الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
.
مرويَّاتُ قصة التحكيم:
كثُر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتَّاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم ما بين مُطيل ومختصر في سياقها، وشارح ومستنبط للدروس وبانٍ للأحكام على مضامينها، وقلَّما نجد أحداً وقف عندها فاحصاً مدققاً!
وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً، وإن كان غير مفصل، فقال:«وقد تحكم الناس في التحكيم، فقالوا فيه ما لا يرضاه الله، وإذا لحظتموه بعين المروءة -دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدمُ الدين، وفي الأقل جهلٌ متين»
(2)
.
والراجح من ناحية الحكم العلمي على الروايات: أن جميع متون قصة التحكيم لا تثبت
(3)
، ولا تقوم لها قائمة أمام معيار النقد والتقييم العلمي، وذلك من وجوه:
أولاً: أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وقفنا عليه لها: ما صحَّ عن الزهري -مرسلاً- أنه قال:
«فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكَّموا الحكمين، فاختار أهلُ العراق أبا موسى الأشعريَّ، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرَّق أهل صفِّين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.
(1)
تاريخ الطبري (5/ 56 - 57).
(2)
العواصم من القواصم (ص: 172).
(3)
انظر هذه الروايات في: تاريخ الطبري (5/ 48 - 56)، مرويات أبي مخنف (ص: 377 - 401).
فلما انصرف عليٌّ خالفتْ الحرورية وخرجتْ- وكان ذلك أول ما ظهرت- فآذنوه بالحرب، وردُّوا عليه أن حكَّم بني آدم في حُكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه! وقاتلوا، فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشام، وأبى عليٌّ وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأراجعهما، فدخل على عمرو بن العاص وبدأ به، فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة؟ فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمة، قال: أراكم معشر المعتزله خلف الأبرار، وأمام الفجار! فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو، فقال أبو موسى: أراكم أثبتَ الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها، فكتبها أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن نسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليَّ أن أتابعك، وإلا فلي عليك أن تتابعني! قال أبو موسى: أسمي لك عبد الله بن عمر، وكان ابن عمر
فيمن اعتزل، قال عمرو: إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان، فلم يبرحا مجلسهما حتى استبَّا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو مثل الذين قال الله عز وجل: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} ، فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدتُ مثل أبي موسى كمثل الذي قال عز وجل: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} ، وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار»
(1)
.
وهذا مع كونه صحَّ عن الزهري، إلا أنه أرسله ولم يسنده لأحد، والمرسل -عامَّةً- لا تقوم به حجة، ومرسل الزهري نفسه -خاصَّةً- عند العلماء من أوهى المراسيل.
قال أحمد بن سنان: «كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئا، ويقول: هو بمنزلة الريح، ويقول: هؤلاء قوم حُفَّاظ، كانوا إذا سمعوا الشيء علَّقوه»
(2)
.
وقال يحيى بن معين: «مراسيل الزهري ليس بشيء»
(3)
.
فإذا أضفنا لذلك ما في المتن من نكارة، كتصوير عمرو بن العاص بالماكر المخادع، وتصوير أبي موسى الأشعري بالمغفّل، مع سوء الأخلاق التي لا تليق بمن ربَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ ازداد ذلك المرسل وَهْنا على وَهْن.
لم يكن الطرفان في حاجة إلى خداع، بل ما كان يريده كل طرف يطرحه على صاحبه، فإن قبله؛ وإلا لم يتفقا. وقد وردت رواية تدل على تلك المصارحة.
(1)
إسناده صحيح إلى الزهري: أخرجه الطبري في تاريخه (5/ 57 - 59).
(2)
المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 3)، الجرح والتعديل له (1/ 246).
(3)
المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 3).
فعن مبارك بن فضالة، عن الحسن البصري، قال: «أخبرني الأحنف، أن معاوية كتب إلى علي أن امح هذا الاسم إن أردت أن يكون صلح، فاستشار- وكانت له قبة يأذن لبني هاشم فيها، ويأذن لي معهم- قال: ما ترون فيما كتب به معاوية أن امح هذا الاسم؟ - قال مبارك: يعنى: أمير المؤمنين- قال: برحه الله! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وادع أهل مكة كتب: محمد رسول الله، فأبوا ذلك حتى كتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقلتُ له -أي: الأحنف-: أيها الرجل مالك وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنا والله ما حابيناك ببيعتنا، وإنا لو علمنا أحداً من الناس أحق بهذا الأمر منك لبايعناه، ثم قاتلناك، وإني أقسم بالله لئن محوت هذا الاسم الذي بايعت عليه وقاتلتهم لا يعود إليك أبدا.
قال: وكان والله كما قال، قال: قلَّما وُزن رأيه برأي رجل إلا رجح عليه»
(1)
.
فهنا معاوية صرَّح بما أراده من علي، ولم يكل الأمر إلى عمرو ليحتال ويخادع، ولم يكن مطلب معاوية هنا لأجل نزاعه مع علي على الخلافة -كما سيأتي في: رابعاً-، وإنما لأجل أنه لو أقر له بالخلافة؛ تلزمه الطاعة لولي الأمر، وألا يبرم رأياً ولا ينشئ حرباً دون الرجوع إليه، ومعاوية وأهل الشام بالفعل لم يكونوا بايعوا عليَّاً على الخلافة في هذا الوقت، لذلك طلب معاوية منه نزع هذه الصفة عنه، حتى يستطيع أن يشترط ما شاء في وثيقة الصلح.
(1)
إسناده صحيح: أخرجه الطبري في تاريخه (5/ 53)، والمبارك بن فضالة وإن كان موسوما بالتدليس، كما في التقريب (6464)، إلا أن عنعنته هنا مغتفرة إن شاء الله، فهو ممن لازم الحسن عشر سنين فأكثر، فتدليسه عنه نادر، كما أن تدليس المبارك عن الحسن كان في أقواله هو، دون مروياته، كما رجَّح ذلك الشريف حاتم العوني في ترجمة مطولة للمبارك، في المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس (1/ 342).
ثانياً: أهمية هذه القضية في جانب التشريع والأحكام، والعقيدة في الصحابة، ومع ذلك لا نجد لها نَقْلاً بسندٍ صحيحٍ، ولا يُستساغ أن يُطْبِقَ العلماء على إهمالها مع شدَّة الحاجة إليها.
ثالثاً: مع ضعف ونكارة هذه الروايات، فقد ورد ما هو أصحُّ منها، مناقضاً لها:
فعن حُضَين بن المنذر
(1)
(2)
.
فهذه الرواية لم تذكر خدعةً ولا مكراً، ولا توليةً ولا عزلاً، وقول أبي موسى هذا القول:«أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ» ، وهو يعلم أنه لم يبق من العشرة المبشَّرين بالجنة إلا سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعلي بن أبي طالب، وقد اعتزل الأوَّلان الفتنة، ولم يرغبا في ولاية ولا إمارة، فلم يبق إذاً إلا علي رضي الله عنه.
(1)
كان من أمراء علي رضي الله عنه يوم صفِّين، كما في التقريب (1397).
(2)
في إسناده مقال: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 398) مختصراً جداً، والدارقطني -كما في العواصم من القواصم (ص: 178)، ولم أجده في شيء من كتبه التي بين أيدينا- وابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 175 - 176)، وفي سنده عبيد الله بن مضارب، مقبول، كما في التقريب (4340).
رابعاً: أن النزاع والتحكيم بين الطرفين لم يكن منشؤه: مَنْ أحقُّ بالخلافة، ومَنْ يُعزَل ومن يُولَّى، وإنما كان لأجل قضية الثأر لدم عثمان، على ما قدَّمنا وبيَّنَّا قبل ذلك.
(1)
.
خامساً: أن قضية التحكيم وقعت في وقت فتنة، وحالة المسلمين حينها كانت مضطربة، مع وجود خليفة لهم، فكيف ستنتظم حالتهم مع عزل الخليفة؟! لا شك أن هذا مما يزيد الأمور سوءاً، والصحابة أعقل وأحذق من أن يُقدموا على هذا.
سادساً: ذكرتْ هذه الروايات الضعيفة أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم، والسؤال: ما المسوِّغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية، والحكمان لم يتفقا، وليس ثمة مبرر لهذا؟!
وقد قال فقيه أهل الشام، ومفتيهم في زمانه: سعيد بن عبد العزيز التنوخي
(2)
(3)
.
(1)
إسناده صحيح إلى عبيد: تقدَّم تخريجه.
(2)
ثقة إمام، كما في التقريب (2358).
(3)
إسناده صحيح إلى سعيد: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 145 - 146)، وذكره الطبري في تاريخه (5/ 161) مُعلَّقاً.