الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ذكر خروجه من السجن وتمكينه من الملك، فقال:
[سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 57]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَاّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَاّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54)
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57)
يقول الحق جل جلاله: ولما جاء الرسول من عند يوسف بالتعبير، وسمعه الملك، تعجب منه، واستعظم علمه وعقله وقال: لا ينبغي لمثل هذا أن يُسجن، ائْتُونِي بِهِ، فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليُخرجه، قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ: ما شأنهن حتى قطعن أيديهن، وهل رأين مني ميلاُ إليهن. وإنما تأنى في الخروج، وقدَّم سؤال النسوة، والفحص عن حاله ليظهر براءة ساحته، وليعلم الملك أنه سُجن ظلماً، فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يتقي مواضع التهم، ويجتهد في نفيها، وفي الحديث:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَقِفَنَّ مَواقِفَ التُّهَم» .
وفيه دليل على حلمه وصبره، وعدم اهتباله بضيق السجن إذ لم يُجب الداعي ساعة دُعي بعد طول سجنه.
ومن هذا المعنى تواضع معه نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لَو لَبِثت في السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» «1» . ولم يذكر امرأة العزيز كرماً، ومراعاةً للأدب، ورعياً لذمام زوجها، وستراً لها. بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن.
(1) أخرجه البخاري فى (تفسير يوسف- باب فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك
…
) عن أبى هريرة رضى الله عنه.
ثم قال: إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لِي: أطع مولاتك. وفي عبارته تعظيم لكيدهن، والاستشهاد عليه بعلم الله، وبراءته مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن. ثم جمع الملك النسوة، وكُن ستاً أو سبعاً، مات منهن ثلاث ويوسف في السجن، وبقي أربع ومعهن امرأة العزيز. وقالَ لهن: ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن إِذْ راوَدْتُنَّ أي: حين راودتن يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ، وأسند المراودة إلى جميعهن لأن المَلِك لم يتحقق أن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها. قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيهاً لله أن يعجز عن خلق عفيف مثله، أو تنزيهاً ليوسف أن يعصيه لأجل خوف الله. وهذه تبرئة ليوسف ولهن، أو لهن فقط. وتكون تبرئة يوسف في قولهن:
ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ: من ذنب.
قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أي: تبين ووضح، أو ثبت واستقر، أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي فلما رجع إليه الرسول، وذكر ما قالته النسوة، وما أقرت به امرأة العزيز، قال: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي: فعلت ذلك التثبت والتأني في الخروج ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته بِالْغَيْبِ في حال غيبته، أو بظهر الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة، بل تعففت عنها. وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ أي: لا ينفذه ولا يسدده. أو لا يهدي الخائنين لكيدهم. وأوقع الفعل على الكيد مبالغةً. وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها زوجها، وتوكيد لأمانته.
رُوِي عن ابن عباس أنه لما قال: لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبريل عليه السلام: ولا حين هممت. فقال:
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي لا أنزهها في عموم الأحوال، أو لا أزكيها على الدوام. قاله تواضعاً وإظهاراً للعبودية، وتنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه، ولا العجب بحاله، بل إظهاراً لنعمة العصمة والتوفيق.
ثم قال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ بحيث إنها مائلة بالطبع إلى الشهوات، فتهُم بها، وتستعمل القوى والجوارح في نيلها في كل الأوقات.، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي: إلا وقت رحمة ربي بالعصمة والحفظ، أو: إلا ما رحم الله من النفوس فيعصمها من ذلك. وقيل: الاستثناء منقطع، أي: لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ، يغفر ما همت به النفوس، ويرحم من يشاء بالعصمة. أو يغفر للمستغفر ذنبه المعترف على نفسه، ويرحمه بالتقريب بعد تعرضه للإبعاد.
وقيل: إن قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ إلى هنا، هو من كلام زليخا. والأول أرجح «1» .
(1) ورجح الحافظ ابن كثير القول الثاني، وقال: إنه الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة.
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي أي: أجعله خاصتي وخلاصتي، أو أجعله خالصاً لنفسي. قال أولاً: ائْتُونِي بِهِ فقط، فلما تبين له حاله وظهر كماله، قال: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي رُوي أنه لما أراد ان يخرجه أرسل إليه بخلعة يأتى فيها، وكان بين السجن والبلد: أربعة فراسخ، فقال يوسف: لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد، فأمر الملك بخروج جميع مَن فيه. فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك، قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره. ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟. فقال: لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لساناً، فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه، فقال: أحب أن أسمع رؤياي، فحكاها، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها، فأجلسه على السرير، وفوض إليه أمره. وهذا معنى قوله تعالى: فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ أي: فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدهاء، قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ عندنا مَكِينٌ أي: في مكانه ومنزلة، أَمِينٌ:
مؤتمن على كل شيء، ثم فوض إليه أمر المملكة.
وقيل: توفي قطفير- أي: العزيز- فنَصَّبه منصبه، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت، وافتقرت، فدعا الله تعالى فرد عليها جمالها وشبابها، فوجدها عذراء، وولد منها إفرائيم وميشا. ثم قال له الملك: ما ترى نصنع في هذه السنين المخصبة؟.
قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ أي: أرض مصر ألى أمرها. والخزائن: كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما. إِنِّي حَفِيظٌ لها ممن لا يستحقها، عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها. قال البيضاوي: ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة، آثر ما تعم فوائده وعوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية، وإظهار أنه مستعد لها، والتولي من يد الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد: ان الملك أسلم على يديه. هـ. قلت: وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه.
وقال ابن عطية: وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السلام لرغبته أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبى بكر رضى الله عنه في الخلافة، مع نهيه المستشيرَ له من الأنصار عن أن يتأمَّر على اثنين. فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه. هـ. وفي «الاكتفاء في أخبار الخلفاء» : أن عمر أراد أبا هريرة على العمل، فامتنع، فقال له: أوليس يوسف خيراً منك، وقد طلب العمل؟ فقال: يوسف نبى بن نبي، وأنا ابن أميمَةَ، فأنا أخاف ثلاثاً واثنين: أن أقول بغير علم، وأقضي بغير عدل، وأن يضرب ظهري، ويشتم عرضي، ويؤخذ مالي. هـ.
وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أي: ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه فِي الْأَرْضِ أرض مصر، يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ: ينزل من بلادها حيث يريد هو، أو ينزل منها حيث نريد «1» ، نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ في الدنيا والآخرة، وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ، بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً. ويوسف أفضلهم في زمانه، فمكَّنه الله من أرض مصر، حتى ملكها بأجمعها وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد في جمع الطعام وتكثير الزراعات، حتى دخلت السنون المجدبة، وعم القحط مصر والشام، ونواحيهما، وتوجه الناس إليه، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شيء، ثم في السنة الثانية بالحلي والحلل، ثم في السنة الثالثة بأمتعة البيوت، ثم في الرابعة بالدواب، ثم في الخامسة بالرباع والعقار، ثم في السادسة بأولادهم، ثم في السابعة برقابهم حتى استرقهم جميعا، ثم عرض الأمر على الملك فقال: الرأي رأيك. فأعتقهم ورد إليهم أموالهم.
قال تعالى: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ الشرك والفواحش، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة. وقال ابن جزي في قوله: نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ: الرحمة هنا المراد بها الدنيا، وكذلك الأجر في قوله: وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بدليل قوله بعد ذلك: وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر، وطائع وعاص، وأن المحسنين لا بد من أجرهم في الدنيا. فالأول في المشيئة، والثاني واقع لا محالة. ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ، وفيه إشارة إلى أنَّ يوسف عليه السلام جمع الله له بين الدنيا والآخرة. هـ.
الإشارة: في الآية ثلاث فوائد: الأولى: مدح التأني في الأمور، ولو كانت جلالية لأنه يدل على كمال العقل والرزانة، وطمأنينة القلب. وذم العجلة لأنها من خفة العقل والطيش، وعدم الصبر والاحتمال. يؤخذ ذلك من تأني يوسف عليه السلام في السجن بعد طول مدته. وفي الحديث:«التَأَنِّي مِن اللَّهِ، والعَجَلَةُ من الشَّيطَانِ» «2» .
الثانية: عدم تزكية النفس، ودوام اتهاما، ولو بلغت من التصفية ما بلغت. وقد تقدّم في قوله تعالى: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَاّ يُؤْخَذْ مِنْها «3» ، وقال بعض الصوفية: وكيف يصح لعاقل أن يزكي نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يقول: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، والنفوس ثلاثة: أمّارة، ولوّامة، ومطمئنة. وزاد بعضهم: اللهامة من قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها «4» ..
(1) هذا المعنى على قراءة (نشاء) بالنون، وبها قرأ ابن كثير، انظر الإتحاف (2/ 149) .
(2)
أخرجه الترمذي فى (كتاب البر والصلة، باب ما جاء فى التأنى والعجلة) بلفظ «الأناة» ، من حيث سهل بن سعيد الساعدي، وأخرجه- بلفظ المفسر، البيهقي فى: شعب الايمان، من حديث أنس. وضعف السيوطي حديث البيهقي. انظر الجامع الصغير (ح/ 3390)
(3)
من الآية 70 من سورة الأنعام. [.....]
(4)
الآية: 8 من سورة الشمس.