الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التخطيط لقتل عليٍّ، ومعاوية، وعمرو رضي الله عنهم
-:
لم تمر معركة النَّهْرَوان هيِّنةً على نفوس من بقي من الخوارج، بل تركت فيهم جرحا غائرا، زاده إيلاما: شرُّ نفوسِهم مع مرور الأيام عليهم، فبدؤوا يفكرون في طريقة للثأر ممن كانوا سببا فيما وقع لهم، ومن هنا بدأت المؤامرة.
فعن إسماعيل بن راشد قال: «اجتمع عبدُالرحمنِ بن مُلْجَم، والبُرَك بن عبدالله، وعمرو بن بكر التميمي، فتذاكروا أمر الناس، وعابوا على ولاتهم، ثم ذكروا أهل النهر، فترحَّموا عليهم، وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم شيئا! إخواننا الذين كانوا دعاة الناس لعبادة ربهم، والذين كانوا لا يخافون في الله لومة لائم، فلو شرينا أنفسنا فأتينا أئمة الضلالة فالتمسنا قتلهم، فأرحنا منهم البلاد، وثأرنا بهم إخواننا! فقال ابن ملجم -وكان من أهل مصر-: أنا أكفيكم عليَّ بن أبي طالب، وقال البرك بن عبدالله: أنا أكفيكم معاوية بن أبي سفيان، وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص، فتعاهدوا وتواثقوا بالله لا ينكص رجل منهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، فأخذوا أسيافهم، فسمّوها، واتعدوا لسبع عشرة تخلو من رمضان أن يثب كل واحد منهم على صاحبه الذي توجه إليه، وأقبل كل رجل منهم إلى المصر الذي فيه صاحبه الذي يطلب
فأما ابن ملجم المرادي فكان عداده في كندة، فخرج فلقي أصحابه بالكوفة، وكاتمهم أمره كراهة أن يظهروا شيئا من أمره، فإنه رأى ذات يوم أصحابا من تيم الرباب- وكان علي قتل منهم يوم النهر عشرة- فذكروا قتلاهم، ولقي من يومه ذلك امرأة من تيم الرباب يقال لها: قطام ابنة الشجنه- وقد قتل أباها وأخاها يوم النهر، وكانت فائقة الجمال- فلما رآها التبست بعقله، ونسي حاجته التي جاء لها، ثم خطبها، فقالت: لا أتزوجك حتى تشفي لي، قال: وما يشفيك؟ قالت: ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، وقتل علي بن أبي طالب، قال: هو مهر لك، فأما قتل علي فلا أراك ذكرته لي وأنت تريديني! قالت: بلى، التمس غرته، فإن أصبت شفيت نفسك ونفسي، ويهنئك العيش معي، وإن قتلت فما عند الله خير من الدنيا وزينتها وزينه أهلها، قال: فو الله ما جاء بي إلى هذا المصر إلا قتل علي، فلك ما سألت قالت: إني أطلب لك من يسند ظهرك، ويساعدك على أمرك.
فبعثت إلى رجل من قومها من تيم الرباب يقال له: وردان، فكلمته فأجابها، وأتى ابن ملجم رجلا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة، فقال له: هل لك في شرف الدنيا والآخرة؟ قال: وما ذاك؟ قال: قتل علي بن أبي طالب، قال: ثكلتك أمك! لقد جئت شيئا إدا، كيف تقدر على علي! قال: أكمن له في المسجد، فإذا خرج لصلاة الغداة شددنا عليه فقتلناه، فإن نجونا شفينا أنفسنا، وأدركنا ثأرنا، وإن قتلنا فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قال: ويحك! لو كان غير علي لكان أهون علي، قد عرفت بلاءه في الإسلام، وسابقته مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجدني أنشرح لقتله، قال: أما تعلم أنه قتل أهل النهر العباد الصالحين! قال: بلى، قال: فنقتله بمن قتل من إخواننا، فأجابه، فجاءوا قطام- وهي في المسجد الأعظم معتكفة- فقالوا لها: قد أجمع رأينا على قتل علي، قالت: فإذا أردتم ذلك فأتوني، ثم عاد إليها ابن ملجم في ليلة الجمعة التي قتل في صبيحتها علي -سنة أربعين- فقال: هذه الليلة التي واعدت فيها صاحبي أن يقتل كل منا صاحبه، فدعت لهم بالحرير فعصبتهم به، وأخذوا أسيافهم وجلسوا مقابل السدة التي يخرج منها علي، فلما خرج ضربه شبيب بالسيف.
فوقع سيفه بعضادة الباب أو الطاق، وضربه ابن ملجم في قرنه بالسيف.
وهرب وردان حتى دخل منزله، فدخل عليه رجل من بني أبيه وهو ينزع الحرير عن صدره، فقال: ما هذا الحرير والسيف؟ فأخبره بما كان وانصرف، فجاء بسيفه فعلا به وردان حتى قتله، وخرج شبيب نحو أبواب كندة في الغلس، وصاح الناس، فلحقه رجل من حضرموت يقال له عويمر، وفي يد شبيب السيف، فأخذه، وجثم عليه الحضرمي، فلما رأى الناس قد أقبلوا في طلبه، وسيف شبيب في يده، خشي على نفسه، فتركه، ونجا شبيب في غمار الناس، فشدوا على ابن ملجم فأخذوه، إلا أن رجلا من همدان يكنى أبا أدماء أخذ سيفه فضرب رجله، فصرعه، وتأخر علي، ورفع في ظهره جعدة بن هبيرة بن أبي وهب، فصلى بالناس الغداة، ثم قال علي: عليَّ بالرجل، فأدخل عليه، ثم قال: أي عدو الله، ألم أحسن إليك! قال: بلى، قال: فما حملك على هذا؟ قال: شحذته أربعين صباحا، وسألت الله أن يقتل به شر خلقه، فقال علي: لا أراك إلا مقتولا به، ولا أراك إلا من شر خلقه
(1)
.
وأما البُرَك بن عبد الله، فإنه في تلك الليلة التي ضُرب فيها علي قعد لمعاوية، فلما خرج ليصلي الغداة شد عليه بسيفه، فوقع السيف في أليته، فأخذ، فقال: إن عندي خيرا أسُرُّك به، فإن أخبرتك فنافعي ذلك عندك؟ قال: نعم، قال: إن أخا لي قتل عليَّاً في مثل هذه الليلة، قال: فلعله لم يقدر على ذلك! قال: بلى، إن عليَّاً يخرج ليس معه من يحرسه، فأمر به معاوية فقُتل.
(1)
وتتمة الرواية هنا: "أن عليَّاً دعا أبناءه وأوصاهم، ولم يعهد لأحد بالخلافة بعده، وكان في تلك الضربة مقتله، في شهر رمضان، سنة أربعين من الهجرة". انظر: تاريخ الطبري (5/ 146 - 148).
وبعث معاوية إلى الساعدي- وكان طبيباً- فلما نظر إليه قال: اختر إحدى خصلتين: إما أن أحمي حديدة فأضعها موضع السيف، وإما أن أسقيك شربة تقطع منك الولد، وتبرأ منها، فإن ضربتك مسمومة، فقال معاوية: أما النار فلا صبر لي عليها، وأما انقطاع الولد فإن في يزيد وعبد الله ما تقر به عيني، فسقاه تلك الشربة فبرأ، ولم يولد له بعدها، وأمر معاوية عند ذلك بالمقصورات، وحرس الليل، وقيام الشرطه على رأسه إذا سجد.
وأما عمرو بن بكر، فجلس لعمرو بن العاص تلك الليلة، فلم يخرج، وكان اشتكى بطنه، فأمر خارجة بن حذافة، وكان صاحب شرطته، وكان من بني عامر بن لؤي، فخرج ليصلي، فشد عليه وهو يرى أنه عمرو، فضربه فقتله، فأخذه الناس، فانطلقوا به إلى عمرو يسلمون عليه بالإمرة، فقال: من هذا؟ قالوا: عمرو، قال: فمن قتلت؟ قالوا: خارجة بن حذافة، قال: أما والله يا فاسق ما ظننته غيرك، فقال عمرو: أردتني وأراد الله خارجة، فقدمه عمرو فقتله»
(1)
.
وقد جاءت رواية أخرى بيَّنت أن إصابة معاوية رضي الله عنه كانت وهو في الصلاة، وتحديدا بعد الركعة الأولى من صلاة الصبح.
فعن خالد بن عبدالله بن رباح السلمي: «أنه صلَّى مع معاوية يوم طعن بإيلياء ركعة، وطعن معاوية حين قضاها، فما زاد أن يرفع رأسه من سجوده، فقال معاوية للناس: أتموا صلاتكم. فقام كل امرئ فأتم صلاته، ولم يقدم أحدا، ولم يقدمه الناس»
(2)
.
ويبدو أن إصابة معاوية كانت خطيرة، حتى ظن بعض الصحابة ممن رأوه أنه مقتولٌ بها.
(1)
إسناده حسن إلى إسماعيل: أخرجه الطبري في تاريخه (5/ 143 - 149)، وفي سنده عثمان بن عبد الرحمن الحراني، صدوق، كما في التقريب (4494). ويبقى النظر فيمن وراء إسماعيل. وانظر: الاستيعاب (3/ 1123 - 1124).
(2)
إسناده صحيح إلى السُلمي: أخرجه يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ (1/ 413).