الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
منهج العمل في الأبحاث
لا ريب أنَّ نزول ميدانٍ كميدان السِّيَرِ والأخبار والمغازي يعجُّ بمئات المرويات، والتي لم تلتئم على بعضها، أو تَأْرِز إلى مكانٍ واحدٍ يجمعها، بل آثرت الفرقة، وعزَّت معظم الروايات المقبولة بنفسها، فضنَّت بما فيها على كل باحثٍ عجول، أو قارئٍ يكتفي بالمشهور، وإنما اختارت أن تبقى بمنأى يُحوج طالبها إلى صبر لاستخراجها، وسعيٍ حثيثٍ للوصول إليها، أضف إلى ذلك كثرة المؤلَّفات في هذا الباب؛ كل هذا لا يجعل المهمة سهلةً ميسورة، إلا بتأنٍّ وتتبُّعٍ، بعد عون الله عز وجل.
وقد حاولنا -قدر الاستطاعة- أن نتخيَّر خُطة عمل تُحكم الأبحاث، وتُخرجها أقرب ما تكون إلى الدِّقة التي يرجوها كلُّ منصفٍ وباحثٍ عن الحق؛ فاهتدينا إلى ما يلي:
أولاً: جعلنا كتاب: (تاريخ الطبري) أصلاً لمادة هذا البحث، يُضاف إليه ويُجمع عليه ما يُحتاج إليه من تتمَّات وزيادات لإكمال مشهد، أو تفصيل مُجمَل، أو إزالة شُبهة وإشكال.
وسبب اختيارنا له: ما تمتَّع به صاحبه من سيرةٍ حسنةٍ، وعدالةٍ مشتهرةٍ، إضافةً إلى شموليته في كثيرٍ من الأحداث، فقد استوعب كثيراً مما كُتب قبله، فصار عمدةً لكل من جاء بعده
(1)
، حتى أنَّ أبا الحسن ابن الأثير (ت: 630 ه) حينما أراد أن يُصنِّف كتابه في التاريخ؛ جعل كتاب الطبري أصلاً لكتابه، بل في بعض الأحداث -كالفتنة التي وقعت بين الصحابة رضي الله عنهم اكتفى بكلام الطبري، ولم يُضف عليه شيئا!
يقول رحمه الله: «وقد جمعتُ في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتابٍ واحد، ومن تأمَّله علم صحة ذلك.
(1)
انظر عن كتاب الطبري ومنهجه فيه وما تميَّز به: موارد تاريخ الطبري للدكتور علي جواد، منهج كتابة التاريخ الإسلامي حتى نهاية القرن الثالث الهجري لمحمد بن صامل السلمي (ص: 440 - 451).
فابتدأتُ بالتاريخ الكبير الذي صنَّفه الإمام أبو جعفر الطبري، إذ هو الكتاب المعوَّل عند الكافَّة عليه، والمرجوع عند الاختلاف إليه، فأخذتُ ما فيه من جميع تراجمه، لم أخلَّ بترجمةٍ واحدةٍ منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث رواياتٍ ذواتِ عدد، كل رواية منها مثل التي قبلها، أو أقلّ منها، وربما زاد الشيء اليسير أو نقصه، فقصدتُ أتمَّ الروايات فنقلتها، وأضفتُ إليها من غيرها ما ليس فيها، وأودعتُ كلَّ شيءٍ مكانه، فجاء جميع ما في تلك الحادثة -على اختلاف طرقها- سياقاً واحداً على ما تراه.
فلما فرغتُ منه: أخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتُها، وأضفتُ منها إلى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ووضعت كلَّ شيء منها موضعه، إلا ما يتعلَّق بما جرى بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني لم أُضفْ إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً؛ إلَّا ما فيه زيادة بيانٍ، أو اسم إنسانٍ، أو ما لا يُطعن على أحد منهم في نقله، وإنما اعتمدتُ عليه من بين المؤرِّخين إذ هو الإمام المُتقنُ حقَّاً، الجامعُ علماً وصحةَ اعتقادٍ وصدقاً.
على أنِّي لم أنقل إلا من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة، ممن يعلم بصدقهم فيما نقلوه، وصحَّة ما دوَّنوه، ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي، ولا كمن يجمع الحصباء واللآلي»
(1)
.
قُلنا: وقريبٌ من منهج ابن الأثير، اخترنا لهذه الأبحاث أن تسير، فجعلنا كتاب الطبري أصلاً، لكن مع تعديل وتغيير.
فالطبريُّ يورد الأحداث مرتَّبة على السنين، وهذا لم نلتزم به، وإنما وضعنا كُل حادثة في مكانها الذي نراه لائقاً، وفق ترتيب كل بحث.
فبعض الأحداث تُنقل من نسقها عند الطبري لتُوضع في فصل خاص بالفضائل، أو الشبهات، أو غير ذلك، بحسب ما نرى الحدث ملائماً لمكانه في ترتيب البحث الذي يختاره الباحث.
(1)
الكامل في التاريخ (1/ 6 - 7).
أيضاً: اختار الطبريُّ لنفسه أن يُورد الرواياتِ التي يختارها في الحدث بسندها إلى قائلها وناقلها، تاركاً مسألة الحكم على الإسناد للقارئ والباحث من بعده، مُحذِّراً أن يُحمِّله أحدٌ نكارة رواية، أو بشاعة نقل؛ فقال:«فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة؛ فليعلم أنه لم يُؤتَ في ذلك من قِبَلِنا، وإنما أُتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنَّا إنَّما أدَّينا ذلك على نحو ما أُدِّي إلينا»
(1)
.
وعلى هذا فروايات الطبري جامعة بين الغثِّ والسَّمين، والصَّحيح والسَّقيم، وهنا يتحتَّم علينا أن نبيِّن الفرق بين هذه المرويَّات، وما يصلح للاحتجاج وما لا يصلح إلا أن يكون في الموضوعات، ولكن لما كان التبيين لصحة كلِّ ما ذُكر، وإظهار علَّة كلِّ خبر، مما يطول به حجم الكتب والأبحاث، ولربما بعث الملل في نفس القارئ والباحث لشبهته عن جواب؛ فقد آثرنا أن نقنِّن الأمر كما يلي في:
ثانياً: قمنا باستخراج جميع المرويات التي ورد فيها ذكر الشخصية صاحبة البحث (أبوبكر، عمر، عثمان، علي، معاوية) في الكتاب، سواءٌ في خلافته أم قبلها، وما صحَّ منها أدرجناه في البحث في موطنه اللائق به وفق ترتيب الأحداث -الذي يذكره كل باحث في مُقدِّمة بحثه-، وأمَّا ما لم يصح من هذه المرويات فهو على قسمين:
(1)
تاريخ الطبري (1/ 8).
- القسم الأول: احتِيج إليه لاستكمال صورة الأحداث، ووصل الحلقات ببعضها البعض، فمثل هذا لا مفرَّ من إيراده، وهو عين ما فعله الطبريُّ حينما أورد الأخبار الضعيفة في ثنايا كلامه عن بعض الأحداث، وإن كان الطبريُّ أحال القارئ على السَّند؛ فإننا لن نوقعه في ذلك العَنَت، بل سنبيِّن -إن شاء الله- عند كل روايةٍ ضعيفةٍ أوردناها ضعفها، وسبب وهائها، فثقافة النظر في الأسانيد قبل قبول المتن؛ لم تعد منتشرةً بين أبناء هذا الزمان، كما كانت منتشرةً في زمان الطبري، الذي تعامل معهم من هذا المنطلق، فأحالهم على الإسناد.
وهذا القسم يتميز عن لاحقه بأنَّ ضعفه ليس شديداً، ونكارته ليست ظاهرة.
- القسم الثاني: لم نجد ثمَّ احتياجٌ لإيراده، خاصة مع نكارة متنه، بل في بعضها ما يكون ذكره مُحدثاً فتنةً لعقول وقلوب بعض القارئين، فمثل هذه الروايات ضربنا صفحاً عن ذكرها، رغبةً في إماتتها، وإخمال نشرها، وهذا الفعل مِنِّا قد سبق إليه الطبريُّ، فمع ما أورد في كتابه من ضعيفٍ وموضوعٍ، ومع أنه أسند كلَّ قولٍ إلى قائله؛ إلَّا أنَّه أعرض عن ذكر بعض الأخبار، رغم استحضاره لها، وتمكُّنه من عزوها لقائلها وإسنادها؛ وذلك لأنَّه رأى أن فيما ذكر كفاية، وأيضاً: حفاظاً على عقول وقلوب العامة.
(1)
.
فانظر كيف أَعْرضَ الطبريُّ عن ذكر بعض الروايات، لما رأى أنها لا تضيف جديداً، وأنَّها قد تتسبَّب في فتنة بعض العامة في زمانه، فكيف لو ذُكرت لأهل زماننا؟!
(1)
تاريخ الطبري (4/ 557).
ومن هنا: أعرضنا عن ذكر بعض هذه الروايات لاجتماع الشَّرَّيْن فيها: ضعف الإسناد من جهة، ونكارة المتن التي لا تُتحمَّل من جهة أخرى، وإن كان الطبريُّ رأى تحمُّلها في زمانه.
والذي ينبغي أن يطمئنَ إليه القارئ، وهو ما التزمناه -بحمد الله- أثناء هذه الأبحاث؛ أنَّا لا ندع روايةً صحيحةً من كتاب الطبريِّ، وفيها ذكرٌ لصاحب البحث تندُّ عن هذا الكتاب، ونحسب تلك كافيةً للمُنْصِف -إن شاء الله-.
ثالثاً: لم نكتفِ بما ورد في تاريخ الطبري فقط، إذ كان هناك بعض الأحداث تستلزم توسُّعاً للتوضيح والتكميل، فهنا نُضيف ما نراه نافعاً من التواريخ الأخرى وكتب التراجم والطبقات، كتاريخ ابن عساكر، وتاريخ خليفة بن خياط، وتاريخ أبي زرعة الدمشقي، وطبقات ابن سعد، وغير ذلك.
رابعاً: لم نتوسَّع في تخريج الأحاديث والآثار الواردة في الأبحاث، لأن هذا مما يطول به حجم الكتاب، فاقتصرنا على ذكر أهمِّ المصادر، إلا إذا قام داعٍ لغير ذلك.
خامساً: حكمنا على كل إسناد بما نُراه له مستحقَّاً، صحةً أو ضعفاً، وإن نزل الحديث أو الأثر عن الصحة؛ بيَّنَّا سبب ذلك، وِفق قواعد أهل الحديث المبثوثة في كتبهم، والمعلومة من خلال تطبيقاتهم وعملهم.
ولعله من المفيد هنا أن نذكِّر بشيءٍ من منهجهم في التعامل مع هؤلاء الرواة الأخباريين، ونقلة السير والمغازي المشهورين، حتى لا يظنَّ أحدٌ أننا ابتعدنا عن منهجهم، أو تساهلنا في تطبيق قواعدهم.
فنقول: إنَّ الرواة هم عمود الإسناد، وأصله وسلسلته الفقرية التي لا قَوَام له إلا بها، فكلَّما قوي أمرهم؛ قوي الإسنادُ وصار صلباً في ميدان الاحتجاج والاستشهاد، والعكس أيضا.
لكنْ: ثمَّ رواة عُرف عنهم التخصص في باب من الأبواب، مع ضعفهم في غيره، فمثلا: حفص بن سليمان الكوفي المقرئ، يقول عنه الحافظ ابن حجر:«متروك الحديث، مع إمامته في القراءة»
(1)
، فقد انتشرت روايته للقرآن في الآفاق، ولم يقبل منه العلماء حديثاً واحداً، ولم يشفع له إتقانه للقرآن في قبول الحديث، ولم يردَّ ضعفه في الحديث إتقانه للقراءات، وهذا من الإنصاف.
ومن هذا الباب أيضاً: رواة المغازي والأخبار، فكثيرٌ منهم يُحتاج إليه في هذا الفن، مع كونه غيرَ مقبولٍ عند العلماء في نقل الأحاديث، ولا يعتبرون بأحاديثه!
ويمكننا أن نلحظ بوضوح هذا التفريق والتساهل في تصرُّف أحد المشتغلين بعلوم السنة، وعلامة من علاماتها في زمانه؛ وهو: الحافظ ابن حجر، وذلك من خلال جمعه بين الروايات في كتابه: فتح الباري.
فإنه في الوقت الذي يقرر فيه ردَّ رواية محمد بن إسحاق إذا عنعن ولم يُصرِّح بالتحديث، وردِّ أحاديث الواقدي لأنه متروكٌ عند علماء الجرح والتعديل، فضلاً عن غيرهما من الأخباريين الذين ليس لهم رواية في كتب السنة، كأبي الحسن المدائني وعوانة؛ فإنه يستشهد برواياتهم، ويستدلُّ بها على بعض التفصيلات، ويحاول الجمع بينها وبين الروايات الأخرى التي هي أوثق إسناداً! وهذا دليلٌ على قبوله أخبارهم فيما تخصَّصوا فيه من العناية بالأخبار والسير، وهذا هو المنهج الذي نسير عليه هنا.
وفيما يلي بعض النماذج لرواة تُكلِّم في روايتهم للحديث، ومع ذلك لم تُهدر أقوالهم في باب الأخبار والسير، لعنايتهم وتخصصهم في هذا الباب، ثم نُتبع ذلك ببعض النماذج العملية من تصرفات العلماء مع مروياتهم في أبواب المغازي والسير.
(1)
تقريب التهذيب (1405).