الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم أباح لهم الغنائم وأخذ الفداء فقال: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الكفار، ومن جملته: الفدية، فإنها من الغنائم، حَلالًا طَيِّباً أي: أكلا حلالا، وفائدته: إزاحة ما وقع في نفوسهم بسبب تلك المعاتبة، أو حرمتها على المتقدمين. رُوي أنه لما عاتبهم أمسكوا عنها حتى نزلت: فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ، ووصفة بالطيب تكسينا لقلوبهم، وزيادة في حليتها. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:«أُعطيتُ خمساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أّحّدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: أُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ، ونُصِرْتُ بالرُّعْبِ مسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وطهُوراً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وخُصصتُ بِجَوَامعِ الكلمِ» «1» . أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
ثم قال تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: يغفر لكم ما فرط، ويرحمكم بإباحة ما حرم على غيركم توسعةً عليكم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما ينبغي للفقير المتوجه أن يكون له أتباع يتصرف فيهم ويستفيد منهم، عوضاً عن الدنيا، حتى يبالغ في قتل نفسه وتموت، ويأمن عليها الرجوع إلى وطنها من حب الرئاسة والجاة، أو جمع المال، والتمتع بالحظوظ، فإن تعاطي ذلك قبل موت نفسه كان ذلك سبب طرده، وتعجيل العقوبة له، حتى إذا تداركه الله بلطفه، وسبقت له عناية من ربه، فيقال له حينئذٍ: لولا كتاب من الله سبق لمسك فيما أخذت عذاب عظيم.
ثم بشّر الأسارى بخلف ما أخذ منهم من الفداء بأكثر منه، فقال:
[سورة الأنفال (8) : الآيات 70 الى 71]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قلت: (أسرى) : جميع أسير، ويجمع على أسارى. وقرىء بهما، و (خيراً مما) : اسم تفضيل، وأصله: أًخْيَر، فاستغنى عنه بخير، وكذلك شر أصله: أشر، قال في الكافية:
وغالباً أغناهم خير وشر
…
عن قولهم: أخيرُ منه وأشر.
يقول الحق جل جلاله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى الذين أخذتم منهم الفداء:
إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي: إيمانا وإخلاصا يكون فى المستقبل، يُؤْتِكُمْ خَيْراً أي: أفضل وأكثر مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء.
(1) أخرجه البخاري فى (أول كتاب التيمم) ومسلم فى (المساجد) من حديث جابر بن عبد الله- بلفظ: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة» بدل: «وخصصت بجوامع الكلم» ، وقد جاءت هذه العبارة بنحوها فى رواية عند مسلم عن أبى هريرة، وفيها:(فضلت على الأنبياء بست) وساق الخمس السابقة.
رُوي أنها نزلت في العباس رضى الله عنه كلّفه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال: يا محمد تركتني أتكففُ قريشاً ما بقيت، فقال له عليه الصلاة والسلام: وأين الذهب الذي دفعتَهُ لأُمِّ الفضلِ وقتَ خُرُوجك، وقلت لها: لا أدْري ما يصيبني في وَجْهي هذا، فإن حَدَثَ بي حدثٌ فهو لك، ولعبدِ الله، وعُبيد الله والفضل، وقُثَم، قال له وما يُدْريكَ؟ قال: أخبرني به ربي تعالى، قال: فأشهدُ أنكَ صادِقٌ، وأن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، واللَّهِ لم يطلعْ عليه أحدٌ إلا الله، ولقد دفعته إليها في سَوَادِ اللِّيْلِ.
قال العباس: فأبْدَلَني الله خيراً من ذلك، أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المال الذي قدم من البحرين ما لم أقدر على حمله، ولي الآن عشرون عبداً، إن أدناهم يضرب- أي: يتجر- في عشرين ألفاً، وأعطاني زمزم، ما أحب أَنَّ لي بها جميعَ أموالِ أهل مكَّة، وأنا أنتظرُ المغفره مِنْ ربكم، يعني: الموعود بقوله تعالى: (يغفر لكم والله غفور رحيم)«1» .
وَإِنْ يُرِيدُوا الأسارى خِيانَتَكَ بنقض ما عهدوك به، فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بالكفر والمعاصي فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وأمكنك من ناصيتهم، فقُبِضوا وأُسروا ببدر، وَاللَّهُ عَلِيمٌ لا يخفى عليه شيء، حَكِيمٌ فيما دبر وأمضى.
الإشارة: يقال للفقراء المتوجهين إلى الله، الذين بذلوا أموالهم ومهَجَهم، وقتلوا نفوسهم في طلب محبوبهم:
إن يعلم الله في قلوبكم خيراً، كصدق وإخلاص، يؤتكم أفضل مما أخذ منكم، من ذبح النفوس وحط الرؤوس ودفع الفلوس. وهو الغناء الأكبر، والسر الأشهر، الذي هو الفناء فى الله، والغيبة عما سواه، وثمرته: المشاهدة التي تصحبها المكالمة، وهذا هو الإكسير والغنا الكبير، فكل من باع نفسه في طلب هذا فقد ربحت صفقته وزكت تجارته، مع غفران الذنوب، وتغطية المساويء والعيوب. وبالله التوفيق.
ثم بيّن فضائل المهاجرين والأنصار، ومنزلة من آمن ولم يهاجر، والذين هاجروا بعد الحديبية، تتميما للتحريض على الجهاد، فبدأ أولا بالمهاجرين والأنصار، فقال:
(1) أخرجه الحاكم فى (المستدرك 3/ 324) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي- والطبري فى تفسير الآية، عن السيدة عائشة رضى الله عنها.