الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الملائكة إليها، فيطرحونها فتسقط من السماء، بخلاف أرواح المؤمنين تُفتح لهم أبواب السماء حتى يفضوا إلى سدرَة المنتهى. وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ أي: يدخل، الْجَمَلُ وهو البعير فِي سَمِّ الْخِياطِ أي:
في ثقب الإبرة، والمعنى: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً، فلا يدخلون الجنة أبدًا، وقرأ ابن عباس (الجُمل) بضم الجيم وسكون الميم، وهو حبل السفينة، الذي جُمِعَ بعضُه إلى بعض حتى صار أغلظ ما يكون.
ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي: فراش، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي: أغطية من النار. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبَّر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى إشعارًا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بالجرم والظلم، وذكر مع الحرمان من الجنة: الجرم، ومع التعذيب بالنار: الظلم تنبيهًا على أن الظلم أعظم الإجرام.
الإشارة: أهل التربية النبوية من الشيوخ العارفين: آية من آيات الله، من كَذَّب بهم، واستكبر عن الخضوع لهم، لا تفتح لفكرته أبواب السماء، بل يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، ولا يدخل جنة المعارف أبدًا، بل يحيط به الحجاب من فوقه ومن أسفله، فتنحصر روحه في الأكوان، ولم تفض إلى فضاء الشهود والعيان.
وفي الحِكَم: «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته» .
وقال أيضًا: «وسعك الكون من حيث جثمانيتك، ولم يَسعَك من حيث ثبوتُ روحانيِتك» ، فكل من لم تثبت له الروحانية: فهو محصور في الكون، وكل من ثبتت له الروحانية بأن استولى معناه على حسه، لم يسعه الكون، ولم يحصره عرش ولا فرش، وكذلك الصوفي لا تظله السماء ولا تقله الأرض، أي: لا يحصره الكون من حيث فكرتُهُ. والله تعالى أعلم.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
قلت: جملة (لا نُكلف) : معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب النعيم المقيم، بما تسعه طاقتهم، ويسهل عليهم، و (ما كنا لنهتدي) : اللام لتأكيد النفي، وجواب «لولا» : محذوف، أي: لولا هدايته إيانا ما اهتدينا.
يقول الحق جل جلاله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بالرسل، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على قدر طاقتهم، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: ما تسعه طاقتها، فمن فعل ذلك ف أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي: نُخرج مِن قلوبهم كل غل وعدواة، ونطهرها منه، حتى لا يكون بينهم إلا التودد، فيصيرون أحبابا وإخوانا، وإنما عبَّر بالماضي لتحقق وقوعه، كأنه وقع ومضى، وكذلك ما يجيء بعدها، ثم وصف الجنة فقال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ أي: من تحت قصورهم، الْأَنْهارُ من عسل وخمر وماء ولبن زيادة في لذتهم وسرورهم، فالقصور مرتفعة في الهواء، والأنهار تجري تحتها.
وَقالُوا حينئذٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي: لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان في الدنيا والعمل الصالح، وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ بأنفسنا لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ بتوفيقه وإرادته، لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم، يقولون ذلك اغتباطًا وتبجحًا بأن ما عملوه في الدنيا يقينًا، صار لهم عين اليقين في الآخرة، وَنُودُوا أي: نادتهم الملائكة، أو الحق تعالى: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي: هذه الجنة أُورِثْتُمُوها أي:
أُعطِيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: بسبب أعمالكم، وهذا باعتبار الشريعة، وأما باعتبار الحقيقة فكل شيء منه وإليه. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:«لَن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدَكم عَمُلهُ، قالوا: ولا أَنْتَ، قَالَ: ولا أَنَا، إِلَاّ أنْ يتغمدني الله برحمته» «1» .
فالشريعة تنسب العمل للعبد، والحقيقة تعزله عنه، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة.
وقال القشيري: إنما قال: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تسكينًا لقلوبهم، وتطييبًا لهم، وَإلَاّ، فإذا رأوا تلك الدرجات، علموا أن أعمالهم المشوبة لم تبلغ تلك الدرجات. هـ. وعن ابن مسعود أنه قال:(يجوزون الصراط بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويقتسمون المنازل بأعمالهم) . هـ.
الإشارة: والذين آمنوا بطريق الخصوص، وعملوا الأعمال التي تناسبها، من خرق العوائد واكتساب الفوائد، والتخلية من الرذائل والتحلية بأنواع الفضائل على حسب الطاقة أولئك أصحاب جنة المعارف، هم فيها خالدون في الدنيا والآخرة، قد نزع الله من قلوبهم المساوىء والأكدار، وطَهَّرها من جملة الأغيار، حتى صاروا إخوانًا متحابين لا لَغوَ بينهم ولا تأثيم، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم، وتفتح لهم مخازن الفهوم، فإذا تمكنوا من
(1) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها.