الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعلى الرغم من محاولة عليٍّ لتهدئة الموقف من جهة، والزبير وطلحة من جهة أخرى؛ إلا أن نداءاتهم لم تجد آذاناً صاغية، كما يقول ابنُ تيميَّة:«والفتنة إذا وقعتْ عجز العقلاءُ فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عن إطفاء الفتنة وكفِّ أهلها، وهذا شأن الفتن»
(1)
.
وساعد قتلةُ عثمان على إذكاء نار الحرب وتهييجها، حتى كثر القتل في الطرفين، وسالت الدماء، وتناثرت الأشلاء، وعُقر جمل أمِّ المؤمنين عائشة، والذي سُمِّيت الموقعة باسمه، واستبسل الناس في الدفاع عنها، وقُتِل طلحة والزبير رضي الله عنهما في ذلك اليوم، وردَّ عليٌّ أمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها إلى المدينة مُعزَّزَة مُكرَّمَة
(2)
.
الرسائل بين عليٍّ ومعاويةَ رضي الله عنهما:
بعد أن بُويع لعليٍّ رضي الله عنه بالخلافة، بدا له عزلُ معاوية لعدم مبايعته له ودخوله تحت طوعه، فأرسل سهلَ بنَ حُنيف ليكون والياً على الشام بدلاً منه، وذلك في سنة ست وثلاثين من الهجرة.
وخرج سهل حتى إذا كان بتبوك لقيته خيل، فقالوا: من أنت؟ قال: أمير، قالوا: على أيِّ شيء؟ قال: على الشام، قالوا: إن كان عثمان بعثك فحيهلا بك، وإن كان بعثك غيره فارجع! قال: أو ما سمعتم بالذي كان؟! قالوا: بلى، فرجع إلى عليّ
(3)
.
وعند ذلك بدأ إرسال الرسل والمكاتبات بين علي ومعاوية.
(1)
منهاج السنة النبوية (4/ 343).
(2)
انظر: تاريخ الطبري (4/ 506 - 539)، البداية والنهاية (10/ 440 - 469).
ولمزيد من التفصيل حول معركة الجمل: انظر ما سطَّره أصحاب صحيح وضعيف تاريخ الطبري (3/ 387 - 399).
(3)
في إسناده مقال: أخرجه الطبري في تاريخه (4/ 442) وفي سنده سيف بن عمر التميمي، تقدَّم أنه مع ضعفه فهو عمدة في التاريخ، والراوي عنه: شعيب بن إبراهيم، تقدَّم أن فيه جهالة.
كتب عليٌّ إلى معاوية، وكان رسوله إليه: سبرة الجهني، فقدم عليه فلم يكتب معاوية بشيء، ولم يجبه، وردَّ رسوله، وجعل كلما تنجَّز جوابه لم يزد على قوله:
أَدِمْ إدامة حِصنٍ أو خدا بيدي
…
حرباً ضروساً تشبُّ الجزل والضرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله
…
شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
أعيا المسود بها والسيدون فلم
…
يوجد لها غيرنا مولى ولا حكما
وجعل الجهنيُّ كلما تنجَّز الكتاب لم يزده على هذه الأبيات، حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، دعا معاوية برجل من بني عبس، ثم أحد بني رواحة يُدعى قبيصة، فدفع إليه طوماراً مختوماً، عنوانه: من معاوية إلى علي، فقال:«إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار» ، ثم أوصاه بما يقول، وسرَّح رسولَ عليٍّ، وخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول لغرته، فلما دخلا المدينة رفع العبسيُّ الطومار كما أمره، وخرج الناس ينظرون إليه، فتفرقوا إلى منازلهم وقد علموا أن معاوية معترض، ومضى حتى يدخل على علي، فدفع إليه الطومار، ففض خاتمه فلم يجد في جوفه كتابة، فقال للرسول:«ما وراءك؟» قال: آمِنٌ أنا؟ قال: «نعم، إن الرسل آمنة لا تقتل» ، قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود، قال:«ممّن؟» قال: من خيط نفسك
(1)
، وتركت ستين ألف شيخ يبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم، قد ألبسوه منبر دمشق، فقال:«مني يطلبون دم عثمان؟! ألست موتوراً كترة عثمان! اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمراً أصابه، اخرج» . قال: وأنا آمن؟ قال: «وأنت آمن» . فخرج العبسى
(2)
.
ولم تتوقف المحاولات من ناحية علي رضي الله عنه عند هذا، بل أرسل إلى معاوية من يتمثَّل فيهم الرشد والحكمة، محاولا إيجاد طريق لرأْبِ الصدع، وإنهاء الفتنة.
(1)
تقدَّم فيما هو أصح من تلك الرواية أن معاوية كان يطلب أن يُسلم عليٌ إليه القتلة، ولم يطلب القود منه نفسه.
(2)
إسناده ضعيف: أخرجه الطبري في تاريخه (4/ 442) وفي سنده سيف بن عمر التميمي، تقدَّم أنه مع ضعفه فهو عمدة في التاريخ، والراوي عنه: شعيب بن إبراهيم، تقدَّم أن فيه جهالة.
ففي سنة ست وثلاثين، كما يقول عوانة بن الحكم: «وجَّهَ عليٌّ عند منصرفه من البصرة إلى الكوفة وفراغه من الجمل جريرَ بن عبد الله البجليَّ إلى معاوية يدعوه إلى بيعته، وكان جريرٌ حين خرج عليٌّ إلى البصرة لقتال من قاتله بها بهمذان عاملاً عليها، كان عثمان استعمله عليها، وكان الأشعث بن قيس على أذربيجان عاملاً عليها، كان عثمان استعمله عليها، فلما قدم علي الكوفة منصرفاً إليها من البصرة، كتب إليهما يأمرهما بأخذ البيعة له على من قبلهما من الناس، والانصراف إليه ففعلا ذلك، وانصرفا إليه.
فلما أراد عليٌّ توجيه الرسول إلى معاوية، قال جرير بن عبد الله: ابعثني إليه، فإنه لي ودٌّ حتى آتيه فأدعوه إلى الدخول في طاعتك، فقال الأشتر لعلى: لا تبعثه، فو الله إني لأظن هواه معه، فقال عليٌّ: دعه حتى ننظر ما الذي يرجع به إلينا، فبعثه إليه، وكتب معه كتاباً يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته، ونكث طلحة والزبير، وما كان من حربه إياهما، ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته، فشخص إليه جرير، فلما قدم عليه ماطله واستنظره، ودعا عَمْراً فاستشاره فيما كتب به إليه، فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشام، ويلزم عليَّاً دم عثمان، ويقاتله بهم، ففعل ذلك معاوية، فلما قدم جرير بن عبد الله على عليٍّ فأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشام معه على قتاله، وأنهم يبكون على عثمان، ويقولون: إن عليَّاً قتله، وآوى قتلته، وأنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه؛ فقال الأشتر لعلي: قد كنت نهيتك أن تبعث جريراً، وأخبرتك بعداوته وغشه، ولو كنت بعثتني كان خيراً من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع باباً يرجو فتحه إلا فتحه، ولا باباً يخاف منه إلا أغلقه، فقال جرير: لو كنت ثَمَّ لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان رضي الله عنه، فقال الأشتر: لو أتيتهم والله يا جرير لم يعيني جوابهم، ولحملتُ معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك في محبس لا تخرجون منه حتى تستقيم هذه الأمور.
فخرج جرير بن عبد الله إلى قرقيسياء، وكتب إلى معاوية، فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه»
(1)
.
ولما باءت هذه الرسائل والمحاولات بالفشل؛ عزم عليٌّ رضي الله عنه على التوجُّه بجيشه إلى معاوية بالشام للقتال، حتى ينقادَ الجميع إليه، فلما علم معاوية بذلك؛ خرج للقائه بصفِّين.
وقد كان هناك من آل البيت وممن ناصروا عليَّاً وظاهروه، من يرغب في ألَّا يواجه عليٌّ معاوية، وأن يترك له مسألة الثأر والدم؛ كعبد الله بن عباس.
فعن زهدم الجرمي قال: كنا عند ابن عباس يوماً فقال: «والله لأحدِّثنَّكم بحديثٍ ما هو بسرٍّ ولا علانية، ما هو بسرٍّ فأكتمكموه، ولا علانية فأخطب به، وإنه لما وُثب على عثمان فقُتل، قُلتُ لابن أبي طالب: اجتنبْ هذا الأمر فستُكفاه، فعصاني، وما أراه يظفر، وايم الله ليظهرن عليكم ابن أبي سفيان، لأن الله قال: {ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سلطاناً}»
(2)
.
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه الطبري في تاريخه (4/ 561 - 562) من طريق أبي الحسن المدائني، عن عوانة؛ به. وتقدم أن المدائني كان عالما بأيام الناس، صدوقا في ذلك، مع كونه ليس بالقوي في الحديث، وأما عوانة نفسه: فمع كونه كان من الأخباريين المشهورين؛ إلا أن الحافظ قال عنه في لسان الميزان (6/ 247): روى عَن عَبد الله بن المعتز، عن الحسن بن عليل العنزي - عن عوانة بن الحكم - أنه كان عثمانيا، فكان يضع الأخبار لبني أمية". يُضاف لذلك أنه مات في سنة ثمان وخمسين ومائة، فروايته مرسلة.
(2)
إسناده حسن: أخرجه معمر في جامعه (20969 - مصنف عبدالرزاق)، عن أيوب، عن زهدم الجرمي، عن ابن عباس؛ به، وهذا سند صحيح، لولا ما يُخشى من وراية معمر عن أيوب، فقد تكلم العلماء في رواية معمر عن أهل البصرة، وأيوب بصري.
انظر: علل ابن أبي حاتم (4/ 256)، شرح علل الترمذي لابن رجب (2/ 774)، هدي الساري لابن حجر (ص: 444).