الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيت المشهور من شعر غيره فيزيده في شعر نفسه على المعنى الذي يسمى التضمين)) (1).
وعبارات أبي العلاء: ((وقد كانت الشعراء في القديم))، ((وهو في الشعر أسوغ)) و ((وقلما يستعمل الشعراء))
…
توحي بأن القصيدة ـ في نظر لغويينا القدامى ـ كانت ((بناء تدخل في تكوينه عناصر نمطية مختلفة ومتكررة، ولكنها نمطية لا تجعل بالضرورة من أبنية القصائد المختلفة صيغة شعرية ذات معنى واحد)) (2).
ـ
العنصر الخامس من عناصر المنهج: تأويل البيت كل التأويلات الممكنة في غياب القرينة المحددة لمعنى معين:
كان أبوالعلاء يقدم للبيت كل المعاني (3) الممكنة، وذلك في غياب القرائن (4) المحددة لمعنى محدد أوالمرجحة لمعنى على معنى؛ إذ إن ((تعدد المعنى يكشف عن عدم كفاية القرائن)) (5). ففي حالة غيابها كان يذكر كل المعاني الممكنة (6).
وكان يعتمد في إثراء معنى البيت على الأمور الآتية:
أـ توظيف المعاني المعجمية المختلفة للفظة الواحدة في تأويل البيت:
فالكلمة التي لها أكثر من معنى معجمي كان أبوالعلاء يوظفها في إثراء معنى البيت طالما أن المعنى أوالسياق يسمحان بذلك. وقد وظف هذا الأسلوب في عشرين موضعا منها:
(1) يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [4/ 352 ـ 353].
(2)
د. إبراهيم عبد الرحمن: من أصول الشعر العربي القديم، ص 25، مجلة فصول، ع تراثنا الشعري، مارس 1984م
(3)
كان أبوالعلاء يسمى هذه المعاني: تأويلا، أوتأوُّلا، ينظر: 4/ 152.
(4)
تراجع جزئية توظيف القرائن، والتي ذكرنا منها: قرينة السياق، وقرينة الاستعمال اللغوي، وقرينة الخصائص الأسلوبية للشاعر
…
.
(5)
البيان في روائع القرآن: د. تمام حسان، 1/ 164، [مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2002].
(6)
بلغ عدد الأبيات التي قدم لها أبوالعلاء أكثر من تأويل 175 بيتا.
1 ـ قال أبوالعلاء عند قول أبي تمام يمدح أبا عبد الله أحمد بن أبي دواد، ويعتذر إليه:
عامي وَعامُ العيسِ بَينَ وَديقَةٍ
…
مَسجورَةٍ وَتَنوفَةٍ صَيخودِ [بحر الكامل]
((((الوديقة)): شدة الحر، ودنوالشمس من الأرض، و ((مسجورة))؛ أي: مملوءة بالسراب، ويجوز أن يعنى بمسجورة: من سجر التنور، يصفها بشدة الهجير .. و. ((صيخود)) يجوز أن يعني به صلابة الأرض، من قولهم: صخرة صيخود؛ ويجوز أن يعني به شدة الحر، من قولهم: صَخَدته الهاجرة إذا آلمت دماغه)) (1).
2 ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
بِأَبي هَوًى وَدَّعتُهُ
…
تاهَت بِصُحبَتِهِ الرِّفاقُ [بحر: مجزوء الكامل]
((
…
وقوله ((تاهت)) يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون من التيه الذي هوتكبر وإعجاب؛ كأنها لحقها تيه لما صحبها، والآخر أن يكون من تاهَ في الأرض إذا حار وضل؛ أي: أنهم يحارون لحسنه ونوره)) (2).
3 ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
ذَريني وَأَهوالَ الزَّمانِ أُفانِها
…
فَأَهوالُهُ العُظمى تَليها رَغائِبُه [بحر الطويل]
((.. إذا رويت: ((أُفانها)) بالفاء، فهويحتمل وجهين: أحدهما أن تكون المفاعلة من الفناء؛ والآخر أن يكون من الفِناء؛ أي: تنزل بفنائي وأنزل بفنائها)) (3).
4 ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
مِن كُلِّ قَرمٍ يَرى الإِقدامَ مَأدُبَةً
…
إِذا خَدا مُعلِمًا بِالسِّيفِ أَووَسَجا [بحر البسيط]
(1) يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [1/ 389ب12].
(2)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [4/ 239ب2].
(3)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [1/ 219ب4].
((.. ((يَرى الإِقدامَ مَأدُبَةً)): يحتمل أن يكون من المأدبة التي هي تأديب؛ أي: يرى إقدامه من الأدب الذي ينبغي أن يستعمل، ويجوز أن يكون من المأدبة إلى الطعام، فهويسيرٌ عليه)))) (1).
والنصوص الأربعة السابقة تشير إلى:
أـ أهمية التقيد بدلالات اللغة وألفاظها في التفسير، ورفض أي تفسير يأتي بدلالة جديدة للفظ لم تأت مرتبطة بهذا اللفظ، ولذلك قال علماء تفسير القرآن إنه من الأهمية ((فهم حقائق الألفاظ المفردة التي أودعها القرآن بحيث يحقق المفسر ذلك من استعمالات أهل اللغة)) (2). وأنه مما أوقع كثيرا من الفرق الإسلامية في البدع
((حمل ألفاظ القرآن على معان اعتقدوها لتأييدها به)) (3).
ب ـ تأثر أبي العلاء بأقوال المعتزلة من أنه من ((الواجب على من يتعاطى تفسير غريب الكلام والشعر أن يذكر كل ما يحتمله الكلام من وجوه المعاني)) (4).
ج ـ كلام أبي العلاء يؤكد أن ((الكلام إذا فقد دلالته اللغوية فليس له أي اعتبار)) (5). وأصبح مَن شاء يقول ما شاء فيما شاء (6).
(1) ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [1/ 337ب33]. وينظر أيضا المواضع التالية من ديوان أبي تمام: [1/ 302، ب13]، [1/ 369، ب1]، [2/ 174، ب39]، [2/ 210، ب3، هام]، [2/ 352، ب6]، [2/ 371، ب42]، [2/ 416، ب20]، [2/ 420، ب33]، [2/ 85، ب17]، [3/ 163 ـ164، ب26، هام]، [3/ 35، ب13]، [3/ 38، ب23 ـ 24]، [3/ 39، ب26]، [3/ 44، ب44]، [3/ 50، ب11]، [4/ 90، ب7]، [4/ 93، ب9]
(2)
السيد محمد رشيد رضا: تفسير المنار، 1/ 19، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1990، مع التنبيه على أنه من الخطورة ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ ((التفسير بمجرد دلالة اللغة العربية من غير مراعاة المتكلم بالقرآن وهو الله عز وجل والمنزل عليه والمخاطب به)). ينظر: تفسير المنار 1/ 9، وقد نبه علماء الأصول أيضا على أنه من الشروط التي يجب أن يتحلى بها المجتهد في الدين إتقان اللغة العربية. ينظر: الاجتهاد والتقليد في الإسلام، د. طه جابر فياض العلواني، ص52، دار الأنصار القاهرة ط1، 1979م
(3)
تفسير المنار 1/ 9
(4)
أمالي المرتضي، غرر الفوائد ودرر القلائد، ص 18 ـ 19
(5)
د. محمد رجب البيومي: خطوات التفسير البياني، 2/ 140، سلسلة مجمع البحوث الإسلامية، السنة التاسعة والعشرون ـ الكتاب الأول 1419/ 1998م
(6)
ينظر مثلا تفسير المتصوفة لقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن 19]، وما يقوله محيي الدين بن عربي في التفسير المنسوب إليه. خطوات التفسير البياني، 2/ 140
د ـ يقدم أبو العلاء دائما في شرحه ما نسميه بالمعنى الحقيقي الذي ينطلق منه المعنى المجازي، ومن المعروف وجود علاقة جامعة بين المعنيين، ولابد ((أن يكون الانتقال إلى المجاز ذا قرينة دالة، وهذا لا ينازع أحد في قبوله)) (1). ولكن كل مجاز يبتعد عن الحقيقة بدون قرينة أو علاقة ((مجاز سقيم لا يعتد به)) (2).
والتأويل عن طريق المجاز الشاطح بدون التقيد بالقرائن أو العلائق المتصلة بالمعنى الحقيقي السليم مطية أصحاب الأهواء، وهو ((المركب الذلول لمن يدعون الاجتهاد الديني أو الابتكار الأدبي دون هدى منير)) (3).
****
ب ـ استغلال البنية الصرفية:
كان أبوالعلاء يستغل البنية الصرفية وضبطها (4) في إثراء المعني، ومثال ذلك:
ـ قال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
أَن سَوفَ تُهدى إِلى أثآرِهِ بُهُمًا
…
يُمسي الرَّدى مُسرِيًا فيها وَمُدَّلِجا [بحر البسيط]
((.. ((الأثآر)) جمع ثأر، والمعنى أن هذا المقتول قد علم أنك ستُهْدِي إلى القوم الذين قتلوه جيشا يطلب ثأره ، ويجوز أن يكون ((تُهْدِي)) من الهدية، و ((تَهْدِي)) بفتح التاء، من هديتُ القوم إذا تقدمتهم)) (5).
(1) خطوات التفسير البياني، 2/ 142
(2)
خطوات التفسير البياني، 2/ 134
(3)
خطوات التفسير البياني، 2/ 143
(4)
في بعض الأحيان كان تغيير التشكيل يؤدي إلى تغيير الوظيفة النحوية، فإذا سمح السياق بتلك الوظيفة الجديدة أجازها أبوالعلاء، وإن لم يسمح لم يجزه، واتخذه كقرينة لرد الرواية أوالمعني، أوعلى الأقل الترجيح، ينظر: 2/ 54، ب 39
(5)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [3/ 150ب2]، وينظر أيضا:[1/ 338ب36].
ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
نُحِرَت رِكابُ القَومِ حَتّى يَغبُروا
…
رَجْلَى لَقَد عَنُفوا عَلَيَّ وَلاموا [بحر الكامل]
((.. دعا عليهم بأن تنحر ركابهم حتى يغبروا، وإن شئتَ جعلت ((رَجْلَى)) جمع رجلان فلم تُنَوِّن. وكذلك ينشده الناس، يقال: رَجْلان ورَجْلى، كما يقال: سَكران وسَكْرى (
…
) ولونونت فَجُعِلَت جمع راجل ورَجْل، مثل: صاحِب وصَحْب كان ذلك حسنا)) (1).
ومما يتصل بهذه الجزئية استغلال أبي العلاء كون الكلمة جمعا للفظتين مختلفتين في المعنى، ويوظف معنى كل لفظة في إثراء معنى البيت الإجمالي، طالما أن معنى البيت يسمح بذلك، ومثال ذلك ما يلي:
ـ قال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
قَد بورِكَت تِلكَ البُطونُ وَقُدِّسَت
…
تِلكَ الظُهورُ بِقُربِهِ تَقديسا [بحر الكامل]
((يجب أن يعني: بـ ((الظهور)) هاهنا جمع ((ظَهر))، من الأرض وهوما ظهرَ منها، و ((البطون)) جمع بطن، وإذا كانت الأرض غير مسكونة فظهورها ما ارتفع منها وبطونها ما كان واديا أو وهدا، وإذا كانت مسكونة فظهورها ما ظهر من جدرانها وبطونها ما بطن من الدور والبيوت. وقد يحتمل أن يعني بـ ((الظهور)) جمع ظَهْر الرجل، و ((البطون)) جمع بطن المرأة، يريد أن أهل هذه المحلَّة قوم طاهرون مُباركون، والأول أحسن وأشبه بالغرض)) (2).
ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
وَغَدَت بُطونُ مِنى مُنىً مِن سَيبِهِ
…
وَغَدَت حَرًىمِنهُ ظُهورُ حِراءِ [بحر الكامل]
(1) وينظر أيضا المواضع الأربعة الآتية: [1/ 114]، [1/ 120]، [1/ 22]، [4/ 74]. .
(2)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [2/ 256ب14].
((.. إن ضممت الميم من ((مُنًى)) فهوجمع: مُنْية، والمعنى يصح على ذلك، وإن رويته:((مَنًى)) فهو حسن، من قولهم: أصابه مَنًى؛ أي: مقدار؛ أي: غدت بطون مِنًى مقدرة لسيبه؛ أي: عطائه، ويحتمل أن يكون من قولهم: دارى بِمَنَى داره؛ أي: بحذائها)) (1).
ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
رَأَوا مِنهُ لَيثًا فَابذَعَرَّت حُماتُهُم
…
وَقَد حَكَمَت فيهِ حُماةُ العَوامِلِ [بحر الطويل]
((و ((حُماتُهُم)): جمع حام، أي الذي يحميهم، و ((حُماةُ العَوامِلِ)) يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون جمع حام مثل الأول، كأنه جعل العوامل تحمى، والآخر أن يكون جمع: حُمَة، يراد بها: السَّمُّ وسورته، وهذا أشبه بمذهب الطائي من الوجه الأول، والوقف في هذا القول على التاء؛ لأنها مثل تاء ثُبات، والوقف في الوجه الأول على الهاء؛ لأنها مثل قضاة، إلا على رأي من قال رحمت ونعمت في الوقف على رحمة ونعمة)) (2).
ويبدو أن أبا العلاء هنا متأثر بشدة بما قاله ابن جني في ((باب في تداخل الأصول الثلاثية والرباعية والخماسية)) حيث أوضح في هذا الباب خطورة تداخل أصول الكلمات وأثر ذلك على المعنى، وأعطى مثالا على ذلك من أقوال أبي تمام نفسه فقال: ((وعليه قال الطائي الكبير:
أَلَحدٌ حَوى حَيَّةَ المُلحِدينَ
…
وَلَدنُ ثَرىً حالَ دونَ الثَّراءِ [بحر المتقارب]
(
…
) فجاء به مجيء التجنيس ، وليس على الحقيقة تجنيسًا صحيحًا. وذلك أن التجنيس عندهم أن يتفق اللفظان ويختلف أو يتقارب المعنيان؛ كالعقل والمعقل والعقلة والعقيلة ومعقلة. وعلى ذلك وضع أهل اللغة كتب الأجناس. وليس الثرى من لفظ
(1) يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [1/ 11ب4].
(2)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [3/ 82 ـ83ب18]. وينظر أيضا المواضع الآتية: [1/ 129]، [1/ 303، ب17]، [1/ 367، ب38]، [1/ 381 ـ382، ب48]، [1/ 60 ـ61]، [2/ 314، ب18]، [2/ 412، ب11]، [2/ 463، ب20]، [3/ 123 ـ124، ب35].
الثراء على الحقيقة ، وذلك أن الثرى ـ وهو الندى ـ من تركيب: ث ر ي؛ لقولهم: التقى الثريان. وأما الثراء ـ لكثرة المال ـ فمن تركيب: ث ر و؛ لأنه من الثروة، ومنه الثريّا؛ لأنها من الثروة لكثرة كواكبها مع صغر مرآتها، فكأنها كثيرة العدد بالإضافة إلى ضيق المحل. ومنه قولهم: ثَرَوْنا بني فلان، نثروهم ثروة ، إذا كنا أكثر منهم. فاللفظان ـ كما ترى ـ مختلفان، فلا تجنيس إذًا إلّا للظاهر)) (1).
إلا أن هذا كان عنده على سبيل التنبيه، أما أبو العلاء فقد استغل هذا الأمر لإثراء معنى البيت.
****
ج ـ توجيه ألفاظ البيت إعرابيا بكل الأوجه الممكنة:
عمل أبو العلاء على توجيه ألفاظ الأبيات التي يشرحها أعرابيا بكل الأوجه الممكنة إن تيسر له ذلك، مكتفيا به وسيلة للشرح، ولاشك أنه في ذلك يوافق النحويين والبلاغيين أيضا على أن النحو ((العامل الأساسي في تأدية أصل المعنى)) (2).
وإذا كان الإعراب على أواخر ألفاظ اللغة ((لإبانة معانيها)) (3)، وليكون ((فارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين والمعنيين المختلفين)) (4)، فإن كل توجيه إعرابي لابد أن يحمل معه معنى يختلف عن الآخر، وفي هذا ولاشك إثراء لمعنى البيت.
وقد استغل أبوالعلاء الإمكانات النحوية والأوجه الإعرابية المختلفة والممكنة في إثراء معنى البيت، وقد استغل هذه الإمكانات في 29 موضعا، نذكر منها على سبيل المثال التالي:
(1) الخصائص: 2/ 49
(2)
د. محمد عبد المطلب: البلاغة والأسلوبية، ص 296
(3)
شرح المفصل لابن يعيش: 1/ 55، تحقيق: إميل بديع يعقوب، ط1، 2001، دار الكتب العلمية / بيروت
(4)
ابن قتيبة: تأويل مشكل القرآن، ص14، ط2، دار التراث 1973م
ـ قال أبوالعلاء عند قول أبي تمام يمدح الحسن بن رجاء ويطلب منه فرسا:
وَمِثلُهُ ذو العُنُقِ السَّبطِ قَد
…
أَمطَيتَهُ وَالكَفَلِ المَرمَريس [بحر السريع]
((يجوز رفع مثله على الابتداء، وخفضه على معنى رب)) (1).
والتوجيه الإعرابي لكلمة ((مثله)) يضعنا أمام المعنيين التاليين مع الأخذ في الاعتبار أن البيت السابق جاء في سياق مدح وطلب بعض العطايا:
أـ رفع ((مثله)) على الابتداء يجعل ((قد أمطيته)) خبرا جملة فعلية، يضعنا أمام جملة اسمية تفيد الثبوت والتحقق، والخبر الجملة الفعلية المؤكدة بـ ((قد)) يفيد التوكيد على تحقق معناه للمبتدإ، وفي هذا قمة المدح للممدوح.
ب ـ أما الجر فموجبه ((رب)) وهي للقليل، وإن كان كذلك فقد وصف الشاعر الممدوح بقلة العطاء.
ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
ذَريني مِنكِ سافِحَةَ المَآقي
…
وَمِن سَرَعانِ عَبرَتِكِ المُراقِ [بحر الوافر]
((.. ونصب ((سافِحَةَ المَآقي)) على وجهين: أحدهما أن يكون على النداء، والآخر أن يكون على الحال؛ لأن ((سافحة)) لا تتعرف بالإضافة إلى ما فيه الألف واللام، وكلا الوجهين: النداء والحال، يحتمل فيه ((المآقي)) أمرين: إن شئت كانت في تأويل الفاعل، كأنه قال: يا سافحة مآقيها، أوأراد: ذريني منك سافحة مآقيك، وإن شئت كانت في تأويل المفعول، كأن المخاطبة من النساء سفحتها؛ لأنه يجوز أن يقال: سفح الباكي ماءَ عينه، وسَفَحَ عينه على تقدير حذف المضاف)) (2).
(1) ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [2/ 280].
(2)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [2/ 423ب1]. وبقية مواضع هذه الجزئية ـ في ديوان أبي تمام ـ هي كما يلي: [1/ 117]، [1/ 161، ب16]، [1/ 167 ـ 168، ب37]، [1/ 170، ب45]، [1/ 192، ب42]، [1/ 230،ب34]، [1/ 234، ب2]، [1/ 318،319، ب23]، [1/ 346، 347، ب8]، [1/ 45، 46]، [1/ 57]، [1/ 78]، [1/ 8، ب2]، [1/ 85، ب25]، [2/ 240،ب15]، [2/ 280، ب20]، [2/ 308، ب1]، [2/ 385،ب39]، [2/ 69، 70، ب8]، [3/ 163،164، ب26]، [3/ 181، ب25]، [3/ 56، ب10]، [3/ 67، ب12]، [3/ 9، ب16]، [4/ 5، ب1]، [4/ 82، ب17].
وهذا الشرح بالإعراب يذكرنا بقول عبد القاهر الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز: ((إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتي يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه المعيار الذي لا يتبين نقصان كلام ورجحانه حتى يُعْرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه)) (1).
د ـ إعمال الرويات المختلفة:
كثرت في الشعر العربي تعدد الرواية لأبيات أو ألفاظ في القصائد المروية لكبار الشعراء، ويلاحظ أن ((تغيير الرواية أو التصحيف أو التحريف في الشعر القديم لا يعد من مسؤولية الشاعر؛ لأن الشاعر قال كلمته على الوجه الذي أنشأها به
ومضى، ولكنها مسؤولية الرواة)) (2).
وتعدد الرواية في الشعر القديم ((يدور في معظمه حول استخدام لفظ مرادف بدلا من آخر، بحيث لا يُحدث تغيرا في العلاقات النحوية، وهذا إذا كان اللفظان متوازنين صيغة، ومتقاربين دلالة، ومتفقين علاقة)) (3).
وكانت كثير من أبيات أبي تمام تروي بروايات متعددة (4)، وكان من منهج أبي العلاء إعمال كل الروايات المختلفة للبيت وعدم رَدِّ أية رواية ما لم توجد أية قرينةٍ ترد الرواية الأخرى، من سياق أو زحاف (5) أوغيرهما.
وبطبيعة الحال قد تكون الرواية الأخرى لفظة مختلفة ذات معنى مختلف، وإعمال هذه المعاني يثري معنى البيت بدرجة عظيمة، وقد أحصى البحث سبعة وثلاثين موضعا أعمل فيها أبوالعلاء الروايات المختلفة، وفيما يلي أمثلة:
ـ قال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
(1) الدلائل: 28 (قراءة وتعليق: محمود محمد شاكر ط3، 1992 مطبعة المدني).
(2)
د. محمد حماسة عبد اللطيف: الجملة في الشعر العربي، ص 97
(3)
السابق: 94
(4)
يُراجَع عنصر توثيق الرواية.
(5)
ينظر: الجملة في الشعر العربي، ص 94
وَأَكثَرُ حالاتِ اِبنِ آدَمَ خِلقَةٌ
…
يَضِلُّ إِذا فَكَّرتَ في كُنهِها الفِكرُ [بحر الطويل]
((المعنى يصح على ((خِلقة)) و ((خِلْفة))، فإذا رويت بالقاف فالمعنى أن حالات ابن آدم طبعه وخِلقتُه التي جُبِل عليها يَضِلُّ المعقولُ في كنهها؛ أي: في معناها، وإذا رويت ((خِلفة)) بالفاء فالمعنى أن حالات ابن آدم مختلفة)) (1).
ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
لا يَجوزُ الأُمورَ صَفحًا وَلا يُر
…
قِلُ إِلّا عَلى سَواءِ الطَريقِ [بحر الخفيف]
((
…
و ((صفحًا)): من قولهم أضرب عن كذا صفحا: إذا لم ينظر فيه، يريد أنه يتدبَّر الأشياء، ولا يتركها إغفالا، ومن روى ((يُرْقِل)) بالقاف فهو من إرقال السير
…
ومن روى ((يَرْفُل)) فهومن رفَلَ في ثوبه: إذا جرَّ ذيله)) (2).
ـ وقال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
فِدًى لَهُ مُقشَعِرٌّ حينَ تَسأَلُهُ
…
خَوفَ السُّؤالِ كَأَن في جِلدِهِ وَبَرُ [بحر البسيط]
((.. إذا رويت: ((وَبَرُ))؛ فالمعنى أنَّ هذا المذموم كأنه ذو وَبَرُ. وإن رويت ((الإبَرُ))؛ فالمعنى أن يقشعرّ؛ فيقوم شعره كأنه الإبر ..)) (3).
والجمع بين الروايات المختلفة منهج إسلامي أصيل، أخذ به الفقهاء والمُحَدِّثُون عند تعاملهم مع الحديث النبوي؛ فقرروا أن ((المنهج الصحيح في النظر أن يجمع بين
(1) يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [4/ 86ب3].
(2)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [2/ 444ب66].
(3)
يُنْظَرُ ديوان أبي تمام بشرح التبريزي: [2/ 189ب20]. بقية المواضع في ديوان أبي تمام كما يلي [1/ 149]، [1/ 173، ب55]، [1/ 230 ـ 231، ب35]، [1/ 259، ب59]، [1/ 320، ب27]، [1/ 325، ب11]، [1/ 327، ب24]، [1/ 362، ب26]، [1/ 395، ب38]، [1/ 399، ب54]، [1/ 75]، [1/ 92]، [2/ 155، ب12]، [2/ 157، ب16]، [2/ 175، ب41]، [2/ 177 هام]، [2/ 207، ب45]، [2/ 256، ب6]، [2/ 266، ب18]، [2/ 274، ب1]، [2/ 309، ب3]، [2/ 315، ب26]، [2/ 329، ب31]، [2/ 364، ب16]، [2/ 424، ب4]، [3/ 14، ب29]، [3/ 176، ب3]، [3/ 21 ـ 22، ب3]، [3/ 309، ب4]، [3/ 34، ب9]، [3/ 5، ب1]، [3/ 57، ب11]، [3/ 84، ب22]، [4/ 164، ب1]، [4/ 90 ـ 91، ب10].
هذه الروايات، وذلك بحسن توجيهها في الموضوع الذي وردت فيه ـ بلا تعسف ـ ودون أن يهمل رواية منها، فالجمع بينها مقدم؛ لأن إعمال النص الصحيح خير من إهماله)) (1). بل كان إعمال القراءات القرآنية المختفلة للآية الواحد مسلك المذاهب الفقهية أوعلى الأقل بعضها (2).
وأبوالعلاء بحكم نشأته في بيت علم لم يكن بعيدا عن التأثر بهذا المنهج (3).
هـ ـ وكان أبوالعلاء يميل ألا تكون المعاني المتأولة بعيدة عن الاستعمال اللغوي:
ومثال ذلك التالي:
ـ قال أبوالعلاء عند قول أبي تمام:
وَلِهَت فَأَظلَمَ كُلُّ شَيءٍ دونَها
…
وَأَنارَ مِنها كُلُّ شَيءٍ مُظلِمِ [بحر الكامل]
(1) أسباب ورود الحديث، تحليل وتأسيس: د. محمد رأفت سعيد، ص 37 (كتاب الأمة ـ وزارة الشئون الإسلامية، قطر 1994)، وينظر أيضا: كيف نتعامل مع السنة: د. يوسف القرضاوي، ص 133 وما بعدها، (دار الشروق، ط3، 2005).
(2)
ونقدم هنا بعض الأمثلة على الجمع بين القراءات القرآنية:
1ـ أن الحنفية يشترطون التتابع في صوم كفارة اليمين، عملا بقراءة ابن مسعود:{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَات} [المائدة:89]، ولم يشترط غيرهم ذلك؛ لأنه لا يعتد بهذه القراءة.
2ـ أن الحنفية يرون عدم قطع اليد اليسرى للسارق عند السرقة الثالثة لفوات المحل؛ عملا بقراءة ابن مسعود: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانَهُما} [المائدة:38]، والرواية الثابتة:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} .
3ـ أن الحنفية يوجبون النفقة في قرابة ذي الرحم دون سواها لقراءة ابن مسعود:
{وعلى الْوَارِثِ ذي الرحم مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة:228]، والآية الثابتة:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك} .ينظر: مباحث في أصول الفقه: د. نادية محمد شريف العمري، ص 25 (ط1، 1990، دار هجر).
(3)
تراجع ترجمة أبي العلاء، وجزئية: علاقة أبي العلاء بالقراءات وبالحديث النبوي، وما قاله الإمام الذهبي إمام الجرح والتعديل، ص 21.