المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إعذار أهل السنة لمعاوية رضي الله عنه ومن معه، وإمساكهم عن الكلام فيهم: - فتح المنان بسيرة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان

[أحمد الجابري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌منهج العمل في الأبحاث

- ‌من نماذج الرواة:

- ‌ محمد بن عمر الواقدي:

- ‌ سيف بن عمر التميمي:

- ‌ أبو الحسن علي بن محمد المدائني:

- ‌ أبو مِخنف لوط بن يحيى:

- ‌ محمد بن إسحاق بن يسار المدني:

- ‌منهج العمل في الكتاب:

- ‌الفصل الأول مُعاويةُ رضي الله عنه قبل الخِلافة

- ‌اسمُهُ ونسبُهُ وكنيتُهُ ولقبُهُ:

- ‌مولده:

- ‌اهتمام أمِّه به، وتنبُّؤها بنبوغه:

- ‌صِفَتُه الخَلْقية:

- ‌زوجاتُه وأولادُه

- ‌إسلامُهُ:

- ‌القول الأول: أنَّه أسلم عام الفتح:

- ‌القول الثاني: أنَّه أسلم عام القضيَّة (الحديبية):

- ‌القول الثالث: أنَّه أسلم قُبَيْل الفتح (بعد الحديبية، وقبل الفتح):

- ‌معاوية رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أولاً: مع النبي صلى الله عليه وسلم في جهاده:

- ‌ثانياً: مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في نُسُكه:

- ‌ثالثاً: كتابتُه الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌رابعاً: روايتُه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌معاوية مع أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما

- ‌معاوية مع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما

- ‌عمرُ يولِّي معاويةَ الشام:

- ‌تهنئةُ النَّاس هند بولاية معاوية:

- ‌كِتَابُ عمر إلى معاوية:

- ‌ثناءُ عمر على معاوية:

- ‌فتوحاتُ معاوية في عهد عمر:

- ‌معاوية مع عثمان بن عفَّان رضي الله عنهما

- ‌فتوحات معاوية وغزواته في عهد عثمان:

- ‌معاويةُ يرفع أمر الخلافات إلى عثمان بن عفَّان:

- ‌معاوية وفتنة مَقْتَل عثمان رضي الله عنه

- ‌بداية ظهور الفتنة بالكوفة، ونَفْيُ المتكلمين إلى الشام عند معاوية:

- ‌تفاقُم المِحنة، واستدعاء عثمان معاوية:

- ‌وصول الخبر إلى معاوية:

- ‌معاوية مع عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما

- ‌انقسام الصحابة والناس بعد مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌تلخيصٌ لما حدث في معركة الجمل (سنة 36 هـ)

- ‌الرسائل بين عليٍّ ومعاويةَ رضي الله عنهما:

- ‌موقعة صفِّين (سنة 37 هـ)

- ‌تعداد الجيشين:

- ‌النزاع على الماء:

- ‌المراسلات بين علي ومعاوية:

- ‌تنظيم الجيوش وبداية القتال:

- ‌مَقْتلُ عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، وظهورُ جيش عليٍّ على أهل الشام:

- ‌ردُّ العلماء تأويل معاوية رضي الله عنه وأهلِ الشام للحديث:

- ‌ليلة الهرير، وآخر أيام القتال:

- ‌توقُّف القتال والدعوة إلى التحكيم:

- ‌مرويَّاتُ قصة التحكيم:

- ‌خُلاصة الكلام في قصة التحكيم:

- ‌موقفٌ حميدٌ لمعاوية مع ملك الروم حال الفتنة:

- ‌عدد الصحابة الذين شهدوا صفِّين:

- ‌فأمَّا الصحابة البدريُّون (من شهدوا بدراً):

- ‌موقف أهل السنَّة مما وقع بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما:

- ‌أيُّ الطائفتين كان أدنى إلى الحق

- ‌هل أصاب عليٌّ رضي الله عنه الحقَّ كاملاً بهذا القتال

- ‌إعذار أهل السنة لمعاوية رضي الله عنه ومن معه، وإمساكهم عن الكلام فيهم:

- ‌معركة النَّهْرَوَان

- ‌التخطيط لقتل عليٍّ، ومعاوية، وعمرو رضي الله عنهم

- ‌استقبال معاوية خبر مقتل عليٍّ:

- ‌الفصل الثاني معاوية رضي الله عنه والخلافة

- ‌خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌دعوة معاوية للصلح، وتنازل الحسن عن الخلافة:

- ‌كيف سيقنع الحسن هؤلاء العشرات من الآلاف خلفه بهذا الصلح والتنازل، وقد اشتعلت في قلوب الكثيرين منهم جذوة الغضب، ونار الانتقام

- ‌عام الجماعة:

- ‌فوائد من قصة الصلح بين الحسن ومعاوية:

- ‌ أهم نتائج هذا الصلح

- ‌معاوية رضي الله عنه: خليفةٌ أم مَلِكٌ

- ‌أولاً: معنى الملك العَضوض:

- ‌خروج الخوارج على معاوية:

- ‌الفتوحات في خلافة معاوية:

- ‌أهم الولاة والعمال الذين استعملهم معاوية رضي الله عنه، أو عزلهم:

- ‌معاوية يعهد بالخلافة لابنه يزيد من بعده:

- ‌الخطوة الأولى: معاوية يفكر في الأمر، ويستشير فيه بعض خواصِّه:

- ‌الخطوة الثانية: أخذ معاوية البيعة ليزيد من أهل الشام:

- ‌الخطوة الثالثة: استدعاء معاوية الوفود من الأمصار لأخذ البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة الرابعة: الكتابة إلى أهل المدينة بطلب البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة الخامسة: قدوم معاوية المدينة بنفسه، وطلبه البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة السادسة: لقاء معاوية مع المعترضين على بيعة يزيد:

- ‌الخلاصة في بيعة يزيد:

- ‌أسباب اعتراض بعض الصحابة على بيعة يزيد:

- ‌دوافع ترشيح معاوية لابنه يزيد للخلافة بعده:

- ‌1 - الحفاظ على وحدة الأمة، والخوف عليها من الاختلاف والنزاع:

- ‌2 - حبُّ معاوية لابنه، وتوسُّمه فيه النجابة الدنيوية:

- ‌الجواب عن أدلة المعترضين على تولية معاوية ليزيد من بعده:

- ‌إذن لماذا اعترض البعض على عهد معاوية بالخلافة ليزيد من بعده

- ‌هل كان معاوية مصيبا في عهده ليزيد بالخلافة من بعده

- ‌مرضه وفاته:

- ‌وصيته قبل موته:

- ‌موضع مقبرته:

- ‌عمره، وتاريخ وفاته:

- ‌مدة ملكه:

- ‌نقش خاتمه:

- ‌حزن الصحابة لموته:

- ‌ممَّا قيل فيه من رثاء

- ‌صفاته وأخلاقه:

- ‌1 - الحرص على السُنَّة (تَعلُّماً، وتطبيقاً، وأَمراً ونَشْراً):

- ‌2 - ستر الناس، والعفو والتجاوز عنهم:

- ‌3 - الحلم والأناة:

- ‌4 - التواضع:

- ‌5 - الخشية من الله:

- ‌6 - العدل:

- ‌الفصل الثالث مناقبه، وثناء العلماء عليه

- ‌أولاً: مناقبه وفضائله:

- ‌ثانياً: ثناء الصحابة رضي الله عنه والسلف عليه:

- ‌ أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم

- ‌ علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌ أبو الدرداء رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن عباس رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن عمر رضي الله عنه

- ‌ المسور بن مخرمة رضي الله عنه

- ‌ مجاهد بن جبر:

- ‌ محمد بن سيرين:

- ‌ محمد بن شهاب الزهري:

- ‌ أبو إسحاق السبيعي:

- ‌ سفيان الثوري:

- ‌ الفضيل بن عياض:

- ‌ شيخ الإسلام ابن تيْميَّة:

- ‌ الذهبي:

- ‌ ابن كثير:

- ‌المفاضلة بين معاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز:

- ‌أقوال السلف فيمن سبَّ معاوية رضي الله عنه

- ‌ عمر بن عبد العزيز:

- ‌ الحسن البصري:

- ‌ الإمام مالك:

- ‌ الإمام أحمد:

- ‌ شيخ الإسلام ابن تيْميَّة:

- ‌الفصل الرابع شبهاتٌ وردُود

- ‌الشُّبهة الأولى: الأحاديث الواردة في ذم معاوية رضي الله عنه

- ‌أ- حديث: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه -وفي لفظ: فارجموه

- ‌ب- حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تعتلوا بربكم»

- ‌جـ- حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كنتُ ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب، قال فجاء فحطأني حطأة(1)، وقال: اذهب وادع لي معاوية. قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية. قال: فجئت فقلت:

- ‌د- عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب،…، قالت: فلما حللتُ ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية ف

- ‌الشبهة الثانية: تعامل معاوية رضي الله عنه بالربا:

- ‌الشبهة الثالثة: بيع معاوية رضي الله عنه الأصنام:

- ‌الشبهة الرابعة: سمُّ معاوية للحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌الشبهة الخامسة: قتل معاوية لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد:

- ‌الشبهة السادسة: قتل معاوية للأشتر مالك بن الحارث النخعي:

- ‌الشبهة السابعة: قتل معاوية لحُجْر بن عدي

- ‌الشبهة الثامنة: لعنُ وسبُّ معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌الشبهة التاسعة: محاولة معاوية نقل منبر النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام:

- ‌الشبهة العاشرة: استلحاق معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه:

- ‌جريدة المصادر والمراجع

الفصل: ‌إعذار أهل السنة لمعاوية رضي الله عنه ومن معه، وإمساكهم عن الكلام فيهم:

وقال الحافظ ابن حجر: «واستدل به -أي: بحديث: إن ابني هذا سيد- على تصويب رأي من قعد عن القتال مع معاوية وعلي، وإن كان علي أحق بالخلافة وأقرب إلى الحق، وهو قول سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة، وسائر من اعتزل تلك الحروب»

(1)

.

‌إعذار أهل السنة لمعاوية رضي الله عنه ومن معه، وإمساكهم عن الكلام فيهم:

مع تصويب أهل السنة لموقف علي رضي الله عنه، وتخطئتهم لموقف معاوية رضي الله عنه ومن معه، إلا أنهم جميعاً التمسوا العذر لمعاوية، ورأوه مجتهداً أخطأ في اجتهاده، فهو معذور، مأجور، لكونه أهلاً للاجتهاد.

قال أبو الحسن الأشعري: «فأما ما جرى من علي والزبير وعائشة رضي الله عنهم أجمعين، فإنما كان على تأويل واجتهاد، وعليٌّ الإمام، وكلهم من أهل الاجتهاد، وقد شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة والشهادة، فدلَّ على أنهم كلهم كانوا على حقٍّ في اجتهادهم، وكذلك ما جرى بين سيدنا علي ومعاوية رضي الله عنهما، فدل على تأويل واجتهاد.

وكل الصحابة أئمة مأمونون غير متهمين في الدين، وقد أثنى الله ورسوله على جميعهم، وتعبدنا بتوقيرهم وتعظيمهم وموالاتهم، والتبري من كل من ينقص أحدا منهم رضي الله عنهم أجمعين»

(2)

.

وقال أبو المعالي الجويني: «علي رضي الله عنه كان إماماً حقاً في توليته، ومقاتلوه بغاة، وحسن الظن بهم يقتضي أن يُظن بهم قصد الخير، وإن أخطئوه»

(3)

.

وقال ابن حزم: «وإنما قَتَل عمَّار رضي الله عنه أصحابُ معاوية رضي الله عنه، وكانوا متأولين تأويلهم فيه، وإن أخطئوا الحق مأجورون أجرا واحدا؛ لقصدهم الخير»

(4)

.

(1)

فتح الباري (13/ 67).

(2)

الإبانة عن أصول الديانة (ص: 260).

(3)

الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد (ص: 433).

(4)

المحلَّى (11/ 333).

ص: 125

وقال البيهقي: «باب الدليل على أن الفئة الباغية، لا تخرج بالبغي عن تسمية الإسلام، وقال الشافعي: سماهم الله تعالى بالمؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم»

(1)

. ثم ساق البيهقي حديث: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان تكون بينهما مقتلة عظيمة ، ودعواهما واحدة» .

قال ابن كثير: «وحمل البيهقي هذه الوقعة -يعني: وقعة صفِّين- على الحديث الذي أخرجاه في الصحيحين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، يقتل بينهما مقتلة عظيمة، ودعواهما واحدة»

(2)

.

وقال ابن العربي: «والذي تثلج به صدوركم: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر في الفتن، وأشار وبيَّن، وأنذر بالخوارج وقال: تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق، فبين أن كل طائفة منهما تتعلق بالحق، ولكن طائفة عليٍّ أدنى إليه، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} فلم يخرجهم عن الإيمان بالبغي بالتأويل، ولا سلبهم اسم الأخوة»

(3)

.

وقال القرطبي: «لا يجوز أن يُنسب إلى أحد من الصحابة خطأٌ مقطوعٌ به، إذ كانوا كلهم اجتهدوا فيما فعلوه وأرادوا الله عز وجل، وهم كلهم لنا أئمة»

(4)

.

وقال النووي: «قال العلماء: هذا الحديث -يعني: حديث الفئة الباغية- حجة ظاهرة في أن عليَّاً رضي الله عنه كان محقاً مصيباً، والطائفة الأخرى بغاة، لكنهم مجتهدون فلا إثم عليهم لذلك»

(5)

.

(1)

السنن الكبرى (8/ 299).

(2)

البداية والنهاية (10/ 550 - 551).

(3)

العواصم من القواصم (ص: 168 - 169).

(4)

الجامع لأحكام القرآن (16/ 321).

(5)

شرح صحيح مسلم (18/ 40).

ص: 126

وقال شيخ الإسلام ابن تيْميَّة: «وليس في كون عمَّار تقتله الفئة الباغية ما ينافي ما ذكرناه، فإنه قد قال الله تعالى:{وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين} {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} فقد جعلهم مع وجود الاقتتال والبغي مؤمنين إخوة، بل مع أمره بقتال الفئة الباغية جعلهم مؤمنين. وليس كل ما كان بغياً وظلماً أو عدواناً يخرج عموم الناس عن الإيمان، ولا يوجب لعنتهم، فكيف يخرج ذلك من كان من خير القرون؟ وكل من كان باغياً، أو ظالماً، أو معتدياً، أو مرتكباً ما هو ذنب فهو قسمان: متأوِّل، وغير متأوِّل، فالمتأوِّل المجتهد: كأهل العلم والدين الذين اجتهدوا، واعتقد بعضهم حلَّ أمور، واعتقد الآخر تحريمها، كما استحل بعضُهم بعضَ أنواع الأشربة، وبعضُهم بعضَ المعاملات الربوية، وبعضُهم بعضَ عقود التحليل والمتعة، وأمثال ذلك، فقد جرى ذلك وأمثاله من خيار السلف. فهؤلاء المتأولون المجتهدون غايتهم أنهم مخطئون، وقد قال الله تعالى:{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء. وقد أخبر سبحانه عن داود وسليمان عليهما السلام إنما حكما في الحرث، وخص أحدهما بالعلم والحكم، مع ثنائه على كل منهما بالعلم والحكم. والعلماء ورثة الأنبياء، فإذا فهم أحدهم من المسألة ما لم يفهمه الآخر لم يكن بذلك ملوماً، ولا مانعاً لما عرف من علمه ودينه، وإن كان ذلك مع العلم بالحكم يكون إثماً وظلماً، والإصرار عليه فسقاً، بل متى علم تحريمه ضرورة كان تحليله كفراً. فالبغي هو من هذا الباب.

ص: 127

أما إذا كان الباغي مجتهداً ومتأوِّلاً، ولم يتبين له أنه باغٍ، بل اعتقد أنه على الحق وإن كان مخطئاً في اعتقاده: لم تكن تسميته باغياً موجبة لإثمه، فضلاً عن أن توجب فسقه. والذين يقولون بقتال البغاة المتأولين يقولون: مع الأمر بقتالهم قتالنا لهم لدفع ضرر بغيهم، لا عقوبة لهم، بل للمنع من العدوان. ويقولون: إنهم باقون على العدالة، لا يُفسَّقون. ويقولون هم كغير المكلف، كما يمنع الصبي والمجنون والناسي والمغمى عليه والنائم من العدوان أن لا يصدر منهم، بل تمنع البهائم من العدوان. ويجب على من قتل مؤمناً خطأ الدية بنص القرآن مع أنه لا إثم عليه في ذلك، وهكذا من رفع إلى الإمام من أهل الحدود وتاب بعد القدرة عليه فأقام عليه الحد، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والباغي المتأوِّل يجلد عند مالك والشافعي وأحمد ونظائره متعددة.

ثم بتقدير أن يكون البغي بغير تأويل: يكون ذنباً، والذنوب تزول عقوبتها بأسباب متعددة: بالحسنات الماحية، والمصائب المكفِّرة، وغير ذلك»

(1)

.

وقال أيضا: «وأهل السنة والجماعة متفقون على أن المعروفين بالخير، كالصحابة المعروفين وغيرهم من أهل الجمل وصفِّين من الجانبين، لا يُفسَّقُ أحدٌ منهم، فضلاً عن أن يكفر، حتى عدى ذلك من عداه من الفقهاء إلى سائر أهل البغي، فإنهم مع إيجابهم لقتالهم منعوا أن يحكم بفسقهم لأجل التأويل، كما يقول هؤلاء الأئمة: إن شارب النبيذ المتنازع فيه متأوِّلاً لا يُجلَد ولا يُفسَّق»

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (35/ 74 - 76).

(2)

مجموع الفتاوى (12/ 495).

ص: 128

وقال ابن كثير: «ولا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم، كما يحاوله جهلة الفرق الضالة; لأنهم وإن كانوا بغاة في نفس الأمر، فإنهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال، وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ومن زاد في هذا الحديث بعد قوله: تقتلك الفئة الباغية: لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة، فقد افترى في هذه الزيادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ; فإنه لم يقلها إذ لم تنقل من طريق تقبل. والله أعلم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار، فإن عمَّارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الألفة واجتماع الكلمة، وأهل الشام يريدون أن يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به، وأن يكون الناس أوزاعاً، على كل قطر إمامٌ برأسه، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة، واختلاف الأمة، فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم، وإن كانوا لا يقصدونه. والله أعلم»

(1)

.

وقال أيضا: «وأمَّا ما شجر بينهم بعده عليه الصلاة والسلام، فمنه ما وقع عن غير قصد، كيوم الجمل، ومنه ما كان عن اجتهاد، كيوم صفِّين. والاجتهاد يخطئ ويصيب، ولكن صاحبه معذور وإن أخطأ، ومأجور أيضاً، وأما المصيب فله أجران اثنان»

(2)

.

وقال أيضا: «ومعاوية معذور عند جمهور العلماء سلفاً وخلفاً، وقد شهدت الأحاديث الصحيحة بالإسلام للفريقين من الطرفين; أهل العراق وأهل الشام»

(3)

.

وقال الحافظ ابن حجر: «وذهب جمهور أهل السنة إلى تصويب من قاتل مع علي، لامتثال قوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا} الآية، ففيها الأمر بقتال الفئة الباغية، وقد ثبت أن من قاتل عليَّاً كانوا بغاة، وهؤلاء مع هذا التصويب متفقون على أنه لا يُذمُّ واحدٌ من هؤلاء، بل يقولون: اجتهدوا فأخطئوا»

(4)

.

(1)

البداية والنهاية (4/ 538).

(2)

الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث (ص: 177).

(3)

البداية والنهاية (11/ 420).

(4)

فتح الباري (13/ 67).

ص: 129

قلتُ (أحمد): بل إن عليَّاً نفسه وبعض الصحابة معه كانوا أولَ الناس التماسا للعذر لمن قاتلوهم، فلم يكفِّروهم، أو يلعنوهم.

فعن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: «بينما عليٌّ آخذ بيد عديِّ بن حاتم وهو يطوف في القتلى، إذ مر برجل عرفته، فقلت: يا أمير المؤمنين، عهدي بهذا وهو مؤمن، قال: والآن؟»

(1)

.

وعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: أخبرني رجل شهد صفِّين قال: «رأيت عليَّاً خرج في بعض تلك الليالي ، فنظر إلى أهل الشام فقال: اللهم اغفر لي ولهم»

(2)

.

وعن يزيد بن الأصم قال: «سُئل علي عن قتلى يوم صفِّين، فقال: قتلانا وقتلاهم في الجنة، ويصير الأمر إليَّ وإلى معاوية»

(3)

.

وعن رياح بن الحارث، قال:«كنت إلى جنب عمَّار بن ياسر بصفِّين، وركبتي تمس ركبته، فقال رجل: كفر أهل الشام، فقال عمَّار: لا تقولوا ذلك، نبينا ونبيهم واحد، وقبلتنا وقبلتهم واحدة; ولكنهم قوم مفتونون جاروا عن الحق، فحقٌّ علينا أن نقاتلهم حتى يرجعوا إليه»

(4)

.

(1)

إسناده صحيح إلى سعد: أخرجه ابن أبي شيبة (37846)، لكن يبقى أن سعدا لم يلق أحدا من الصحابة، كما في جامع التحصيل (ص: 180).

(2)

إسناده صحيح إلى عبد الله: أخرجه ابن أبي شيبة (37865).

(3)

إسناده حسن إلى يزيد: أخرجه ابن أبي شيبة (37880)، وفي سنده عمر بن أيوب الموصلي، صدوق له أوهام، كما في التقريب (4867)، وشيخه: جعفر بن بُرقان، صدوق، كما في التقريب (932).

(4)

إسناده حسن: أخرجه ابن أبي شيبة (37841)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (598)، وفي سنده الحسن بن الحكم النخعي، صدوق يخطئ، كما في التقريب (1229). وتصحَّف في المطبوع من ابن أبي شيبة (رياح) إلى (زياد)!

ص: 130

وعن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل -وكان من أفضل أصحاب عبد الله بن مسعود- قال: «رأيتُ في المنام كأني أُدخلت الجنة، فرأيت قباباً مضروبة، فقلت: لمن هذه؟ فقيل: هذه لذي الكلاع وحوشب، وكانا ممن قُتل مع معاوية يوم صفِّين، قال: قلت: فأين عمَّار وأصحابه؟ قالوا: أمامك، قلت: وكيف وقد قتل بعضهم بعضاً؟ قال: قيل: إنهم لقوا الله فوجدوه واسع المغفرة»

(1)

.

ومن ثَمَّ تقرر عند أهل السنة الإمساك عن الكلام فيما شَجَر بين هؤلاء الصحابة الأفاضل، وعدم الخوض في ذلك إلا بما هو لائقٌ بهم، وهذه نصوصهم ناطقةٌ بما في قلوبهم؛ ومنها:

عن يزيد بن بشر الكلبي قال: «سُئِل عمر بن عبد العزيز عن علي، وعثمان، والجمل، وصفِّين، وما كان بينهم، فقال: تلك دماء كفَّ الله يدي عنها، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها»

(2)

.

قال البيهقيُّ -مُعلِّقاً على قول عمر بن عبد العزيز-: «هذا حسنٌ جميل، لأن سكوت الرجل عما لا يعنيه هو الصواب»

(3)

.

(1)

إسناده صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة (37844)، ويعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (3/ 314)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (2020)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 143، 9/ 62)، والبيهقي (16720).

(2)

حسن بمجموع طرقه: أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (5/ 394)، وفي سنده خالد بن يزيد بن بشر الكلبي، ترجم له ابن عساكر في تاريخ دمشق (16/ 284)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا.

وأخرجه الخطابي في العزلة (ص: 44)، وأبو نعيم في الحلية (9/ 144) من طريق الشافعي قال:"قيل لعمر بن عبد العزيز: ما تقول في أهل صفِّين؟ فقال: تلك دماء طهر الله يدي منها، فلا أحب أن أخضب لساني بها". وهذا مع انقطاعه إلا أنه يقوِّي الطريق الأول، ويشدُّ من أزره.

(3)

مناقب الشافعي لفخر الدين الرازي (ص: 136).

ص: 131

وقال أبو بكر المرُّوذي: «قيل لأبي عبدالله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله، ما تقول فيما كان بين علي ومعاوية؟ فقال أبو عبدالله: ما أقول فيهم إلا الحسنى»

(1)

.

وقال المرُّوذي: «وسمعت أبا عبدالله، وذُكر له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رحمهم الله أجمعين، ومعاوية، وعمرو بن العاص، وأبو موسى الأشعري، والمغيرة، كلهم وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}»

(2)

.

وقال عبدالرحمن بن أبي حاتم: «سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؛ فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار، حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً، فكان من مذهبهم: الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص، والقرآن كلام الله غير مخلوق بجميع جهاته، والقدر خيره وشره من الله عز وجل، وخير هذه الأمة بعد نبيها عليه الصلاة والسلام: أبو بكر الصديق، ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب، عليهم السلام، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، وأن العشرة الذين سماهم رسول الله وشهد لهم بالجنة على ما شهد به رسول الله وقوله الحق، والترحم على جميع أصحاب محمد، والكفُّ عما شجر بينهم»

(3)

.

وقال الآجرِّي: «باب ذكر الكفِّ عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورحمة الله عليهم أجمعين: ينبغي لمن تدبر ما رسمنا من فضائل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفضائل أهل بيته، رضي الله عنهم أجمعين، أن يحبهم، ويترحم عليهم، ويستغفر لهم، ويتوسل إلى الله الكريم لهم، أي: بالدعاء والترحم والاستغفار والترضي، ويشكر الله العظيم إذ وفقه لهذا، ولا يذكر ما شجر بينهم، ولا ينقِّر عنه ولا يبحث.

(1)

مناقب الإمام أحمد لابن الجوزي (ص: 220 - 221).

(2)

المصدر السابق.

(3)

أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي (1/ 197).

ص: 132

فإن عارضنا جاهلٌ مفتونٌ قد خطي به عن طريق الرشاد فقال: لم قاتل فلان لفلان؟ ولم قتل فلان لفلان وفلان؟!

قيل له: ما بنا وبك إلى ذكر هذا حاجة تنفعنا ولا تضرنا إلى علمها.

فإن قال قائل: ولم؟

قيل: لأنها فتن شاهدها الصحابة رضي الله عنهم فكانوا فيها على حسب ما أراهم العلم بها، وكانوا أعلم بتأويلها من غيرهم، وكانوا أهدى سبيلاً ممن جاء بعدهم لأنهم أهل الجنة، عليهم نزل القرآن، وشاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم وجاهدوا معه، وشهد لهم الله عز وجل بالرضوان والمغفرة والأجر العظيم، وشهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، فكانوا بالله عز وجل أعرف، وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبالقرآن وبالسنة، ومنهم يؤخذ العلم، وفي قولهم نعيش، وبأحكامهم نحكم، وبأدبهم نتأدب، ولهم نتبع، وبهذا أُمرنا.

فإن قال قائل: وأيش الذي يضرنا من معرفتنا لما جرى بينهم والبحث عنه؟

قيل له: لا شك فيه، وذلك أن عقول القوم كانت أكبر من عقولنا، وعقولنا أنقص بكثير، ولا نأمن أن نبحث عما شجر بينهم فنزل عن طريق الحق، ونتخلف عما أُمرنا فيهم.

فإن قال قائل: وبم أُمرنا فيهم؟

قيل: أُمرنا بالاستغفار لهم، والترحم عليهم، والمحبة لهم، والاتباع لهم، دل على ذلك الكتاب والسنة وقول أئمة المسلمين، وما بنا حاجة إلى ذكر ما جرى بينهم، قد صحبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وصاهرهم وصاهروه، فبالصحبة له يغفر الله الكريم لهم، وقد ضمن الله عز وجل لهم في كتابه ألا يخزي منهم واحداً، وقد ذكر لنا الله تعالى في كتابه أن وصفهم في التوراة والإنجيل فوصفهم بأجمل الوصف، ونعتهم بأحسن النعت، وأخبرنا مولانا الكريم أنه قد تاب عليهم، وإذا تاب عليهم لم يعذب واحدا منهم أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون} .

ص: 133

فإن قال قائل: إنما مرادي من ذلك لأن أكون عالماً بما جرى بينهم، فأكون لم يذهب عليَّ ما كانوا فيه، لأني أحب ذلك ولا أجهله.

قيل له: أنت طالب فتنة، لأنك تبحث عما يضرك ولا ينفعك، ولو اشتغلت بإصلاح ما لله عز وجل عليك فيما تعبدك به من أداء فرائضه واجتناب محارمه؛ كان أولى بك، وقيل له: ولاسيما في زماننا هذا مع قبح ما قد ظهر فيه من الأهواء الضالة

(1)

.

وقيل له: اشتغالك بمطعمك وملبسك من أين؟ هو أولى بك، وتمسكك بدرهمك من أين هو؟ وفيم تنفقه؟ أولى بك.

وقيل: لا نأمل أن تكون بتنقيرك وبحثك عما شجر بين القوم إلى أن يميل قلبك، فتهوى ما يصلح لك أن تهواه، ويلعب بك الشيطان؛ فتسب وتبغض من أمرك الله بمحبته والاستغفار له وباتباعه، فتزل عن طريق الحق، وتسلك طريق الباطل»

(2)

.

وقال ابن أبي زيد القيرواني: «وأن لا يُذكرَ أحدٌ من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بأحسن ذكر، والإمساك عما شجر بينهم، وأنهم أحق الناس، أن يُلتمس لهم أحسن المخارج، ويُظن بهم أحسن المذاهب»

(3)

.

وقال أبو نعيم الأصبهاني: «فالواجب على المسلمين في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: إظهار ما مدحهم الله تعالى به، وشكرهم عليه، من جميل أفعالهم وجميل سوابقهم، وأن يغضوا عما كان منهم في حال الغضب والإغفال، وفرط منهم عند استزلال الشيطان إياهم، ونأخذ في ذكرهم بما أخبر الله تعالى به؛ فقال تعالى:{وَالَّذين جَاءُوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان} الْآيَة.

(1)

فما يقول رحمه الله لو رأى ما يحدث ويقال في زمننا هذا؟!

(2)

الشريعة (5/ 2485 - 2490).

(3)

عقيدة السلف للقيرواني (ص: 61).

ص: 134

فإن الهفوة والزلل والغضب والحدة والإفراط لا يخلو منه أحد، وهو لهم غفور، ولا يوجب ذلك البراء منهم، ولا العداوة لهم، ولكن يحب على السابقة الحميدة، ويتولى للمنقبة الشريفة»

(1)

.

وقال القرطبي: «وقد تعبدنا بالكف عما شجر بينهم، وألا نذكرهم إلا بأحسن الذكر، لحرمة الصحبة ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سبهم، وأن الله غفر لهم، وأخبر بالرضا عنهم»

(2)

.

وقال ابن قدامة المقدسي: «ومن السنة تولي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم، وذكر محاسنهم، والترحم عليهم، والاستغفار لهم، والكف عن ذكر مساوئهم وما شجر بينهم. واعتقاد فضلهم ومعرفة سابقتهم»

(3)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيْميَّة: «ولهذا كان من مذهب أهل السنة: الإمساك عما شَجَرَ بين الصحابة، فإنه قد ثبتت فضائلهم، ووجبت موالاتهم ومحبتهم»

(4)

.

وقال الذهبي: «ولا نذكر أحدا من الصحابة إلا بخير، ونترضى عنهم، ونقول: هم طائفة من المؤمنين بغت على الإمام علي، وذلك بنص قول المصطفى صلى الله عليه وسلم لعمَّار: تقتلك الفئة الباغية، فنسأل الله أن يرضى عن الجميع، وألا يجعلنا ممن في قلبه غل للمؤمنين»

(5)

.

وقال ابن الوزير اليماني: «والكلام فيما شجر بين الصحابة مما كثر فيه المراء والعصبية، مع قلة الفائدة في كثير منه»

(6)

.

(1)

الإمامة والرد على الرافضة (ص: 341 - 342).

(2)

الجامع لأحكام القرآن (16/ 321).

(3)

لمعة الاعتقاد (ص: 39).

(4)

منهاج السنة النبوية (4/ 448 - 449).

(5)

سير أعلام النبلاء (8/ 209 - 210).

(6)

العواصم والقواصم (3/ 221).

ص: 135

وقال الحافظ ابن حجر: «واتفق أهل السنة على وجوب منع الطعن على أحد من الصحابة بسبب ما وقع لهم من ذلك، ولو عُرِف المُحِقُّ منهم، لأنهم لم يقاتلوا في تلك الحروب إلا عن اجتهاد، وقد عفا الله تعالى عن المخطئ في الاجتهاد، بل ثبت أنه يؤجر أجرا واحدا، وأن المصيب يؤجر أجرين»

(1)

.

وقال الشوكاني -في جواب من سأله عن مذهب أهل الحقِّ في شأن ما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم في الخلافة-: «إنْ كان هذا السائل طالباً للنجاة، مستفهماً عن أقرب الأقوال إلى مطابقة مراد مولاه، كما يُشعر بذلك تصرفه في سؤاله؛ فلْيدَعْ الاشتغال بهذه الأمر، ويترك المرور في هذا المضيق الذي تاهت فيه الأفكار، وتحيَّرت عنده أفكار أهل الأنظار، فإن هؤلاء الذين تبحث عن حوادثهم، وتتطلَّع لمعرفة ما شجر بينهم، قد صاروا تحت أطباق الثرى، ولقوا ربهم في المئة الأولى من البعثة، وها نحن الآن في المئة الثالثة عشر، فما بالنا والاشتغال بهذا الشأن الذي لا يعنينا؟! ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وأي فائدة لنا في الدخول في الأمور التي فيها ريبة؟! وقد أُرشدنا إلى أن ندع ما يريبنا إلى ما لا يريبنا، ويكفينا من تلك القلاقل والزلازل أن نعتقد أنهم خير القرون، وأفضل الناس»

(2)

.

إلى أن قال: «فرحم الله امرأً اشتغل بما أوجبه الله عليه وطلبه منه، وترك ما لا يعود عليه بنفعٍ في الدنيا ولا في الآخرة، بل يعود عليه بالضر، .... ، ومن ظنَّ خلاف هذا فهو مغرورٌ، مخدوعٌ، قاصر الباع عن إدراك الحقائق ومعرفة الحق على وجهه، كائناً من كان»

(3)

.

(1)

فتح الباري (13/ 34).

(2)

إرشاد السائل إلى دلائل المسائل (ص: 45).

(3)

المصدر السابق (ص: 46).

وللمزيد من هذه الأقوال، انظر: سلّ السِّنان في الذبِّ عن معاوية بن أبي سفيان لسعد بن ضيدان السبيعي (ص: 293 - 305)، عقيدة أهل السنة في الصحابة الكرام لناصر بن علي الشيخ (2/ 732 - 742).

ص: 136