الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإشارة: إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلي الكبير، وأفاض عليهم من ماء غيبه، حتى امتلأت قلوبهم وأسرارهم، فأثمر لهم العلوم اللدنية والأسرار الربانية ناداهم أهل البطالة والتقصير: أفيضوا علينا من الماء الذي سقاكم الله منه، أو مما رزقكم من العلوم والمعارف. قالوا: إن الله حرمهما على البطالين الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى: فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء فقلنا فيه: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «1» إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم عرّف الحق- جل جلاله بنفسه ليعرفه من أراد معرفته فى الدنيا، فقال:
[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 56]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
قلت: (حثيثًا) أي: سريعًا صفة لمصدر محذوف، أي: طلبّا حثيثا، أو حال من الفاعل، أي: حاثًا، و (مسخراتٍ) حال فيمن نصب، وخبر فيمن رفع، و (تضرعًا وخفية) : مصدران، حالان من الواو، وكذلك (خوفًا وطمعًا) .
يقول الحق جل جلاله: إِنَّ رَبَّكُمُ الذي يستحق أن تعبدوه، هو اللَّهُ وحده الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي: أظهرهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: مقدار ستة أيام من أيام الدنيا إذ لم يكن ثَمَّ شمس، ولو شاء خلقهن في لمحة، والعدول إليه لتعليم خلقه التأنى والتثبت.
(1) من الآية 106 من سورة البقرة.
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، والعرش: جسم عظيم محيط بالأكوان. سمي به لارتفاعه، وللتشبيه بسرير الملك، فالأكوان في جوفه ممحوقة فقد استولى عليها ومحقها، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه ومحقته، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
وقال القشيري: ثم استوى على العرش، أي: تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم. فأخبر الحقُّ- سبحانه وتعالى بما يَقرُب من فَهم الخلقِ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات، بأنه استوى على العرش، ومعناه: اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار، والمعبودُ عن الحدود. هـ.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي: يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي: يعقبه سريعًا كالطالب له، لا يفصل بينهما شىء، وَخلق الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي: بقضائه وتصريفه، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية، دالة على ظهور شيء منها.
والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء، ثم اندرس ذلك العلم، فلم يبق إلا ما هو مختلط، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله- تعالى- بها في الأرض، وفي النبات والحيوان شيئًا، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين، بل هو الحق، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل: قادح في الدين، فالكواكب ما خلقت عبثًا، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وقرأ قوله تعالى: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هذا باطِلًا
…
الآية «1» .
انظر: الإحياء للغزالي.
ثم قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي: الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: تعاظم في ألوهيته، وتعالى في ربوبيته، وتفرد في وحدانيته.
قال البيضاوي: (وتحقيق الآية- والله أعلم- أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد- وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم، وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك العلوية، والأجرام السفلية، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره كالملِكِ الجالس على عرشه
(1) الآية 191 من سورة آل عمران.
وسريره لتدبير مملكته، فدبر الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب، وتكوير الليالي والأيام، فله الخلق والأمر. وكذلك قال في آية السجدة بعد ذكر الخلق: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «1» ، فربُّ الخلائق: مَن هذا صفته، لا غيره. انتهى بالمعنى.
ثم أمرهم بأن يدعوه، متذللين مخلصين، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي: ذوي تضرع وخفاء فإن الإخفاء دليل الإخلاص، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، ونبه على أن الداعي ينبغي ألَاّ يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء، وقيل: الاعتداء في الدعاء، هو الصياح به، والتشدق، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «سَيَكُونُ قَومٌ يَعتَدُونَ في الدّعَاءِ، وحَسبُ المَرء أن يَقُولَ:
اللَّهُمَّ إنَّي أسألُكَ الجَنَّةَ ومَا يُقرِّبُ إليهَا من قَولٍ وعَمَلٍ. ثم قرأ: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» «2» .
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي، بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الأنبياء، وشرع الأحكام، أو:
ولا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن، بعد إصلاحها بالخصب والأمان، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي: خوفاً من الرد لقصور الأعمال، وطمعًا في القبول بالفضل والكرم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المخلصين.
قال البيضاوي: هو ترجيح للطمع، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الترحم، أو لأنه صفة محذوف أي: أمر قريب، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو للفرق بين القريب من النسب، والقريب من غيره. هـ. قلت: والأحسن أنه إنما ذكره لأن المراد بالرحمة هنا: سر الخصوصية، وهو مذكر، فراعى معنى اللفظ، كأنه قال: إن سر الولاية- وهي الخصوصية- قريب من المحسنين.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: (في ستة أيام) : قال الورتجبي: في كل يوم من هذه الأيام: ظهور صفة من صفاته الست: أولها: العلم، والثاني: القدرة، والثالث: السمع، والرابع: البصر، والخامس: الكلام، والسادس: الإرادة، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة، ولما أتمها صارت الحدثان كجسد آدم بلا روح، فتجلى من صفته السابعة-
(1) الآية 4 من سورة السجدة.
(2)
أخرجه أبو يعلى فى مسنده «2/ 71» من حديث سعد بن أبي وقاص. وصدر الحديث إلى قوله (فى الدعاء) أخرجه أبو داود فى (الطهارة، باب الإسراف فى الماء) وابن ماجه فى (الدعاء، باب كراهية الاعتداء فى الدعاء) والحاكم فى المستدرك «1/ 540» وصححه ووافقه الذهبي، من حديث عبد الله بن مُغفل.
وهي حياته القديمة الأزلية الباقية، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس- فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته، ويكون إلى الأبد لحياتها بروح حياته، المقدسة عن الاتصال والانفصال. قلت: وهي المعبَّر عنها بالمعاني القائمة بالأواني. ثم قال: وفي أدق الإشارة: السموات: الأرواح، والأرض: الأشباح، والعرش: القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي: فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان. قلت: أي: إذ لا حدثان ولا أكوان لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال: خصَّ السموات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات. قلت: لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها: تجلي الصفات.
ثم قال: السموات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي: هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
قلت: وأقرب من هذا كله: أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية- قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق- جل جلاله عن استيلاء هذه العظمة- التي هي أسرار الربوبية- على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله:«يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محققت الآثار بالآثار، ومحوت الآثار- وهي العرش وما احتوى عليه- بمحيطات أفلاك الأنوار» وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار، من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تُفارق الموصوف، فافهم.
قلت: ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستبعد أن يكون الحق- جل جلاله يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا