المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مرويات قصة التحكيم: - فتح المنان بسيرة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان

[أحمد الجابري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌منهج العمل في الأبحاث

- ‌من نماذج الرواة:

- ‌ محمد بن عمر الواقدي:

- ‌ سيف بن عمر التميمي:

- ‌ أبو الحسن علي بن محمد المدائني:

- ‌ أبو مِخنف لوط بن يحيى:

- ‌ محمد بن إسحاق بن يسار المدني:

- ‌منهج العمل في الكتاب:

- ‌الفصل الأول مُعاويةُ رضي الله عنه قبل الخِلافة

- ‌اسمُهُ ونسبُهُ وكنيتُهُ ولقبُهُ:

- ‌مولده:

- ‌اهتمام أمِّه به، وتنبُّؤها بنبوغه:

- ‌صِفَتُه الخَلْقية:

- ‌زوجاتُه وأولادُه

- ‌إسلامُهُ:

- ‌القول الأول: أنَّه أسلم عام الفتح:

- ‌القول الثاني: أنَّه أسلم عام القضيَّة (الحديبية):

- ‌القول الثالث: أنَّه أسلم قُبَيْل الفتح (بعد الحديبية، وقبل الفتح):

- ‌معاوية رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أولاً: مع النبي صلى الله عليه وسلم في جهاده:

- ‌ثانياً: مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في نُسُكه:

- ‌ثالثاً: كتابتُه الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌رابعاً: روايتُه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌معاوية مع أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما

- ‌معاوية مع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما

- ‌عمرُ يولِّي معاويةَ الشام:

- ‌تهنئةُ النَّاس هند بولاية معاوية:

- ‌كِتَابُ عمر إلى معاوية:

- ‌ثناءُ عمر على معاوية:

- ‌فتوحاتُ معاوية في عهد عمر:

- ‌معاوية مع عثمان بن عفَّان رضي الله عنهما

- ‌فتوحات معاوية وغزواته في عهد عثمان:

- ‌معاويةُ يرفع أمر الخلافات إلى عثمان بن عفَّان:

- ‌معاوية وفتنة مَقْتَل عثمان رضي الله عنه

- ‌بداية ظهور الفتنة بالكوفة، ونَفْيُ المتكلمين إلى الشام عند معاوية:

- ‌تفاقُم المِحنة، واستدعاء عثمان معاوية:

- ‌وصول الخبر إلى معاوية:

- ‌معاوية مع عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما

- ‌انقسام الصحابة والناس بعد مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌تلخيصٌ لما حدث في معركة الجمل (سنة 36 هـ)

- ‌الرسائل بين عليٍّ ومعاويةَ رضي الله عنهما:

- ‌موقعة صفِّين (سنة 37 هـ)

- ‌تعداد الجيشين:

- ‌النزاع على الماء:

- ‌المراسلات بين علي ومعاوية:

- ‌تنظيم الجيوش وبداية القتال:

- ‌مَقْتلُ عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، وظهورُ جيش عليٍّ على أهل الشام:

- ‌ردُّ العلماء تأويل معاوية رضي الله عنه وأهلِ الشام للحديث:

- ‌ليلة الهرير، وآخر أيام القتال:

- ‌توقُّف القتال والدعوة إلى التحكيم:

- ‌مرويَّاتُ قصة التحكيم:

- ‌خُلاصة الكلام في قصة التحكيم:

- ‌موقفٌ حميدٌ لمعاوية مع ملك الروم حال الفتنة:

- ‌عدد الصحابة الذين شهدوا صفِّين:

- ‌فأمَّا الصحابة البدريُّون (من شهدوا بدراً):

- ‌موقف أهل السنَّة مما وقع بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما:

- ‌أيُّ الطائفتين كان أدنى إلى الحق

- ‌هل أصاب عليٌّ رضي الله عنه الحقَّ كاملاً بهذا القتال

- ‌إعذار أهل السنة لمعاوية رضي الله عنه ومن معه، وإمساكهم عن الكلام فيهم:

- ‌معركة النَّهْرَوَان

- ‌التخطيط لقتل عليٍّ، ومعاوية، وعمرو رضي الله عنهم

- ‌استقبال معاوية خبر مقتل عليٍّ:

- ‌الفصل الثاني معاوية رضي الله عنه والخلافة

- ‌خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌دعوة معاوية للصلح، وتنازل الحسن عن الخلافة:

- ‌كيف سيقنع الحسن هؤلاء العشرات من الآلاف خلفه بهذا الصلح والتنازل، وقد اشتعلت في قلوب الكثيرين منهم جذوة الغضب، ونار الانتقام

- ‌عام الجماعة:

- ‌فوائد من قصة الصلح بين الحسن ومعاوية:

- ‌ أهم نتائج هذا الصلح

- ‌معاوية رضي الله عنه: خليفةٌ أم مَلِكٌ

- ‌أولاً: معنى الملك العَضوض:

- ‌خروج الخوارج على معاوية:

- ‌الفتوحات في خلافة معاوية:

- ‌أهم الولاة والعمال الذين استعملهم معاوية رضي الله عنه، أو عزلهم:

- ‌معاوية يعهد بالخلافة لابنه يزيد من بعده:

- ‌الخطوة الأولى: معاوية يفكر في الأمر، ويستشير فيه بعض خواصِّه:

- ‌الخطوة الثانية: أخذ معاوية البيعة ليزيد من أهل الشام:

- ‌الخطوة الثالثة: استدعاء معاوية الوفود من الأمصار لأخذ البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة الرابعة: الكتابة إلى أهل المدينة بطلب البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة الخامسة: قدوم معاوية المدينة بنفسه، وطلبه البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة السادسة: لقاء معاوية مع المعترضين على بيعة يزيد:

- ‌الخلاصة في بيعة يزيد:

- ‌أسباب اعتراض بعض الصحابة على بيعة يزيد:

- ‌دوافع ترشيح معاوية لابنه يزيد للخلافة بعده:

- ‌1 - الحفاظ على وحدة الأمة، والخوف عليها من الاختلاف والنزاع:

- ‌2 - حبُّ معاوية لابنه، وتوسُّمه فيه النجابة الدنيوية:

- ‌الجواب عن أدلة المعترضين على تولية معاوية ليزيد من بعده:

- ‌إذن لماذا اعترض البعض على عهد معاوية بالخلافة ليزيد من بعده

- ‌هل كان معاوية مصيبا في عهده ليزيد بالخلافة من بعده

- ‌مرضه وفاته:

- ‌وصيته قبل موته:

- ‌موضع مقبرته:

- ‌عمره، وتاريخ وفاته:

- ‌مدة ملكه:

- ‌نقش خاتمه:

- ‌حزن الصحابة لموته:

- ‌ممَّا قيل فيه من رثاء

- ‌صفاته وأخلاقه:

- ‌1 - الحرص على السُنَّة (تَعلُّماً، وتطبيقاً، وأَمراً ونَشْراً):

- ‌2 - ستر الناس، والعفو والتجاوز عنهم:

- ‌3 - الحلم والأناة:

- ‌4 - التواضع:

- ‌5 - الخشية من الله:

- ‌6 - العدل:

- ‌الفصل الثالث مناقبه، وثناء العلماء عليه

- ‌أولاً: مناقبه وفضائله:

- ‌ثانياً: ثناء الصحابة رضي الله عنه والسلف عليه:

- ‌ أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم

- ‌ علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌ أبو الدرداء رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن عباس رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن عمر رضي الله عنه

- ‌ المسور بن مخرمة رضي الله عنه

- ‌ مجاهد بن جبر:

- ‌ محمد بن سيرين:

- ‌ محمد بن شهاب الزهري:

- ‌ أبو إسحاق السبيعي:

- ‌ سفيان الثوري:

- ‌ الفضيل بن عياض:

- ‌ شيخ الإسلام ابن تيْميَّة:

- ‌ الذهبي:

- ‌ ابن كثير:

- ‌المفاضلة بين معاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز:

- ‌أقوال السلف فيمن سبَّ معاوية رضي الله عنه

- ‌ عمر بن عبد العزيز:

- ‌ الحسن البصري:

- ‌ الإمام مالك:

- ‌ الإمام أحمد:

- ‌ شيخ الإسلام ابن تيْميَّة:

- ‌الفصل الرابع شبهاتٌ وردُود

- ‌الشُّبهة الأولى: الأحاديث الواردة في ذم معاوية رضي الله عنه

- ‌أ- حديث: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه -وفي لفظ: فارجموه

- ‌ب- حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تعتلوا بربكم»

- ‌جـ- حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كنتُ ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب، قال فجاء فحطأني حطأة(1)، وقال: اذهب وادع لي معاوية. قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية. قال: فجئت فقلت:

- ‌د- عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب،…، قالت: فلما حللتُ ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية ف

- ‌الشبهة الثانية: تعامل معاوية رضي الله عنه بالربا:

- ‌الشبهة الثالثة: بيع معاوية رضي الله عنه الأصنام:

- ‌الشبهة الرابعة: سمُّ معاوية للحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌الشبهة الخامسة: قتل معاوية لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد:

- ‌الشبهة السادسة: قتل معاوية للأشتر مالك بن الحارث النخعي:

- ‌الشبهة السابعة: قتل معاوية لحُجْر بن عدي

- ‌الشبهة الثامنة: لعنُ وسبُّ معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌الشبهة التاسعة: محاولة معاوية نقل منبر النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام:

- ‌الشبهة العاشرة: استلحاق معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه:

- ‌جريدة المصادر والمراجع

الفصل: ‌مرويات قصة التحكيم:

قال الطبريُّ: «فكُتب كتاب القضية بين علي ومعاوية- فيما قيل- يوم الأربعاء، لثلاث عشرة خلت من صفر، سنة سبع وثلاثين من الهجرة، على أن يوافي علي ومعاوية موضع الحكمين بدومة الجندل في شهر رمضان، مع كل واحد منهما أربعمائة من أصحابه وأتباعه»

(1)

.

‌مرويَّاتُ قصة التحكيم:

كثُر الكلام حول قصة التحكيم، وتداولها المؤرخون والكتَّاب على أنها حقيقة ثابتة لا مرية فيها، فهم ما بين مُطيل ومختصر في سياقها، وشارح ومستنبط للدروس وبانٍ للأحكام على مضامينها، وقلَّما نجد أحداً وقف عندها فاحصاً مدققاً!

وقد أحسن ابن العربي في ردها إجمالاً، وإن كان غير مفصل، فقال:«وقد تحكم الناس في التحكيم، فقالوا فيه ما لا يرضاه الله، وإذا لحظتموه بعين المروءة -دون الديانة- رأيتم أنها سخافة حمل على سطرها في الكتب في الأكثر عدمُ الدين، وفي الأقل جهلٌ متين»

(2)

.

والراجح من ناحية الحكم العلمي على الروايات: أن جميع متون قصة التحكيم لا تثبت

(3)

، ولا تقوم لها قائمة أمام معيار النقد والتقييم العلمي، وذلك من وجوه:

أولاً: أن جميع طرقها ضعيفة، وأقوى طريق وقفنا عليه لها: ما صحَّ عن الزهري -مرسلاً- أنه قال:

«فأصبح أهل الشام قد نشروا مصاحفهم، ودعوا إلى ما فيها، فهاب أهل العراقين، فعند ذلك حكَّموا الحكمين، فاختار أهلُ العراق أبا موسى الأشعريَّ، واختار أهل الشام عمرو بن العاص، فتفرَّق أهل صفِّين حين حكم الحكمان، فاشترطا أن يرفعا ما رفع القرآن، ويخفضا ما خفض القرآن، وأن يختارا لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهما يجتمعان بدومة الجندل، فإن لم يجتمعا لذلك اجتمعا من العام المقبل بأذرح.

(1)

تاريخ الطبري (5/ 56 - 57).

(2)

العواصم من القواصم (ص: 172).

(3)

انظر هذه الروايات في: تاريخ الطبري (5/ 48 - 56)، مرويات أبي مخنف (ص: 377 - 401).

ص: 104

فلما انصرف عليٌّ خالفتْ الحرورية وخرجتْ- وكان ذلك أول ما ظهرت- فآذنوه بالحرب، وردُّوا عليه أن حكَّم بني آدم في حُكم الله عز وجل، وقالوا: لا حكم إلا لله سبحانه! وقاتلوا، فلما اجتمع الحكمان بأذرح، وافاهم المغيرة بن شعبة فيمن حضر من الناس، فأرسل الحكمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن الزبير، في إقبالهم في رجال كثير، ووافى معاوية بأهل الشام، وأبى عليٌّ وأهل العراق أن يوافوا، فقال المغيرة بن شعبة لرجال من ذوي الرأي من قريش: أترون أحداً من الناس برأي يبتدعه يستطيع أن يعلم أيجتمع الحكمان أم يتفرقان؟ قالوا: لا نرى أحداً يعلم ذلك، قال: فوالله إني لأظن أني سأعلمه منهما حين أخلو بهما وأراجعهما، فدخل على عمرو بن العاص وبدأ به، فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عما أسألك عنه، كيف ترانا معشر المعتزلة؟ فإنا قد شككنا في الأمر الذي تبين لكم من هذا القتال، ورأينا أن نستأني ونتثبت حتى تجتمع الأمة، قال: أراكم معشر المعتزله خلف الأبرار، وأمام الفجار! فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، حتى دخل على أبي موسى فقال له مثل ما قال لعمرو، فقال أبو موسى: أراكم أثبتَ الناس رأياً، فيكم بقية المسلمين، فانصرف المغيرة ولم يسأله عن غير ذلك، فلقي الذين قال لهم ما قال من ذوي الرأي من قريش، فقال: لا يجتمع هذان على أمر واحد، فلما اجتمع الحكمان وتكلما قال عمرو بن العاص: يا أبا موسى، رأيت أول ما تقضي به من الحق أن تقضي لأهل الوفاء بوفائهم، وعلى أهل الغدر بغدرهم، قال أبو موسى: وما ذاك؟ قال: ألست تعلم أن معاوية وأهل الشام قد وفوا، وقدموا للموعد الذي واعدناهم إياه؟ قال: بلى، قال عمرو: اكتبها، فكتبها أبو موسى، قال عمرو: يا أبا موسى، أأنت على أن نسمي رجلاً يلي أمر هذه الأمة؟ فسمه لي، فإن أقدر على أن أتابعك فلك عليَّ أن أتابعك، وإلا فلي عليك أن تتابعني! قال أبو موسى: أسمي لك عبد الله بن عمر، وكان ابن عمر

ص: 105

فيمن اعتزل، قال عمرو: إني أسمي لك معاوية بن أبي سفيان، فلم يبرحا مجلسهما حتى استبَّا، ثم خرجا إلى الناس، فقال أبو موسى: إني وجدت مثل عمرو مثل الذين قال الله عز وجل: {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها} ، فلما سكت أبو موسى تكلم عمرو فقال: أيها الناس وجدتُ مثل أبي موسى كمثل الذي قال عز وجل: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} ، وكتب كل واحد منهما مثله الذي ضرب لصاحبه إلى الأمصار»

(1)

.

وهذا مع كونه صحَّ عن الزهري، إلا أنه أرسله ولم يسنده لأحد، والمرسل -عامَّةً- لا تقوم به حجة، ومرسل الزهري نفسه -خاصَّةً- عند العلماء من أوهى المراسيل.

قال أحمد بن سنان: «كان يحيى بن سعيد القطان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئا، ويقول: هو بمنزلة الريح، ويقول: هؤلاء قوم حُفَّاظ، كانوا إذا سمعوا الشيء علَّقوه»

(2)

.

وقال يحيى بن معين: «مراسيل الزهري ليس بشيء»

(3)

.

فإذا أضفنا لذلك ما في المتن من نكارة، كتصوير عمرو بن العاص بالماكر المخادع، وتصوير أبي موسى الأشعري بالمغفّل، مع سوء الأخلاق التي لا تليق بمن ربَّاهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ ازداد ذلك المرسل وَهْنا على وَهْن.

لم يكن الطرفان في حاجة إلى خداع، بل ما كان يريده كل طرف يطرحه على صاحبه، فإن قبله؛ وإلا لم يتفقا. وقد وردت رواية تدل على تلك المصارحة.

(1)

إسناده صحيح إلى الزهري: أخرجه الطبري في تاريخه (5/ 57 - 59).

(2)

المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 3)، الجرح والتعديل له (1/ 246).

(3)

المراسيل لابن أبي حاتم (ص: 3).

ص: 106

فعن مبارك بن فضالة، عن الحسن البصري، قال: «أخبرني الأحنف، أن معاوية كتب إلى علي أن امح هذا الاسم إن أردت أن يكون صلح، فاستشار- وكانت له قبة يأذن لبني هاشم فيها، ويأذن لي معهم- قال: ما ترون فيما كتب به معاوية أن امح هذا الاسم؟ - قال مبارك: يعنى: أمير المؤمنين- قال: برحه الله! فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وادع أهل مكة كتب: محمد رسول الله، فأبوا ذلك حتى كتب: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فقلتُ له -أي: الأحنف-: أيها الرجل مالك وما لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنا والله ما حابيناك ببيعتنا، وإنا لو علمنا أحداً من الناس أحق بهذا الأمر منك لبايعناه، ثم قاتلناك، وإني أقسم بالله لئن محوت هذا الاسم الذي بايعت عليه وقاتلتهم لا يعود إليك أبدا.

قال: وكان والله كما قال، قال: قلَّما وُزن رأيه برأي رجل إلا رجح عليه»

(1)

.

فهنا معاوية صرَّح بما أراده من علي، ولم يكل الأمر إلى عمرو ليحتال ويخادع، ولم يكن مطلب معاوية هنا لأجل نزاعه مع علي على الخلافة -كما سيأتي في: رابعاً-، وإنما لأجل أنه لو أقر له بالخلافة؛ تلزمه الطاعة لولي الأمر، وألا يبرم رأياً ولا ينشئ حرباً دون الرجوع إليه، ومعاوية وأهل الشام بالفعل لم يكونوا بايعوا عليَّاً على الخلافة في هذا الوقت، لذلك طلب معاوية منه نزع هذه الصفة عنه، حتى يستطيع أن يشترط ما شاء في وثيقة الصلح.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه الطبري في تاريخه (5/ 53)، والمبارك بن فضالة وإن كان موسوما بالتدليس، كما في التقريب (6464)، إلا أن عنعنته هنا مغتفرة إن شاء الله، فهو ممن لازم الحسن عشر سنين فأكثر، فتدليسه عنه نادر، كما أن تدليس المبارك عن الحسن كان في أقواله هو، دون مروياته، كما رجَّح ذلك الشريف حاتم العوني في ترجمة مطولة للمبارك، في المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس (1/ 342).

ص: 107

ثانياً: أهمية هذه القضية في جانب التشريع والأحكام، والعقيدة في الصحابة، ومع ذلك لا نجد لها نَقْلاً بسندٍ صحيحٍ، ولا يُستساغ أن يُطْبِقَ العلماء على إهمالها مع شدَّة الحاجة إليها.

ثالثاً: مع ضعف ونكارة هذه الروايات، فقد ورد ما هو أصحُّ منها، مناقضاً لها:

فعن حُضَين بن المنذر

(1)

: «أن معاوية أرسل إليه فقال: إنه بلغني عن هذا -أي: عن عمرو- كذا وكذا، فاذهب فانظر ما هذا الذي بلغني عنه، فأتيته فقلت: أخبرني عن الأمر الذي وُليت أنت وأبو موسى، كيف صنعتما فيه؟ قال: قد قال الناس في ذلك ما قالوا، والله ما كان الأمر على ما قالوا، ولكن قلتُ لأبي موسى: ما ترى في هذا الأمر؟ قال: أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ. قلت: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال: إن يُستعنْ بكما ففيكما معونة، وإن يُستغنْ عنكما فطالما استغنى أمر الله عنكما»

(2)

.

فهذه الرواية لم تذكر خدعةً ولا مكراً، ولا توليةً ولا عزلاً، وقول أبي موسى هذا القول:«أرى أنه في النفر الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ» ، وهو يعلم أنه لم يبق من العشرة المبشَّرين بالجنة إلا سعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعلي بن أبي طالب، وقد اعتزل الأوَّلان الفتنة، ولم يرغبا في ولاية ولا إمارة، فلم يبق إذاً إلا علي رضي الله عنه.

(1)

كان من أمراء علي رضي الله عنه يوم صفِّين، كما في التقريب (1397).

(2)

في إسناده مقال: أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (5/ 398) مختصراً جداً، والدارقطني -كما في العواصم من القواصم (ص: 178)، ولم أجده في شيء من كتبه التي بين أيدينا- وابن عساكر في تاريخ دمشق (46/ 175 - 176)، وفي سنده عبيد الله بن مضارب، مقبول، كما في التقريب (4340).

ص: 108

رابعاً: أن النزاع والتحكيم بين الطرفين لم يكن منشؤه: مَنْ أحقُّ بالخلافة، ومَنْ يُعزَل ومن يُولَّى، وإنما كان لأجل قضية الثأر لدم عثمان، على ما قدَّمنا وبيَّنَّا قبل ذلك.

فعن عُبيد بن أبي أمية الإيادي قال: «جاء أبو مسلم الخولاني وأناس معه إلى معاوية، فقالوا له: أنت تنازع عليَّاً، أم أنت مثله؟ فقال معاوية: لا والله، إني لأعلم أن عليَّاً أفضل مني، وأنه لأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قُتل مظلوماً؟ وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدم عثمان، فائتوه فقولوا له، فليدفع إليَّ قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا عليَّاً فكلموه بذلك؛ فلم يدفعهم إليه»

(1)

.

خامساً: أن قضية التحكيم وقعت في وقت فتنة، وحالة المسلمين حينها كانت مضطربة، مع وجود خليفة لهم، فكيف ستنتظم حالتهم مع عزل الخليفة؟! لا شك أن هذا مما يزيد الأمور سوءاً، والصحابة أعقل وأحذق من أن يُقدموا على هذا.

سادساً: ذكرتْ هذه الروايات الضعيفة أن أهل الشام بايعوا معاوية بعد التحكيم، والسؤال: ما المسوِّغ الذي جعل أهل الشام يبايعون معاوية، والحكمان لم يتفقا، وليس ثمة مبرر لهذا؟!

وقد قال فقيه أهل الشام، ومفتيهم في زمانه: سعيد بن عبد العزيز التنوخي

(2)

: «كان عليٌّ بالعراق يُدعى أمير المؤمنين، وكان معاوية بالشام يُدعى الأمير، فلما مات عليٌّ دُعي معاوية بالشام أمير المؤمنين»

(3)

.

(1)

إسناده صحيح إلى عبيد: تقدَّم تخريجه.

(2)

ثقة إمام، كما في التقريب (2358).

(3)

إسناده صحيح إلى سعيد: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 145 - 146)، وذكره الطبري في تاريخه (5/ 161) مُعلَّقاً.

ص: 109