الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا هو محل الخلاف إذاً، فهم لا يرون يزيد كفئاً، ويخشون من توريث الحكم، ومعاوية يراه كفئا، وهو أحق بالأمر من غيره، ولا يمنعه من ذلك أن كان أبوه الخليفة، وأيَّد موقف معاوية: أنه لم ير اعتراضا على رأيه من أكثر المسلمين، ومن بيدهم غلبة وقوة، ويدخلون في مصطلح:"أهل الحل والعقد".
- وأما اعتراض بعضهم بأنه لا يرى صحة مبايعة خليفتين في وقت واحد، فهذا أمر انفرد به ابن الزبير، ولم يقل معاوية أنه سيجعل ابنه خليفة معه حتى يتحير الناس، من يطيعون ومن يعصون، وإنما لا يكون يزيد خليفة شرعيا حتى يموت معاوية، أو يُعلن تنازله التام عن الخلافة له. هذا إن ثبت عن ابن الزبير أنه اعترض بهذا الاعتراض من الأصل
(1)
.
هل كان معاوية مصيبا في عهده ليزيد بالخلافة من بعده
؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال علينا أن نعلم أن هذه مسألة اجتهادية، وأن معاوية رضي الله عنه كان من أهل الاجتهاد، لذا فاختياره دائر بين الأجر والأجرين، تحقيقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر»
(2)
.
ولا شكَّ أيضا أن مسألة عهد معاوية رضي الله عنه نفسها بالخلافة لأحد من بعده، تخوفا على الأمة من النزاع والفرقة والاختلاف؛ أمر يُحمد له، ويُشكر عليه.
ولنتصور أن معاوية رضي الله عنه سلك إحدى الأمور الثلاث الآتية:
- ترك الناس بدون خليفة من بعده، مثلما فعل حفيده معاوية بن يزيد.
(1)
تقدَّم أن الإسناد بذلك إليه ضعيف، وقد قال الشيخ محب الدين الخطيب في تعليقه على العواصم من القواصم (ص: 217): ابن الزبير أذكى من أن يفوته أن البيعة ليزيد بعد معاوية، وليست لهما معا في حياة معاوية، والذين اخترعوا هذه الأخبار وأضافوها إلى وهب بن جرير بن حازم يكذبون كذبا مفضوحا".
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
- نادَى في كل مَصر من الأمصار بأن يرشحوا لهم نائباً، ثم يختاروا من هؤلاء المرشحين خليفة.
- جعل يزيد هو المرشح، وبايعه الناس كما فعل.
ولنأخذ الأمر الأول: كيف ستكون حالة المسلمين لو أن معاوية تناسى هذا الموضوع، وتركه ولم يرشح أحدًا لخلافة المسلمين حتى تُوُفّي؟
قد يغلب على الظن أن الوضع سيكون أسوأ من ذلك الوضع الذي أعقب تصريح معاوية بن يزيد بتنازله عن الخلافة، وترك الناس في هرج ومرج، حتى استقرت الخلافة أخيراً لعبد الملك بن مروان، بعد حروب طاحنة استمرت قرابة عشر سنوات.
ثم لنتصور الأمر الثاني: نادى منادٍ في كل مصر بأن يرشحوا نائباً عنهم، حتى تكون مسابقة أخيرة ليتم فرز الأصوات فيها، ثم الخروج من هذه الأصوات بفوز مرشح من المرشحين ليكون خليفة للمسلمين بعد وفاة معاوية.
سيختار أهل الشام، رجل من بني أمية بلا شك، وربما كان يزيد، وربما غيره، وسيختار أهل العراق -في الغالب- الحسين بن علي رضي الله عنه، وسيختار أهل الحجاز: إما عبد الله بن عمر، أو عبد الرحمن بن أبي بكر، أو ابن الزبير، رضي الله عنهم جميعا، وسيختار أهل مصر: عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.
والسؤال الآن: هل سيرضى كل مصر بولاية واحد من هؤلاء، ويسَلّموا له، أم ستكون المعارضة واردة؟!
الجواب: أغلب الظن أن المعارضة ستظهر.
ولنسأل سؤالًا آخر: في حالة أنه تم اختيار كل مرشح من قِبَل الأمصار، هل يستطيع معاوية رضي الله عنه أن يلزم كل مَصر بما اختاره أهل المصر الآخر؟!
الجواب: ستجد الدولة نفسها في النهاية أمام تنظيمات انفصالية، وسيعمد أدعياء الشر الذين قهرتهم الدولة بسلطتها إلى استغلال هذه الفوضى السياسية، ومن ثم الإفادة منها في إحداث شرخ جديد في كيان الدولة الإسلامية.
ونحن حينما نورد هذه الاعتراضات، فربما حصل ما أشرنا إليه، وربما حدث العكس من ذلك، ولكنا أوردنا ذلك حتى نتصور مدى عدم صحة الآراء التي أحياناً يطلقها ويتحمس لها البعض دون الرجوع إلى الواقع التاريخي المحتم آنذاك.
لقد تعرض المجتمع المسلم إلى هزة عنيفة بعد استشهاد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وترك كيانات وتيارات سياسية وعقائدية خطيرة، استوجبت من معاوية أن يدرك خطورة الأمر والفرقة التي سوف تحصل للمسلمين إذا لم يسارع بتعيين ولي عهد له.
ويبقى الأمر الثالث: وهو ما فعله معاوية رضي الله عنه بتولية يزيد وليَّاً للعهد من بعده، وقد اعترف بمزايا خطوة معاوية هذه، كل من ابن العربي
(1)
، وابن خلدون الذي كان أقواهما حجة، إذا يقول:«والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون سواه، إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس، واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه»
(2)
.
(3)
لكن: لعله كان من الأولى أن يجعل ذلك العهد في أحد غير ولده، تتفق عليه كلمة المسلمين، ولا يشوبه شبهة توريث الحكم.
(4)
.
(1)
العواصم من القواصم (ص: 222 - 224).
(2)
تاريخ ابن خلدون (1/ 263).
(3)
معاوية بن أبي سفيان، كشف شبهات ورد مفتريات (ص: 220 - 222).
(4)
معاوية بن أبي سفيان (ص: 482 - 483).
ويقول د. عبد الشافي محمد عبد اللطيف: «ومما لا شك فيه لو جاء معاوية برجل من ذوي الكفاءة من قريش، غير ابنه يزيد، واستفتى ذوي الرأي والنهي بشأنه، ثم وقف وراءه بثقله الكامل وتأييده الصريح، وطلب من أهل الحل والعقد في الأمة مبايعته بولاية العهد، فهل كان يعترض أحد؟ طبعاً لا، ذلك لأن أمير المؤمنين هو الداعي، ولأن المرشح لولاية العهد رجل أريد بترشيحه ومبايعته مصلحة الأمة والدولة، مجردة من كل شبهة أو عاطفة، ألا ترى معي أن ذلك كان ممكناً؟ وأنه كان محققاً للغرض القائل بأن القصد من ولاية العهد هو سد أبواب الخلاف بين المسلمين، وتجنب الأمة أخطار التنازع والفتن من جديد؟
ولكن معاوية رضي الله عنه على كل حال اجتهد، فإن كان مصيباً فله أجران، وإن كان مخطئاً فله أجر»
(1)
.
وأما عن أهل الشام ورغبتهم في كون الخليفة منهم، فإنهم وإن كان لهم شوكة في هذا الوقت؛ إلا أننا نظن أيضا أنهم كانوا سينقادون لأمر معاوية، وسيدخلون فيما يدخل فيه المسلمون، طالما أن معاوية وطَّد الأمر وهيَّأه، وقد كان قادرا على ذلك.
فرضي الله عن معاوية، وعن سائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(1)
العالم الإسلامي في العصر الأموي (ص: 126).