الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع شبهاتٌ وردُود
لا ريب أن الاعتقادات المسبقة عند الكثيرين تؤثِّر على نظرهم للأدلة، فكم من دليلٍ صحيح يعمى عنه الكاره له، ويقدح فيه بما ليس بقادح، وفي المقابل: كم من دليلٍ ضعيفٍ يستمسك به المحتاج إليه، المحبُّ له، ويستميت في تقويته، ولو كان أوهى من خيط العنكبوت! فحبُّ الشيء يعمي ويصم، والإنصاف: أن يعافي الله العبد من هذين النقيضين، فلا يرد الحق لأنه يخالف هواه، ولا يتكئ على الباطل لأنه صادف رضاه؛ وهذا ما نحاول هنا أن نتحرَّاه.
وهكذا كان سبيل أئمة السنة الأعلام، فتأمَّل هذا الكلام، ليتضح لك المقصد والمرام:
(1)
.
فتأمل كيف أن ابن خزيمة يُعرض عن الأدلة الضعيفة التي تقوِّي مذهبه، وتنصره على خصمه، لأنه لا يستحلُّ أن يُدلس على الطلبة، ويخشى يوما يقف فيه بين يدي خالقه.
فقارن بين هذا وبين من يبترون النصوص، أو يلوون أعناقها، أو يوردون من الأدلة: المنخنقة، والموقوذة، والمتردية، والنطيحة، وما أكل السبع؛ كل ذلك لتقوية موقفهم وحجتهم!
{ألا يظنُّ أولئك أنهم مبعوثون} .
ونجد نموذجا مشرِّفا آخر عند أهل السنة، يورد ما يراه صحيحا من الأدلة، ثم لا يكتفي بصحته عنده، بل يرد طعون وشبهات خصمه على تلك الأدلة، حتى لا يبقيَ لأحد بعد ذلك حجة.
يقول الطبري: «القول في علل هذا الخبر، وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما غير صحيح، وذلك: أنه ........ » .
هذه العبارة كثيرا ما ذكرها الطبري في كتابه العظيم: «تهذيب الآثار»
(2)
، ثم يتبعها ببيان ما يُعل به منازعوه الخبر، ثم يأتي على بنيان هذه العلل من قواعدها، تاركاً إياها ركاما، بعد أن كانت عند أصحابها صرحا مشيدا!
(1)
التوحيد لابن خزيمة (2/ 532 - 533).
(2)
انظر على سبيل المثال: تهذيب الآثار (مسند علي- 3/ 3، 45، 61، 70).
هكذا شأن المحققين من أهل العلم: استدلال بأدلة صحيحة، تَرْكُ الأدلة الباطلة والضعيفة، الجواب عن الشبهات التي تطرأ على الأدلة الصحيحة، تزييف الأدلة الضعيفة حتى لا ينخدع بها جاهل، أو طالب علم.
وقد حاولتُ -قدر الاستطاعة- أن أسير على هذا النهج طوال العمل في هذا البحث، فأوردتُ عن معاوية رضي الله عنه ما صحَّ في فضائله، ورددتُ ما أعلَّ به المبغضون له هذه الفضائل، وحان الآن وقت تزييف الباطل الذي يُطعن به فيه، وإعادة الأدلة السويَّة -إن وُجدت- إلى مسارها الصحيح، بعد أن لُويت أعناقها، وحُوِّلت وجهتها، ولولا أن هذه الشبهات قِيلت وانتشرت، وإلى أماكن مختلفة طارت، وعلى البعض دخلت وراجت؛ لأعرضت عن ذكرها، رغبة في إماتتها، وإخمال ذكر قائلها، لكن:«كيف وقد قيل؟!» .
فأقول -مُستعينا بالله، راكنا إليه-:
ما طُعن به في معاوية رضي الله عنه لا يخرج عن أحد دليلين:
1 -
إما دليل ضعيف، لا يقوى على مناهضة الأدلة الصحيحة التي تخالفه، ولو كان ضعيفا فقط لرُدّ؛ فكيف وهو مع ضعفه مخالف للصحيح؟! لا ريب أن هذا هو (المنكر) بعينه.
2 -
وإما دليل صحيح، لكنه فُهم خطأ، حيث عُزل عن سائر الأدلة التي ترافقه، وأراد مورده أن يبني به صرحاً من الأباطيل، وهو لا يُسعفه في ذلك، فهنا لا نرد الدليل، وإنما نرد الفهم الخاطئ ونصوِّب التأويل.
(1)
.
(1)
إكمال المعلم (7/ 415)، وبمثله قال النووي في شرح صحيح مسلم (15/ 175).