الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ
المبحث الثاني:
أوجه التشابه بين منهجي أبي العلاء والتبريزي وبين منهج مفسري القرآن الكريم
.
تعددت مناهج تفسير القرآن الكريم واتجاهاتُه، ما بين تفسير بالمأثور وتفسير بالرأي وتفسير إشاري.
ومن هذه التفاسير ما هو مقبول، ومنها ما هو غير مقبول، وقد وضع علماءُ أهل السنة والجماعة شروطا وقواعد ومنهجا يكون بها التفسير ((مقبولا)).
ويبدوتأثُّرُ أبي العلاء (ت449 هـ)، والتبريزي (ت 512هـ) بمنهج مفسري القرآن ((المقبولين)) في كثير من عناصر المنهج عندهما.
وقبل الشروع في إظهار هذا التشابه يجب النص على أن علماء التفسير بدورهم متأثرون بعلماء أصول الفقه أصحاب قصب السبق في وضع آليات لفهم النصوص العربية وفقهها، فقد، ((دخلت مناهج تفسير النصوص، طور التدوين والتسجيل، منذ القرن الثاني الهجري على يد الإمام الشافعي، والذي يرجع إليه الفضل في تأصيل هذه القواعد، وضبطها في نسق فكري خاص، كان أساسًا ونبراسًا لكل الجهود التي عنيت فيما بعد بمناهج التفسير، وقوانين الاستنباط من النصوص)) (1).
والقواعد التي أصلها علماء الأصول ((لا تقتصر أهميتها على فهم النصوص الشرعية فحسب، بل تتعداها إلى فهم جميع النصوص العربية)) (2).
ولم يؤثر علماء الأصول فقط على المفسرين بل على النحاة واللغويين ونقاد الشعر أيضا، فها هو ابن جني العظيم نجد في كتاباته ((ما يدل في وضوح على أنه تأثر في وضع أصول التصريف والنحو بأصول الفقهاء والمتكلمين جميعا)) (3).
وعند نقاد الشعر القدماء نجد النقد الذي يفرق بين ((اللغة العادية ولغة الأدب)) وهو بهذا ((يجاري منطلقات علم الأصول)) (4).
(1) د. محمد قاسم المنسي: في التفسير الفقهي، ص 43، مكتبة الشباب، 1997م
(2)
د. عبد العزيز رمضان سمك: أصول الفقه الإسلامي، ص 193، دار النهضة العربية
(3)
د. شوقي ضيف: المدارس النحوية، ص 268
(4)
د. عبد الحكيم راضي: النقد اللغوي في التراث العربي، ص 85، مجلة فصول ع تراثنا النقدي ج2، 1986م، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
ونلخص أوجه التشابه بين منهجي أبي العلاء والتبريزي والمفسرين في العناصر التالية:
1) وجه التشابه الأول: الاهتمام بأسباب نزول الآيات القرآنية، وهو يقابل اهتمام التبريزي بذكر غرض القصيدة (1):
اهتم مفسرو القرآن من أهل السنة والجماعة بمعرفة أسباب نزول الآيات القرآنية؛ وذلك لأهمية هذا الأمر في الوقوف على معنى الآية، قال السيوطي:
((
…
قال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن. وقال ابن تيمية: معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب)) (2).وقال الواحدي عن أسباب النزول إنها ((أولى ما تصرف العناية إليها لامتناع معرفة تفسير الآية وقصد سبيلها، دون الوقوف على قصتها وبيان شئونها)) (3).
ومن نفيس ما قيل في أسباب النزول قول الشاطبي: ((معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران: أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب، أوالمخاطِب، أوالمخاطَب، أوالجميع
…
الوجه الثاني: وهوأن الجهل بأسباب التنزيل
(1) أما وجه التشابه بين المنهجين في ((توثيق الرواية)) فهوفي حق القرآن الكريم وقراءاته الصحيحة أمر مفروغ منه؛ إذ إنه ((قطعي الثبوت))؛ تكفل الله بحفظه.
(2)
الإتقان في علوم القرآن، ص 40، [دار مصر للطباعة، مكتبة مصر]، وقد اعتبر د. تمام حسان أسباب النزول من ((القرائن الخارجية)) التي تحمي من اللبس، [ينظر مقال: اللغة والنقد الأدبي، د. تمام حسان [مجلة فصول، مجلة النقد الأدبي، المجلد الرابع، العدد الأول، 1983 بعنوان: النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب] ص 127).
(3)
أسباب النزول: ص 16، [دار الريان للتراث، تحقيق د. السيد الجميلي].
موقع في الشبه والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع)) (1).
ولأهمية هذه المعرفة فقد عُنِي ((سلف الأمة وخلفها عناية خاصة مما أفرد له بالتأليف جماعة سخرهم الله لحفظ أسباب نزول آياته كما حفظ كتابه، ومن هؤلاء: على بن المديني، شيخ البخاري والواحدي، والجعبري وابن حجر، والسيوطي وغيرهم)) (2).
وقد كان التبريزي حريصًا على ذكر غرض القصيدة قبل البدء في شرحها، فهويَنُصُّ على ـ أويذكر ـ غرض القصيدة من مدح، أورثاء، أوهجاء. وهذا النص ـ أوالذكر ـ لغرض القصيدة من الأهمية بمكان، فهومن الأدوات الرئيسية لفهم القصيدة، فـ ((عندما يتقدم بنا العصر تتطور الحاجة إلى فهم النص لأسباب أخرى لا علاقة لها بفهم المفرادت أو التراكيب، لكنها متعلقة بغياب أمر آخر له أهميته ونعني به الوسط الذي قيلت فيه القصيدة، حين تتجه مسمياتها إلى بيئة معينة أو مقصد آخر خفي على السامع أو القارئ. (
…
) فإدراك المناسبة أمر مهم لفهم إشارات النص وتلمس مقاصده، وإلا لأصبح الفهم عقيما وأحيانا بعيدا كل البعد من مراد الشاعر أو هدف القصيدة، وهذا هو أحد مبررات قيام الشرح بجانب القصيدة حينما يتقادم العهد فيخفى أصل المناسبة أو دلالتها، وهي من ضرورات كل عصر لفهم شعره، لذلك كان الاهتمام بها ممتدا عبر العصور)) (3).
****
2) وجه التشابه الثاني: الاعتماد على ((لغة العرب))، وهو يقابل عند أبي العلاء والتبريزي العنصرين:((توظيف الخصائص والسمات الأساسية للبيئة اللغوية الفصيحة المستقرة في عصرهما في شرح الديوان))، و ((الاعتماد على الخصائص الأسلوبية العامة للغة والاستعمال
(1) الموافقات: 3/ 294ـ 294، [مكتبة الأسرة 2006، الهيئة المصرية العامة للكتاب].
(2)
القرآن: د. عبد الفتاح أبوسنة، ص 78، [دار الشروق، ط1، 1995م].
(3)
د. سليمان الشطي: المعلقات وعيون العصور، ص 43
اللغوي (أوالكلامي) للألفاظ والألفاظ المصاحبة والألفاظ الأكثر شيوعا))، و ((دعم الشرح بالأبيات الشعرية)):
وضع علماء أهل السنة والجماعة قواعد ومناهج لتفسير القرآن، بها يكون التفسير ((مقبولا))، منها: أن يكون ((موافقا للغة العرب))؛ وذلك لأن القرآن ((نزل بلسان العرب على الجملة، فطلبُ فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)} [يوسف:2] إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي، وبلسان العرب)) (1).
فلابد لقبول التفسير أن يكون مستندا إلى ((دليل شرعي أو لغوي)) (2). وحتى التفسير بالرأي يُقبل إذا كان معتمدا على ((ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأن يكون عارفا بقوانين اللغة، خبيرا بأساليبها)) (3). أما التفسير الذي يجب الابتعاد عنه فهو التفسير القائم على ((التهجم والجرأة على تعيين مراد الله تعالى مع الجهل بقوانين اللغة والشريعة)) (4).
والرفض للتفسير المذهبي؛ لأنه رأي طائفي، ((ينتمي إلى مذهب خاص، ويتبنى وجهة نظر معينة لطائفة معينة، وهو بهذا ينحرف باللفظ عن معناه الأصلي في اللغة والشرع إلى معانٍ أخري بعضها بعيد، وبعضها غير ظاهر أصلا)) (5).
(1) الموافقات: الشاطبي، ص 2/ 54، وقال الشاطبي أيضا في كتابه ((الاعتصام)) تحت عنوان ((في مأخذ أهل البدع بالاستدلال)): ((
…
ومنها ـ أي من المآخذ على أهل البدع ـ تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين، مع الغرو [كذا] عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله، فيفتاتون على الشريعة بما فهموا)). الاعتصام، [1/ 206]، مكتبة الأسرة 2009، تعليق: محمد رشيد رضا.
(2)
دراسات في التفسير: د. محمد نبيل غنايم، ص 38، [دار الهداية، ط2، 1992م].
(3)
دراسات في التفسير: د. محمد نبيل غنايم، ص 39
(4)
دراسات في التفسير: د. محمد نبيل غنايم، ص 39
(5)
دراسات في التفسير: د. محمد نبيل غنايم، ص 40.
ومن الشروط التي وضعت لآداب مفسر القرآن: ((أن يكون ملما بالعلوم التي تعينه على أداء مهمته والقيام بالتفسير بالصورة الصحيحة، وقد أحصى العلماء هذه العلوم في خمسة عشر علما، أحدهما: اللغة
…
، الثاني: النحو .. ، الثالث: التصريف .. ، الرابع: الاشتقاق
…
)) (1). وبناء على ما سبق ((ينبغي على العاقل ألا يقف موقف القائل في كتاب الله إلا إذا زود نفسه بزاد عظيم مما نص العلماء الفاقهون على أنه يجب أن يتزود به من يعرض لهذا الأمر الخطير من علم كاف باللغة، وأساليب البيان)) (2).
وبسبب اهتمام المفسرين بالشعر الجاهلي وسيلة مهمة لشرح كتاب الله عدت كتب التفسير مصدرا من مصادر هذا الشعر. فمع اتساع الدولة الإسلامية ((استحدثت علوم كثيرة كالتفسير والحديث والفقه واللغة والنحووالبلاغة، وهذه كلها تحتاج إلى الأدب،؛ لهذا لا يخلو كتاب ألف في أحد هذه العلوم من آثار أدبية جاهلية؛ إذ أن جميع هذه العلوم تعتمد في تقرير أسسها ومبادئها على كلام العرب القدامى الفصيح، وبسبب ذلك دون كثير من الأدب الجاهلي في ثنايا هذه العلوم)) (3)
وهكذا تبدوأهمية الأساس اللغوي كمنطلق للتفسير، وهذا هو نفس المنطلق الذي انطلق منه أبوالعلاء، وتبعه تلميذه التبريزي، وقد عرضنا عند الحديث عن منهجيهما مدى احتفائهما بالاستعمال اللغوي أوالمسموع اللغوي، وخاصة عند التبريزي، الذي كان يردد في كل بيت يشرحه لفظة ((يقال))،وكلمة ((المستعمل)).
وهذا التأكيد على الأساس اللغوي كمنطلق للتفسير أمر له اعتباره في تفسير النص، وأنه لا بد أن يكون الركيزة الأولى لتفسير أية نص، وأنه لا مجال بحق لـ ((شطحات الذهن)) في هذا الأمر، والمنهج الأدبي الذي يتعامل مع النص الأدبي ولا يكون من إجراءاته الاعتماد على ((اللغة)) هومنهج ـ لا شك ـ ناقص.
(1) السيوطي: الإتقان في علوم القرآن، ص 552 ـ 553.
(2)
مدخل إلى علم التفسير: د. محمد بلتاجي، ص 160، [مكتبة الشباب، 2000].
(3)
في تاريخ الأدب الجاهلي: د. علي الجندي، ص 144 [دار المعارف، ط2]
بقي أن نثبت في ختام هذه الجزئية أن المعتزلة ـ وهم أصحاب المنهج العقلي في الإسلام ـ اعتمدوا في فهمهم للنصوص على اللغة أيضا كأداة للتأويل فقد حظيت عندهم ((بجانب عظيم من الاهتمام)) (1).
****
3) وجه التشابه الثالث: تأويل الآية كل التأويلات الممكنة باستغلال
((المعاني المعجمية، أوالصرفية))، والجمع بين ((القراءات))، وهذا يتفق مع منهج أبي العلاء في تأويل البيت كل التأويلات الممكنة في غياب القرينة المحددة لمعنى معين، والجمع بين الروايات المختلفة للبيت المشروح:
نص العلماء على أنه إذا وجدت لفظة في كتاب الله ـ ولها أكثر من معنى ـ فإن تفسير اللفظة بأحد هذه المعاني يعد ((مقبولا))، قال السيوطي: ((والخلاف بين السلف في التفسير قليلٌ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد؛ وذلك صنفان؛ أحدهما: أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنًى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، كتفسيرهم {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] بعض بالقرآن، وبعض بالإسلام (
…
) الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل، وتنبيه المستمع على النوع، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه (
…
) وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير ـ تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى ـ هوالغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف. ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين، إما لكونه ((مشتركا في اللغة))، كلفظ ((القسورة))، الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد، ولفظ:((عسعس))، الذي يراد به إقبال الليل وإدباره، وإما لكونه متواطئا في الأصل؛ لكن المراد به أحد النوعين أوأحد الشخصين، كالضمائر في قوله: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى
(1) موقف المعتزلة من تفسير القرآن والأحاديث المروية، د. مصطفى الصاوي الجويني، مقال بمجلة العربي ع 122، ص138
(8)
} [النجم: 8]، وكلفظ الفجر والشفع والوتر وأشباه ذلك؛ فمثل هذا قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك)) (1).
والاعتداد بـ ((القراءات القرآنية)) أمر مقبول، وإهمالها أمر مرفوض. فقد أجمع المسلمون على ((الاعتماد على ما صح عن هؤلاء الأئمة (أئمة القراءات السبعة)، مما رووه ورأوه من القراءات، وكتبوا في ذلك مصنفات؛ فاستمر الإجماع على الصواب، وحصل ما وعد به من حفظ الكتاب، وعلى هذا الأئمة المتقدمون، والفضلاء المحققون، كالقاصي أبي بكر بن الطيب والطبري وغيرهما. قال ابن عطية: ومضت الأعصار والأمصار على قراءة السبعة، وبها يصلى؛ لأنها ثبتت بالإجماع)) (2). وذهب جماعة من الفقهاء والقراء والمتكلمين إلى أن الأمة يحرم عليها إهمال شيء من السبعة (3).
وقد صنع المحدثون نفس الشيء في الحديث النبوي؛ فقد أوضح العلماء أنه لا ينبغي للمسلم ((أن يأخذ السنة من حديث واحد، دون أن يضم إليه ما ورد في موضوعه مما يؤيده أويعارضه، أويوضح إجماله، أويخصص عمومه أويقيد إطلاقه)) (4)، فهذا هوالمنهج الصحيح مع الأحاديث النبوية الصيحة ((أن يجمع بين هذه الروايات، وذلك بحسن توجيهها في الموضوع الذي وردت فيه ـ بلا تعسف ـ ودون أن يهمل رواية منها؛ فالجمع مقدم؛ لأن إعمال النص الصحيح خير من إهماله)) (5).
وعلى هذا النهج سار أبوالعلاء، فلم يكن يهمل شيئا من روايات أبي تمام التي استوثق من صحتها، والتي وردت إليه من ((العلماء الثقات)) و ((النسخ المختلفة))
(1) الإتقان في علوم القرآن، ص 548.
(2)
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن، 1/ 40، [دار الريان للتراث].
(3)
القرآن: د. عبد الفتاح أبوسنة، ص 61.
(4)
كيف نتعامل مع السنة؟: د. يوسف القرضاوي، ص 132، [دار الشروق ط3، 2005].
(5)
أسباب ورود الحديث، تحليل وتأسيس: د. محمد رأفت سعيد، ص 37.
التي اطلع عليها للديوان. وكان التبريزي في بعض الأحيان يكتفي في شرح البيت بذكر الرواية المختلفة فقط للبيت.
ويتفق أبو العلاء والتبريزي بجوار اتفاقهما مع مفسري أهل السنة في تفسير اللفظ كل التفسيرات الممكنة مع المعتزلة، فقد كانوا يرون ـ كما يمثل رأيهم المرتضي:((حملَ الكلام على بعض ما يحتمله إذا كان له شاهد من اللغة وكلام العرب؛ لأن الواجب على من يتعاطى تفسير غريب الكلام والشعر أن يذكر كل ما يحتمله الكلام من وجوه المعاني)) (1). وهذا عين ما كان يفعله أبو العلاء.
****
4) وجه التشابه الرابع: لجوء المفسرين ـ في أحيان كثيرة ـ للقرائن السياقية لفهم النص، وسبق أن أوضحنا أن أبا العلاء والتبريزي سارا على هذا النهج:
لجأ المفسرون في أحيان كثيرة إلى ((السياق)) لتفسير النص القرآني، وما اهتمامهم الشديد بأسباب النزول إلا دليل على هذا، وقد مر بنا قول ابن دقيق العيد أن:((بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن))، وقول ابن تيمية:((معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب)) (2).
ولايعدو بنا الصواب إن قلنا إن القرآن الكريم نفسه، يوظف القرائن في فهم آياته، فـ ((القرآن ـ وهوأسمى نص عربي ـ يرصد من القرائن الحالية التي تتمثل في أسباب النزول، ومن القرائن المقالية التي تتمثل في تراكيب النص، وفي الآيات التي تفسر آيات أخرى، ما يحول بين اللبس وسياق الكريم)) (3).
(1) أمالي المرتضي، غرر الفوائد ودرر القلائد، ص 18/ 19
(2)
الإتقان في علوم القرآن: ص 40.
(3)
ينظر مقال: اللغة والنقد الأدبي، د. تمام حسان [مجلة فصول، مجلة النقد الأدبي، المجلد الرابع، العدد الأول، 1983 بعنوان: النقد الأدبي والعلوم الإنسانية، الهيئة المصرية العامة للكتاب] ص 122). وأضاف د. تمام ـ في نفس المصدر ـ ((وفي دراسة هذه الظاهرة (ظاهرة وجود قرائن) في القرآن وجدت عشرات الأمثلة لتراكيب من قبيل ما قدمنا منذ قليل، وقد رصد القرآن لها من القرائن ما أزال عنها اللبس)).
ولا نحتاج إلى مزيد كلام لإثبات تأثر أبي العلاء والتبريزي بهذا النهج في ((استخدام القرائن)) فقد وَظَّف أبوالعلاء عددا كبيرا من قرائن ((السياق
اللغوي))، مثل: القرائن النحوية والصرفية والعروضية والصوتية، والصنعة الشعرية، وقرينة الاستعمال اللغوي والتناص والبلاغية.
كما وظف عددا من ((قرائن سياق الحال))، مثل: القرائن الشرعية، والثقافية، والطبيعية. ولم يتخلف التبريزي عن نهج أستاذه في هذه الجزئية؛ فسار على نهجه؛ واستعان بها في شرح الأبيات.
وفي الوقت الذي كانت القرائن تعين كلا من أبي العلاء والتبريزي في تحديد معاني الأبيات المشروحة عند أبي تمام ـ كان غيابها بمثابة ((الضوء الأخضر)) ـ إن صح التعبير ـ لتقديم أكثر من ((تأويل للنص المشروح))، إذ إن ((تعدد المعنى يكشف عن عدم كفاية القرائن)) (1).
ولم تكن وظيفة القرائن عند أبي العلاء مقصورة فقط على كشف المعنى، بل استخدمت أيضا: لرد رواية، أو ترجيح رواية على رواية، أو لرد الروايات المصحفة.
*****
5) وجه التشابه الخامس: اهتمام المفسرين بالجوانب الدلالية للآية أوالكلمة وخاصة في تطورها الدلالي، وكذلك اهتم أبوالعلاء والتبريزي:
اهتم مفسرو القرآن بالجوانب الدلالية للآية أوالكلمة قيد التفسير؛ ولا غرو في هذا الاهتمام، فما كان التفسير أصلا إلا لبيان معاني الكلام (2).
وقد نبه كثير من الجهابذة والمحققين من علماء الأمة على أهمية التطور الدلالي للألفاظ، ومدى الخطورة التي يمكن أن تقع إذا نزلت ((الألفاظ الشرعية على
(1) البيان في روائع القرآن: د. تمام حسان، 1/ 164
(2)
وقد سبقهم في هذا أيضا علماء الأصول، فكتبهم مترعة بالمباحث الدلالية التي تتحدث عن العام وأقسامه، والمطلق والمشترك، ودلالة العام بين القطعية والظنية، وصيغ العموم
…
المصطلحات المستحدثة على مر العصور)) (1)؛ إذ ((إن هناك ألفاظا كثيرة بدلت في مجالات شتى يصعب حصرها. ثم لا يزال هذا التبدل يتسع، مع تغير الزمن وتبدل المكان، وتطور الإنسان، إلى أن تصبح الشقة بعيدة بين المدلول الشرعي الأصلي للفظ، والمدلول العرفي أوالاصطلاحي الحادث المتأخر، وهنا ينشأ الغلط وسوء الفهم غير المقصود، كما ينشأ الانحراف والتحريف المتعمد)) (2)(3).
وقد ذكر السيوطي مجموعة من العلوم الواجبة لإتقان القرآن، منها:
[1]
في معرفة الوقف والابتداء. قال السيوطي: ((قال ابن الأنباري: من تمام معرفة القرآن معرفة الوقف والابتداء فيه، وقال النِّكْزاوي: باب الوقف عظيم القدر، جليل الخطر؛ لأنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل)) (4).
[2]
في معرفة إعرابه. يقول السيوطي ((ومن فوائد هذا النوع معرفة المعنى؛ لأن الإعراب يميز المعاني، ويوقف على أغراض المتكلمين (
…
) وعلى الناظر في كتاب الله تعالى الكاشف عن أسراره النظر في الكلمة وصيغتها ومحلها)) (5).
[3]
معرفة الحقيقة والمجاز. [4] في فواصل الآي. [5] في مفردات القرآن.
وهذه العلوم لا تخدم إلا الإبانة عن النواحي الدلالية للكلمة منفردة، أو في سياقها. وقد مر بنا كيف كان اهتمام أبي العلاء والتبريزي بالكلمة دلاليا، وما يتعلق
(1) كيف نتعامل مع السنة النبوية؟:د. يوسف القرضاوي، ص198، [دار الشروق ط3، 2005]
(2)
كيف نتعامل مع السنة النبوية؟: د. يوسف القرضاوي، ص198.
(3)
ومن العلماء الذي تناولوا هذا الأمر بالحديث الإمام الغزالي في كتابه ((إحياء علوم الدين)) يُنْظَرُ: إحياء علوم الدين: 1/ 32، باب ((بيان ما بدل من ألفاظ العلوم))، [دار المعرفة ـ بيروت]
(4)
الإتقان في علوم القرآن: ص 113.
(5)
الإتقان في علوم القرآن: ص 269
بها من تخصيص للدلالة أوتعميم أوتغيير للدلالة، وكيف كان الإعراب نفسه وسيلة للشرح.
*****