الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
نبذة مختصرة عن المدارس النحوية ومناهجها والأصول النحوية
سنحاول في السطور التالية تقديم نبذة مختصرة عن المدارس النحوية المختلفة، وسنخص بالذكر هنا
المدرسة البصرية
، والكوفية، والبغدادية.
ولاشك أن كلامنا عن هذه المدارس هو من نافلة القول، وهو من الكلام المعاد المكرر؛ ولكن تلك نبذة لابد منها لتكون منطلقًا لمناقشة الأصول النحوية عند أبي العلاء والتبريزي.
المدرسة البصرية:
قبل البدء في تجلية ملامح مدارسنا النحوية نقرر أن علماءنا ((الأقدمين اتبعوا المنهج الوصفي في استنباط القواعد النحوية، وذلك من خلال استقرائهم لغة العرب من مصادرها الأصلية: قرآنا، حديثا، شعرا، نثرا)) (1)، واستنباط القواعد هذا قائم على الاستدلال؛ أي أننا ((نستدل من الأثر الأنظمةَ النحوية وتفصيلاتها القائمة في اللغة على هذه الأنظمة؛ أي أنه يتم توظيف الآثار للوقوف على الأنظمة اللغوية التي وراءها)) (2).
وعند حديثنا عن المدارس النحوية لابد أن نبدأ بـ ((مدرسة البصرة))، وحُقَّ لها أن يُبدأَ بها، فـ ((هي التي وضعت أصول نحونا وقواعده، ومكنت له من هذه الحياة المتصلة التي لا يزال يحياها إلى اليوم، وكل مدرسة سواها فإنما هي فرع لها، وثمرة تالية من ثمارها)) (3). فإلى هذه المدرسة يرجع الفضل في وضع علم النحو، وتوطيد أركانه، وتعهده بالعناية حتى استوى على سوقه، وتحددت معالمه التي عرف بها عبر هذه القرون الطويلة.
(1) د. نادية رمضان النجار: اللغة وأنظمتها بين القدماء والمحدثين، ص 164 [دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر].
(2)
د. محمد عبد العزيز عبد الدايم: الاستدلال النحوي، نحونظرية معاصرة لأصول النحوالعربي، ص 19 [2008، وبدون بيانات أخرى].
(3)
د. شوقي ضيف: المدارس النحوية، ص 5 [دار المعارف، ط 9].
ولقد تشدد شيوخ هذه المدرسة في ((الاطراد في القواعد)) تشددا جعلهم ((يطرحون الشاذ، ولا يعولون عليه في قليل أو كثير، وكلما اصطدموا به خطأوه أوأولوه)) (1)، وأما من حيث الاستقراء ((فقد اشترطوا صحة المادة التي يشتقون منها قواعدهم، ومن أجل ذلك رحلوا إلى أعماق نجد وبوادي الحجاز وتهامة؛ يجمعون تلك المادة من ينابيعها الصافية التي لم تفسدها الحضارة، وبعبارة أخرى رحلوا إلى القبائل المتبدية المحتفظة بملكة اللغة وسليقتها الصحيحة، وهي قبائل تميم وقيس وأسد وطيئ، وبعض عشائر كنانة)) (2)، فقد ((كانت لغة البدو هي القدوة المثلى والنموذج الرفيع)) (3). وفكرتهم في ذلك ((أن الانعزال في كبد الصحراء وعدم الاتصال بالأجناس الأجنبية يحفظ للغة نقاوتها، ويصونها من أي مؤثر خارجي، وأن الاختلاط يفسد اللغة، وينحرف بالألسنة)) (4)، فهم يرون في ((الاختلاط بغير العرب سبيلا لفساد القول، واختلاط اللسان، وموردا لكثير من الألفاظ والأساليب، وطرق التعبير التي لا تعرفها العربية)) (5).
فقد رأوا أن ((الحضر قد فسد بالاختلاط، بل كانوا لا يأخذون عن البدوي إلا إذا لم يفسده الحضر، فكانوا لا يأخذون عن الأعرابي إذا فهم القول الملحون)) (6).
(1) المدارس النحوية: ص18، ويقول د. شوقي ضيف في موضع آخر:((على أنه ينبغي أن نعرف أن المدرسة البصرية حين نَحَّتِ الشواذ عن قواعدها لم تحذفها ولم تسقطها، بل أثبتتها، أوعلى الأقل أثبتت جمهورها، نافذة في كثير منها إلى التأويل))، [المدارس النحوية: ص 162]
(2)
المدارس النحوية: ص 18 ـ 19
(3)
يوهان فك: العربية، دراسة في اللغة واللهجات والأساليب، ترجمة د. رمضان عبد التواب، 93، [ط1، 1980، الخانجي].
(4)
د. أحمد مختار عمر: البحث اللغوي عند العرب، ص 34 [عالم الكتب، ط 6، 1988].
(5)
د. شعبان صلاح: مواقف النحاة من القراءات القرآنية، ص 33، [دار غريب، 2005].
(6)
أحمد أمين: ضحى الإسلام، 314، [الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 1997م]. وقد دفع هذا الحرص أيضًا إلى ظهور ما سماه د. رمضان عبد التواب في ترجمته لكتاب ((العربية)) ليوهان فك بمبدإ ((تنقية اللغة)) الذي تبناه الأصمعي واحتضنه ابن قتيبة بشدة، هذا الاحتضان جعل البطليوسي ينحى باللائمة على ابن قتيبة؛ لأنه لم ((يعن بمذاهب الثقات الآخرين من علماء اللغة، ولوعلى سبيل العرض فحسب)). وكان لمبدأ تنقية اللغة هذا ((أثر في التربية اللغوية للمجتمع العربي، أن صارت عربية البدوتعد القدوة المثلى، والمثل الأعلى من جميع الوجوه))، بل إن هذا المبدأ ((احتذاه الشعر الرفيع في جميع العصور كما هوالأعم الأغلب)). [يُنْظَرُ: يوهان فك: العربية، 99، 109].
وقد عبر ابن جني عن هذه الفكرة أيضا قائلا: ((باب في ترك الأخذ عن أهل المدر كما أخذ عن أهل الوبر:
…
ولوعلم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم، ولم يعترض شيء من الفساد للغتهم؛ لوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر. كذلك لوفشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة
وخبالها، وانتقاض عادة الفصاحة وانتشارها؛ لوجب رفض لغتها، وترك تلقي ما يرد عنها)) (1).
وجملة القول أن أبرز سمات هذا المذهب تتجلى في ((الدقة والحيطة؛ فقد اشتهر نحاة البصرة بانتقاء الأساليب الفصيحة، والشواهد الصحيحة؛ لقد سمعوا عن العرب كثيرا؛ ولكنهم لم يقبلوا كل ما سمعوا، ولم يعتمدوا كل ما روي لهم، ولم تقم قواعدهم على الرواية العابرة، أوالبيت النادر، أوالقولة النابية. إنهم أرادوا أن يضعوا أسس علم، وأرادوا لهذه الأسس أن تكون قوية؛ فلا بد من أن تكون متواترة، أوقريبة من التواتر؛ حتى ترسخ قواعدها فلا تزلزل، وحتى يقوى أساسها فلا يلين)) (2)
وقد اعتمدت مدرسة البصرة على القياس؛ إذ ((اقتصر البصريون على جواز القياس على المشهور الشائع، وأبوا القياس على القليل أوالنادر، في حين أن الكوفيين قد أجازوا القياس على الشاهد الواحد أوالشاهدين)) (3). ولقد توسع البصريون في القياس والتعليل؛ إذ ((طلبوا لكل قاعدة علة، ولم يكتفوا بالعلة التي هي مدار الحكم؛ فقد
(1) الخصائص: [2/ 5]، [سلسلة الذخائر، الهيئة العامة لقصور الثقافة، تحقيق: محمد على النجار]
(2)
د. مصطفى عبد العزيز السنجرجي: المذاهب النحوية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، ص 17، [دار الفيصلية، مكة المكرمة، ط1، 1986م].
(3)
د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، ص9 [مكتبة الأنجلو، ط7، 1994م].