الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ـ
المبحث الثالث:
بين منهج أبي العلاء والتبريزي والمناهج الأدبية المعاصرة
.
بعد الانتهاء من عرض أوجه التشابه بين منهج أبي العلاء والتبريزي ومنهج مفسري القرآن، يمكن للباحث أن يقرر في اطمئنان أن منهج أبي العلاء والتبريزي هوـ في معظمه ـ منهجٌ لمفسري القرآن من أهل السنة والجماعة المستند بدوره على منهج علماء الأصول.
ولاجدال أن عقلية فذة مثل عقلية أبي العلاء في سعة ثقافتها واطلاعها على العربية حين تعتمد هذا ((المنهج)) طريقا لتفسير النص؛ فإن هذا تصريح ضمني بمدى سلامة هذا المنهج وأصالته. ويزداد الوثوق بهذا المنهج حينما يأتي التبريزي ـ وهوأيضا علم من أعلام اللغة ـ ويسير على نفس الطريق.
ومنهجا أبي العلاء والتبريزي يقدمان ما يمكن أن نسميه ((فهما مبدئيا للنص))، وليس من المعقول أن تنطلق دلالات النص الأدبي أو قراءاته من لا شيء، بل لا بد من أساس تنطلق منه، وفهم مبدئي سليم تصدر عنه، حتى تكون الدلالات والقراءات المقدمة والمقترحة مقبولة، فالذي يبني بناء لا يمكن أن يصعد للأدوار العليا قبل أن يصنع الأدوار السفلى، والمقدمات الصحيحة تأتي بنتائج صحيحة، وما فشل المناهج الأدبية الحديثة من بنيوية وتفكيكية في تفسير النص الأدبي إلا دليل على صحة ما نرمي إليه.
لقد وضع مفسرو القرآن ((منهجا)) لتفسير النص القرآني، ثم أتي أبوالعلاء والتبريزي وأعطى كل منهما إمكانية تطبيق هذا المنهج على ((نص أدبي)). وهما بهذا الصنيع يكونان قد سلكا طريقا ـ لهما ولغيرهما ـ يلتمسون فيه ((تفسيرا منهجيا)) للنص الأدبي.
إن الارتباط أوالتشابه الوثيق بين منهجهما ومنهج مفسري القرآن يجعل الباحث مطمئنا لهذا ((المنهج))؛ فالنفس تطمئن لكل ما هو مرتبط بـ ((النص القرآني))، ويطمئن إلى أن المفسرين والأصوليين ـ من أهل السنة والجماعة ـ لابد أن ينهجوا من الطرق أقومها، ومن السبل أوضحها لتفسير النص القرآني.
والباحث يدعوالأدباء والنقاد إلى وضع نظرية عربية نقدية لتفسير النصوص الأدبية، يكون منهج أبي العلاء والتبريزي لبنة فيها، تلك اللبنة التي تستند بدورها على منهج محكم لتفسير النص القرآني (1).
إن الدرسات اللغوية المتعلقة بالنص القرآني ((تشكل ـ إلى جانب المؤلفات البلاغية المعروفة ـ أساسا صالحا لدراسات عربية متجددة في الأسلوب؛ وبذلك تلعب دورا لعله يفوق بكثير ذلك الدور الذي لعبته البلاغة اليونانية القديمة بالنسبة للدرس الأسلوبي الحديث عند الأوربيية)) (2).
والباحث إذ يدعو إلى هذا المنهج يدعو من جهة أخرى إلى طرح المناهج الأدبية الدخيلة علينا (3)، المنبتة الصلة بالبيئة العربية، والقادمة إلينا من الغرب.
إن الكثير من تلك المناهج والنظريات الأدبية منبت الصلة بتراثنا الثقافي العربي، ذا خلفية أيديولوجية وفلسفية غريبة عنا، وهذا ما يؤكده الباحثون الذين يؤكدون على
(1) بين يدي الباحث كتاب بعنوان ((موسوعة النظريات الأدبية))، يحتوي على سبعين نظرية أدبية، للدكتور: نبيل راغب، ليس من بينها للأسف الشديد حديث واحد عن نظرية أدبية نقدية عربية.
(2)
مقال بعنوان: ((النقد اللغوي في التراث العربي)): د. عبد الحكيم راضي، ص 88 [مجلة فصول مجلة النقد الأدبي، تراثنا النقدي ج2، 1986م].
(3)
ونضيف إلى المناهج الأدبية أيضا ((الأعمال الأدبية)) التي لا تتفق مع عاداتنا وثقافتنا. فقد كانت تلك الأعمال إحدى الطرق لإبعاد المسلمين عن دينهم، وبهذه الأعمال صيغت عقول وأفكار كثير من الأدباء والمفكرين، ((منسلخة تماما عن الدين، إن لم تكن ساخرة مستخفة مستهزئة)). [ينظر: واقعنا المعاصر: محمد قطب، ص 288، دار الشروق ط2، 2006]. وفي مقال بجريدة الأهرام 7مايو2002، ص 11، بعنوان ((حرب باردة جديدة)) للأستاذ فهمي هويدي، قال فيه: ((ليست مصادفة أن تلجأ وزارة الدفاع الأمريكية إلى إنشاء مكتب
((للتأثير الاستراتيجي)) (
…
) ومن يطالع كتاب ((الحرب الباردة الثقافية)) لمؤلفه الأمريكي فرانسيس سوندر يكشف أن ذلك المكتب كان النواة التي بدأت بها المخابرات المركزية، ويدهش للكيفية التي مورست بها تلك الحرب في مجالات الإعلام والفنون والآداب، واستخدمت لأجلها أسماء كبيرة، وإصدارات محترمة ومؤسسات قامت بأدوار مهمة في حياتنا العقلية والثقافية)).
ارتباط النقد الأدبي في القرون الثلاثة الأخيرة ـ على الأقل ـ بالفكر الفلسفي الذي يتذبذب ((بين الوهم والحقيقة، واليقين والشك، وجاءت التفسيرات المختلفة لمعنى النص انعكاسا لتناقضات الفلسفة حول الحقيقة والوجود والذات)) (1)، إننا دائمًا نجد تلك الوشائج القوية ((بين تطورات الفكر العلمي ـ الفلسفي وتطورات الدراسات الأدبية واللغوية)) (2) في الغرب.
وخير مثال على تلك المناهج الأدبية التي جثمت على صدورنا ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمان، وكان لها من الآثار السلبية ما لا يعلمه إلا الله ما يعرف بـ ((البنيوية)) (3)، و ((التفكيكية)) (4).
(1) المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك: د. عبد العزيز حمودة، ص 96، [سلسلة عالم المعرفة، ع 232، يناير1998م، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت].
(2)
المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص 99، وينظر أيضا الصفحات التالية: 61، 113، 164
(3)
البنيوية ـ كواحدة من أكثر التيارات العقلية أهمية وانتشارا ـ تقوم على دراسة البني أوالنماذج الكامنة في السلوك الاجتماعي، والثقافة، وتركيب المادة الفيزيائية. إنها تقدم ((منهجية)) معقولة ومنطقية لدراسة كثير من العلوم والمجالات المختلفة، مثل: البيولوجيا والجيولوجيا والأنثربولوجيا، وعلم اللغة، والنقد الأدبي. إن البنيوية التي تقوم على أساس نظرية الاتصال وتدرس العلاقات بين الأشكال بدلا من دراسة طبيعة هذه الأشكال نفسها: عاملة على إيجاد ((لغة)) في العلامات والرموز داخل تلك الأشياء. وبتحليل الشيء قيد البحث ـ سواء أكانت رواية أم أنظمة اتصال أم نظم سياسية ـ فإن البنيوية تحاول الكشف عن ((أطر)) الاتصال الموحَّدة من خلال تركيب ثنائي للعلاقات، تلك العلاقات التي تكتسب معانيها من داخلها ـ وليس من طبيعتها الخارجية ـ من خلال موضع كل علامة من الأخري. ينظر: LEXICON UNIVERSAL ENCYCLOPEDIA، vol18 ، p303 ،(structuralism)
(4)
شاع هذا المصطلح في النظرية الأدبية، وفي النقد الأدبي والفني منذ أواخر الستينيات في القرن العشرين، وبالتحديد بعد أن نشر الفيلسوف المعاصر جاك دريدا كتابه المشهور الأول:
((في علم نظم الكتابة)). وهومنهج يستخدم ((الشك)) بهدف هدم أنواع ((اليقين)) الفلسفية والعلمية والدينية، وهدم ـ أوتفكيك ـ كل أنواع ((الوحدة)) الاجتماعية أوالسياسية، أوالثقافية. [مصطلحات الفكر الحديث: سامي خشبة، 1/ 226ـ 227، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006].
إن المعتنق لهاتين النظريتين النقديتين يجد نفسه في نهاية الأمر أمام مأزقين خطيرين:
أما المأزق الأول: فهومأزق ((عَقَدي))، يتمثل في ((أَنْسَنَة الدين))؛ أي ((إرجاع الدين إلى الإنسان وإحلال الأساطير محل الدين)) (1). وقد قام البعض بالفعل بهذه ((الأنسنة))؛ أي ((أنسنة الدين، وتطبيق المبادئ النقدية الوافدة على النصوص المقدسة)) (2). بل تعدى الأمر لما أخطر من ذلك؛ فالقول بما يسمى عند التفكيكيين بـ ((موت المؤلف)) قاد إلى ((رفض وجود الله ذاته وثالوثه: العقل والعلم والقانون)) (3).
أما المأزق الثاني: هومأزق ((فهم النص)). لقد اكتشف البنيويون أنفسهم في نهاية المطاف ((بعد كل الرفض لكل المدارس السابقة، وبعد دعاوى علمية النقد، أن البديل البنيوي، وهوالنموذج اللغوي، فشل في تحقيق الدلالة أوالمعنى. لقد انشغلوا ـ في حقيقة الأمر ـ بآلية الدلالة، ونسوا ماهية الدلالة. انهمكوا في تحديد الأنساق والأنظمة وكيف تعمل، وتجاهلوا الـ ((ماذا يعني النص؟)))) (4). لقد تحولت البنيوية إلى ((تدريب لغوي يتوقف عند تحديد العلاقات بين العلامات، والبنى المكون للنص، وكيف تعمل، دون كثير اهتمام بالمعنى)) (5). ومما يقره أيضا د. عبد العزيز حمودة:
(1) المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص 35
(2)
المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص 64
(3)
المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص 105، وينظر أيضا: التأويل العبثي للوحي والنبوة والدين: د. محمد عمارة، ص 23هدية مجلة الأزهر، جمادى الآخرة 1432هـ
(4)
المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص9
(5)
المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص207
((قد تمثل فشل البنيوية الجوهري في نهاية المطاف في قدرتها المكتسبة الجديدة على تحقيق تحليل لغوي بنائي للنص مع فشل كامل في تحقيق معنى النص)) (1).
أما التفكيكية فهي تقوم على ((غياب المركز الثابت للنص، إذ لا توجد نقطة ارتكاز ثابتة يمكن الانطلاق منها لتقديم تفسير معتمد، أوقراءة موثوق بها، أوحتى عدد من التفسيرات والقراءات للنص، بل إن ما هو مركزي، أوجوهري في قراءة ما يصبح هامشيا في قراءة أوقراءات أخرى، وبالتالي فإن ما هو هامشي في قراءة ما يصبح مركزيا أومركزا في قراءة أوقراءات أخرى، ويستتبع ذلك بالطبع ما أسماه التفكيكيون ((اللعب الحر Free play)) للغة. وحيث إنه لا يوجد مركز ثابت ولا قراءة معتمدة أوموثوق بها أو قراءة مفضلة، وإن الوحدات اللغوية المكونة للنص في حالة لعب حر، إذن لا توجد قراءة نقدية واحدة بل إن كل قراءة نقدية هي في حقيقة الأمر فشل الناقد في قراءة النص، وحتى تفسح المجال لمحاولة من جديد، بصورة لا نهائية. وهكذا يستبدل بالمفهوم التقليدي لتعدد قراءات النص الواحد حسب قدرته على الإيحاء عن طريق الرمز، مفهوم لا نهائية القراءات)) (2).
إن الأخذ بالمنهج التفكيكي أدي إلى فتح ((أبواب الجحيم: أبواب الشك وفوضى النقد)) (3).
هذه الفوضى هي ما يؤكدها أحد كبار نقاد الأدب المعاصرين، إذ يقول على استحياء، وفي عبارة رقيقة: ((
…
ومع كثرة من غمرتهم دوامة التفكيك لدينا، واستخدموا بعض تقنياته، فإن البحث العميق قد انتهى إلى ضيق هامشه في الثقافة العربية إلى حد كبير)) (4).
(1) المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص181
(2)
المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص56
(3)
المرايا المحدبة: د. عبد العزيز حمودة، ص37، وينظر أيضا: ص164
(4)
مقال بعنوان: ((المشهد النقدي اليوم))،للدكتور صلاح فضل، جريدة الأهرام، 1 يوليو2002
بعد هذه الكلمات السريعة أعود فأقول: لابد من الرجوع لتراثنا، نتمسك به، ونذب عنه، ونأخذ منه ما ينير الطريق.
***