الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البصيرة، إحداهما تنظر للحكمة فتقوم بالشرائع، والأخرى تنظر للقدرة فتقوم بالحقائق. فقوم فتحوا عين الحقيقة وأعملوا عين الشريعة، وهم أهل الكفر والزندقة، ولذلك قالوا: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا، وقوم فتحوا عين الشريعة وأهملوا عين الحقيقة، وهم عوام المسلمين من أهل اليمين، فلذلك طال خصمهم للمقادير الأزلية مع إقرارهم بها، فإن أنكروها فقد عَمِيَتْ بصيرتهم.
وقوم أحبهم الله، ففتح لهم عين الحقيقة، فأسندوا الأفعال كلها إلى الله ولم يروا معه سواه، فتأدبوا في الباطن مع الأشياء كلها، وفتح لهم عين الشريعة فقاموا بوظائف العبودية على المنهاج الشرعي، وهم الأولياء العارفون بالله، فمن تمسك بالحقائق العلمية دون الشرائع كان زنديقًا، ومن تمسك بالشرائع دون الحقائق كان فاسقًا، ومن تمسك بهما كان صدّيقا، فمن رام التمسك بالشرائع، ولم تُسعفه الأقدار، فإن كان عن سُكر وجذب فهو معذور، وإن كان عن كسل فهو مخذول، وإن كان عن إنكار لها فهو مطرود معدود من حزب الشيطان، والعياذ بالله.
ثم بيّن لهم ما حرم عليهم، فقال:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَاّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَاّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قلت: (تعالوا) : أمر من التعالي، وأصله: أن يقوله من كان في علو لمن كان في سفل، فاتسع فيه بالتعميم في كل أمر بالقدوم، و (ألَاّ تشركوا) : فيه تأويلات أحدها: أن تكون مفسرة لا موضع لها، و (لا) : ناهية جزمت الفعل، أو تكون مصدرية في موضع رفع، أي: الأمر ألَاّ تشركوا، و (لا) : نافية حينئذٍ، أو بدل من «ما» و (لا) : زائدة، أو على حذف الإغراء، أي: عليكم إلا تشركوا.
قال ابن جزي: والأحسن أن يكون ضَمَّنَ حَرَّمَ معنى وَصَّى، وتكون «أن» مصدرية، و «لا» نافية، ولا تفسد المعنى لأن الوصية في المعنى تكون بتحريم وتحليل وبوجوب وندب، ويدل على هذا قوله بعد ذلك:
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ ولا ينكر أن يريد بالتحريم- الوصية لأن العرب قد تذكر اللفظ الخاص، وتريد به العموم، كما تذكر اللفظ العام وتريد به الخصوص، فتقدير الكلام على هذا: قل تعالوا أتل ما وصاكم به ربكم، ثم أبدل منه، على وجه التفسير والبيان، فقال: ألَاّ تشركوا، ووصاكم بالإحسان بالوالدين، وهكذا.. فجمعت الوصية ترك الإشراك وفعل الإحسان بالوالدين، وما بعد ذلك. انظر بقية كلامه.
وإنما قال الحق سبحانه: (من إملاق) ، وقدّم الكاف في قوله (نرزقكم)، وفي الإسراء قال: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ «1» ، وأخر الكاف لأن ما هنا نزل في فقراء العرب، فكان الإملاق نازلاً بهم وحاصلاً لديهم، فلذلك قال: مِنْ إِمْلاقٍ، وقدم الخطاب لأنه أهم. وفي الإسراء نزلت في أغنيائهم، فكانوا يقتلون خوفًا من لحوق الفقر، لذلك قال: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، وقدم الغيبة فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ حين نخلقهم وإياكم.
يقول الحق جل جلاله: قُلْ لهم: تَعالَوْا أي: هلموا، أَتْلُ أي: أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، واجتمعت عليه الشرائع قبلكم، ولم يُنسخ قط في ملة من الملل، بل وصى به جميع الملل، هو أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً بل توحدوه وتعبدوه وحده، وَأن تحسنوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، ولا تُسيئوا إليهما لأن من أساء إليهما لم يحسن إليهما. وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ أي: من أجل الفقر الحاصل بكم، وكانت العرب تقتل أولادها خوفًا من الفقر فنزلت فيهم، فلا يفهم منه إباحة قتلهم لغيره، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ، فلا تهتموا بأمرهم حتى تقتلوهم.
وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبار الذنوب ما ظَهَرَ مِنْها للناس وَما بَطَنَ في خلوة، أو: ما ظهر منها على الجوارح، وما بطن في القلوب من العيوب، وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ كالقود، وقتل المرتد، ورجم المحصن. قال صلى الله عليه وسلم:«لا يحلّ دم امرئ مُسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ: زِنَىً بعد إحصَانٍ، وكُفرٍ بعد إيمَانٍ، وقَتل نَفسٍ بغيرِ نَفسٍ» «2» . ذلِكُمْ المتقدم، وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، فتتدبرون فيما ينفعكم وما يضركم وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي
بالخصلة التي هِيَ أَحْسَنُ
كحفظه وتثميره. والنهي عن القرب: يعم وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة لأنه إذا نهى عن القرب كان الأكل أولى، حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
وهو البلوغ مع الرشد، بحيث يعرف مصالح نفسه ويأمن عليه التبذير، فيدفع له، وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل والتوفية، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
إلا ما يسعها ولا يعسر عليها، ولمَّا أمر بالقسط في الكيل والوزن، وقد علم أن القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان مما يجري فيه الحرج- أمر بالوسع في ذلك وعفا عما سواه.
(1) الآية 31 من سورة الأسراء.
(2)
أخرجه البخاري فى (الديات، باب قول الله تعالى: «إن النفس بالنفس» ) ومسلم فى (القسامة، باب ما يباح به دم المسلم) . عن ابن مسعود. رضى الله عنه.