد على أعقابنا ردًا كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ، أي: أضلته مَرَدَةُ الجن عن الطريق المستقيم، فذهب فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ متحيرًا ضالاً عن الطريق، لَهُ أَصْحابٌ أي: رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي: إلى الطريق المستقيم، يقولون له: ائْتِنا وكن معنا لئلا تتلف. وهو مثال لمن ترك الإسلام وضل عنه.
قُلْ لهم: إِنَّ هُدَى اللَّهِ، وهو الإسلام، هُوَ الْهُدى وحده، وما عداه ضلال. وَقد أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ نكون على الجادة من الهدى، وَأمرنا أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ أي: أُمرنا بإقامة الصلاة والتقوى، رُوِي أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان، فنزلت، وعلى هذا أُمِر الرسول بهذا القول إجابة عن الصديق تعظيمًا لشأنه، وإظهارًا للاتحاد الذي كان بينهما. قاله البيضاوي. وقال ابن جزي: ويبُطل هذا قول عائشة: ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا برائتي. هـ. قلت: ليس بحجة لصغر سنِّها وقت نزول الآية بمكة، والإسلام يمحو ما قبله. ثم قال جل جلاله: وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيامة فيظهر من تبع الحق من الباطل.
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، أي: قائمًا بالحق والحكمة، فهو أحق بالعبادة وحده، وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ أي: قوله العدل حاصل يوم يقول للبعث والحشر: كن فيكون، وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ أي: انفرد الملك له يوم ينفخ في الصور فيقول: لِمن المُلكُ اليوم؟ فلا يُجاب، فيقول: لله الواحد القهار، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي: هو عالم بما غاب وما ظهر، وَهُوَ الْحَكِيمُ في صنعه، الْخَبِيرُ بأمر عباده.
الإشاره: إذا توجه العبد إلى مولاه، وانقطع بكليته إلى الله، طالبًا منه معرفته ورضاه، قد يمتحن بشيء من شدائد الزمان كالفاقة وإيذاء الخلق والأحزان، فيقال اختبارًا له: تعلق في دفع ما نزل بك بشيء من السِّوى، فيجب عليه أن يقول: أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بالالتفات إلى غير ربنا، بعد إذ هدانا الله إلى توحيده ومعرفته، ونكون كالذي استهوته الشياطين في الأرض، حيران بالتفاته إلى غير الكريم المنان، قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ أي: هدايته الخاصة، وهي الإنقطاع إليه وحده في الشدائد، هُوَ الْهُدى، وقد أُمرنا بالانقياد بكليتنا إلى ربنا، وأُمرنا إذا حزبنا شيء بإقامة الصلاة لأنها مفتاح الفرج، وبالتقوى لأنها سبب النصر إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا، وآخر أمرنا الموت والحشر إلى ربنا، والاستراحة إلى الروح والريحان. وبالله التوفيق.