الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
.
وبهذا يتبين نكارة كثير من الروايات -فضلاً عن وهاء سندها- التي تُصوِّر معاوية رضي الله عنه محارباً لأجل الخلافة والولاية، وأنَّ الأمر دائرٌ صراعه، وقائمةٌ حروبه وخلافاته على أمرٍ دنيويٍّ، وليس عن اجتهاد شرعي، يبغي كل طرف فيه الوصول إلى الحق الذي ينشده، وفيما يلي -بإذن الله- مزيد بيان لأحوال الصحابة والناس في تلك الفتنة.
انقسام الصحابة والناس بعد مقتل عثمان رضي الله عنه
-:
منذ مقتل عثمان رضي الله عنه وبدأت الفتن تلوح في الأفق، وتلقي بظلالها على من عاصرها، ويرجع أصل النزاعات والحروب التي قامت في هذا الوقت إلى الخلاف الواقع حول مسألة الثَّأر لدم عثمان، والانتصار من قاتليه، فهذه المسألة وإن كان متَّفقا عليها بين الجميع، إلا أن الخلاف وقع بينهم في: متى تكون؟
ففريق يرى أن هذا الأمر مُقدَّمٌ على غيره، وهذا الفريق انقسم لقسمين:
(1)
الصواعق المحرقة (2/ 622).
القسم الأول: بايع عليَّاً واعترف له بالخلافة، لكنه كان يرى أنَّ أول واجب على عليّ: أن يثأر من القتلة قبل أيِّ شيء، وأن يُعجِّل بالقصاص منهم. وهذا القسم يُمثِّلُه الزبير بن العوام، وطلحة بن عبيدالله، ومن معهما، وهذا القسم هو من حاربه عليٌّ يوم الجمل.
القسم الثاني: امتنع عن مبايعة عليٍّ حتى يتمَّ الثأرُ لدم عثمان، وهذا القسم يُمثِّلُه معاوية بن أبي سفيان ومن معه من أهل الشام. وهذا القسم هو من حاربه عليٌّ يوم صفِّين.
وأما الفريق الآخر: فيرى أنَّ الثأر لدم عثمان حقٌ وواجب، ولكن الأمر في الدولة الإسلامية في هذا الوقت غير مستقرٍّ، والمطالبة بالثأر الآن ليست في قدرة الخليفة ولا في استطاعته، فقتلة عثمان منتشرون ومتغلغلون داخل الجيش، فالتأنِّي الآن والتريُّث هو الأسلم للمسلمين. وهذا الفريق يُمثِّلُه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
يقول ابنُ حزمٍ -في معرض دفاعه عن موقف عليٍّ ومن معه-: «أما قولهم: إن أخذ القَوَد واجبٌ من قتلة عثمان، المحاربين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، الساعين في الأرض بالفساد، والهاتكين حرمة الإسلام والحرم والأمانة والهجرة والخلافة والصحبة والسابقة؛ فنَعَم، وما خالفهم قط عليٌّ في ذلك، ولا في البراءة منهم، ولكنهم كانوا عدداً ضخماً جمَّاً، لا طاقة له عليهم، فقد سقط عن عليٍّ ما لا يستطيع عليه، كما سقط عنه وعن كل مسلم ما عجز عنه من قيام بالصلاة والصوم والحج، ولا فرق، قال الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بشيء فأْتوا منه ما استطعتم» ، ولو أن معاوية بايع عليَّاً لقَوِيَ به على أخذ الحق من قتلة عثمان، فصحَّ أن الاختلاف هو الذي أضعف يد علي عن إنفاذ الحق عليهم»
(1)
.
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 126).
وهناك فريقٌ ثالثٌ اشتبه عليه الأمر، ولم يستطع الترجيح، فاعتزل الفتنة كلها، ومن هؤلاء: سعد بن أبي وقاص، وعبدالله بن عمر، وسعيد بن زيد، رضي الله عنهم جميعا
(1)
.
وبهذا التلخيص يتبيَّن لنا أنَّ كلاً من هؤلاء الصحابة الأفاضل قد اجتهد، وهم جميعاً أهل لهذا الاجتهاد، فيكون للمصيب منهم أجران، وللمخطئ أجرٌ، ولا حرج عليهم إن شاء الله تعالى.
يقول النوويُّ: «وأمَّا معاوية رضي الله عنه فهو من العدول الفضلاء، والصحابة النجباء رضي الله عنه، وأما الحروب التي جرتْ فكانت لكل طائفةٍ شبهةٌ اعتقدت تصويب أنفسها بسببها، وكلهم عدول رضي الله عنهم، ومتأوِّلون في حروبهم وغيرها، ولم يُخرج شيءٌ من ذلك أحداً منهم عن العدالة، لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الاجتهاد، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها، ولا يلزم من ذلك نقص أحدٍ منهم.
واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهةً، فلشدَّة اشتباهها اختلف اجتهادهم، وصاروا ثلاثة أقسام:
قسمٌ ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغٍ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه، ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
وقسمٌ عكس هؤلاء، ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه.
وقسمٌ ثالثٌ اشتبهتْ عليهم القضية وتحيَّرُوا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين، فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم، لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلمٍ حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين وأن الحق معه؛ لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه.
(1)
انظر أسماء هؤلاء المعتزلين في: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب للصلابي (ص: 523 - 533).