الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولكن حجراً -فيما يُقال- رأى من زياد أمورا منكرة؛ فحصبه، وخلعه، وأراد أن يقيم الخلق للفتنة، فجعله معاوية ممن سعى في الأرض فساداً، وقد كلمته عائشة في أمره حين حج، فقال لها: دعيني وحجراً حتى نلتقي عند الله.
وأنتم معشر المسلمين أولى أن تدعوهما حتى يقفا بين يدي الله مع صاحبهما العدل الأمين المصطفى المكين، وما أنتم ودخولكم حيث لا تشعرون، فما لكم لا تسمعون؟»
(1)
.
الشبهة الثامنة: لعنُ وسبُّ معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
-:
من الأباطيل التي تُنسب إلى معاوية رضي الله عنه: أنه كان يسبُّ عليَّاً ومن معه، ويأمر بسبِّهم! وهذا من الكذب والافتراء، فلم يصح عن معاوية -فيما علمنا- شيء من ذلك، وأما ما جاء صحيحا من الروايات يفهم منه البعض انتقاصا من معاوية لعلي؛ فهو على غير ما فُهم، كما سيأتي.
ولنبدأ بما لم يصح سنده، لأنه صريح العبارة:
قال أبو مخنف: حدثني أبو جناب الكلبي: «أن عليَّاً كان إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية، وعَمْراً، وأبا الأعور السلمي، وحبيباً، وعبد الرحمن بن خالد، والضحاك بن قيس، والوليد.
فبلغ ذلك معاوية، فكان إذا قنت لعن عليَّاً، وابن عباس، والأشتر، وحسناً، وحسيناً»
(2)
.
والجواب عن هذه الرواية: أنا واهية السند، منكرة المتن!
أما السند: ففيه أبو مخنف لوط بن يحيى، تقدَّم أنه أخباري تالف، وشيخه أبو جناب الكلبي يحيى بن أبي حية: ضعَّفوه لكثرة تدليسه
(3)
.
وأما المتن: ففيه أن عليَّاً هو الذي بدأ بالقنوت على معاوية وأصحابه، وهذا بعيد عن علي، فهو الذي عذرهم -كما تقدَّم- وشهد لهم بالإيمان، وكذلك يبعد عن معاوية أن يسب من علم فضلهم، وقد تقدَّمت شهادته بأنه يعلم أن عليَّاً أفضل وأعلم منه، وسيأتي بعد قليل ما يؤكد هذا المعنى.
(1)
العواصم من القواصم (ص: 211 - 213).
(2)
تاريخ الطبري (5/ 71).
(3)
تقريب التهذيب (7537).
قال الحافظ ابن كثير -بعد ذكر هذه الرواية-: «ولا يصح هذا عنهم رضي الله عنهم»
(1)
.
(2)
.
وهذه الرواية التي ذكرها القرطبي في آخر كلامه، والتي أشار إلى أنها أصح ما قيل في ذلك؛ لا يُفهم منها انتقاص معاوية لعلي، وإليك البيان:
(3)
.
وهذا الحديث قد يفهم منه البعض أن معاوية يسب عليَّاً، ويدعو الناس لذلك، لكن الأمر ليس على ظاهره، فقد أوَّله العلماء بما يتناسب مع حال معاوية كما يلي:
(1)
البداية والنهاية (10/ 576).
(2)
المفهم لما أُشكل من تلخيص مسلم (6/ 279).
(3)
صحيح مسلم (2404).
(1)
.
(2)
.
وأما القاضي عياض فإنه زاد على ذلك: أنه «ربما أراد معاوية أن يستخرج من سعد مثل ما استخرج مما حكاه عن النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون له حجة على من سبه ممن ينضاف إليه من غوغاء جنده، فيحصل على المراد على لسان غيره من الصحابة»
(3)
.
وهناك تأويل آخر:
(4)
.
وعلى هذا التأويل قال النووي: «فيكون معناه: ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده، وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ؟»
(5)
.
ومع هذا: فمع افتراض صحة تأويل من رأى ذلك حملا على السب على ظاهره؛ فيُتوجه إلى أنه طلب للسب على التقصير في تسليم قتلة عثمان لمعاوية.
(1)
المفهم لما أُشكل من تلخيص مسلم (6/ 279).
(2)
شرح صحيح مسلم (15/ 175 - 176).
(3)
إكمال المعلم (7/ 210).
(4)
إكمال المعلم (7/ 210).
(5)
شرح صحيح مسلم (15/ 175 - 176).
(1)
.
قلتُ (أحمد): والذي يبدو أن الوجه الأول أرجح، لأنه يتوافق، ليس فقط مع خُلُق معاوية، ولكن يتوافق مع سائر النصوص الأخرى التي يظهر فيها فضل عليٍّ وعلمه، ومنها -غير ما تقدَّم- أن معاوية سئل عن الخنثى، كيف يُورث إذا مات، فأرسل إلى علي يسأله، فكتب إليه علي: يورث من حيث يبول
(2)
.
فهذه القصة تدلك على ما كان عليه هؤلاء الأفاضل، من العلم، والإنصاف، وطلب الحق، فمع ما بينهما من حروب واختلاف؛ فمعاوية يعرف قدر علي وفضله، ولا يستنكف أن يرسل إليه فيسأله، وعليٌّ في المقابل لا يكتم علماً ولا يضنُّ به، فمثل هؤلاء لا ينبغي أن يُظن بهم إلا الخير، رضي الله عنهم أجمعين.
ومع هذا كله: فلو سلَّمنا بوقوع السب بينهم؛ فليس السبُّ بأكبر من القتال، وهذا كله تتناوله -بإذن الله مغفرته ورحمته- بالتوبة والحسنات، وغير ذلك.
(1)
المفهم لما أُشكل من تلخيص مسلم (6/ 279).
(2)
صحيح بمجموع طرقه: أخرجه سعيد بن منصور (125، 126 - الأعظمي) من طريقين، أحدهما به شيخ مبهم، والآخر صحيح الإسناد -إن سلم من تدليس هشيم- من طريق الشعبي، عن عليٍّ؛ به. وأخرجه ابن أبي شيبة (31365) من طريق الحسن بن كثير الأحمسي، عن أبيه، عن عليٍّ؛ به. والحسن ذكره ابن حبان في الثقات (6/ 167)، وأبوه ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد (12/ 478)، ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا. فهذه الطرق يشد بعضها بعَضُدِ بعض، والله أعلم.