الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعم، لم يكن سعدٌ صاحب رغبة في الملك ولا الإمارة، كما دل على ذلك موقفه وقت الحروب والنزاعات والفتن، وبعدها
(1)
، ولعلَّه لهذا السبب لم يمتنع معاوية عن التفكير في ولاية يزيد، لكن حال دون إعلانه حياة سعد ووجوده، فلما مات: صار الأمر مهيَّئا ومتاحا، مع كونه لن يخلو من بعض العقبات.
الخطوة الثانية: أخذ معاوية البيعة ليزيد من أهل الشام:
من البدهي المنطقي أن يوطِّد معاوية الأمر في الشام قبل أي بلد آخر، فهي الآن موطن الخلافة، وأهلها هم حمى الخليفة وعيبته وأقرب الناس إليه، وقد مهَّد معاوية لهذه الخطوة بتأمير يزيد على جيش القسطنطينية، فلمَّا عاد منها طرح معاوية الفكرة عليهم؛ فرحَّبوا بها، وقبلوها، واستحسنوها، ولم يُعارض أحدٌ منهم، فيما نُقل
(2)
.
الخطوة الثالثة: استدعاء معاوية الوفود من الأمصار لأخذ البيعة ليزيد:
بعد أن مهَّد معاوية الأمر في الداخل، بدأ في تهيئة الأجواء الخارجية لهذا الخبر، وحتى لا تُثار القلاقل في البلاد؛ استدعى معاوية وفودا من الأمصار ليطرح عليهم الأمر، دون أن يُعلمهم بشيء قبل قدومهم.
يقول أبو الحسن المدائني: «فلما كانت سنة خمس وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه، فوفد عليه من كل مصر قوم»
(3)
.
(1)
في صحيح مسلم (2965) عن عامر بن سعد، قال:"كان سعد بن أبي وقاص في إبله، فجاءه ابنه عمر، فلما رآه سعد قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فنزل فقال له: أنزلت في إبلك وغنمك، وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره، فقال: اسكت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: إن الله يحب العبد التقي، الغني، الخفي".
(2)
انظر: تاريخ خليفة بن خياط (ص: 211).
(3)
العقد الفريد لابن عبد ربه (5/ 118).
ولا تذكر الروايات أن أحداً من القادمين في الوفود اعترض على قرار معاوية، وغاية ما ذُكر: أن بعضهم وَكَل الأمر إلى علم معاوية بابنه، وأن عليه أن يتقي الله فيمن يوليه إمارة المسلمين.
ومن هؤلاء: عمرو بن حزم من المدينة، والأحنف بن قيس من البصرة.
يقول محمد بن سيرين: «لما أراد معاوية أن يستخلف يزيد بعث إلى عامل المدينة أن أفد إلي من شاء، قال: فوفد إليه عمرو بن حزم الأنصاري، فاستأذن، فجاء حاجب معاوية يستأذن، فقال: هذا عمرو قد جاء يستأذن، فقال: ما جاء بهم إلي؟ فقال: يا أمير المؤمنين، جاء يطلب معروفك، فقال معاوية: إن كنت صادقا فليكتب ما شاء فأعطه ما سألك، ولا أراه، قال: فخرج إليه الحاجب، فقال: ما حاجتك؟ اكتب ما شئت، فقال: سبحان الله! أجيء إلى باب أمير المؤمنين، فأحجب عنه؟ أحب أن ألقاه، فأكلمه، فقال معاوية للحاجب: عده يوم كذا وكذا إذا صلى الغداة فليجئ، قال: فلما صلى معاوية الغداة أمر بسرير، فجعل في إيوان له، ثم أخرج الناس عنه، فلم يكن عنده أحد إلا كرسي وضع لعمرو، فجاء عمرو فاستأذن، فأذن له، فسلم عليه، ثم جلس على الكرسي، فقال له معاوية: حاجتك، قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: لعمري لقد أصبح يزيد بن معاوية واسط الحسب في قريش، غنيا عن المال، غنيا إلا عن كل خير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لم يسترع عبدا رعية إلا وهو سائله عنها يوم القيامة: كيف صنع فيها، وإني أذكرك الله يا معاوية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بمن تستخلف عليها، قال: فأخذ معاوية ربوة ونفس في غداة قر حتى عرق، وجعل يمسح العرق عن وجهه ثلاثا، ثم أفاق، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد ، فإنك امرؤ ناصح، قلت برأيك ، بالغ ما بلغ، وإنه لم يبق إلا ابني وأبناؤهم، وابني أحق من أبنائهم، حاجتك، قال: ما لي حاجة، قال: ثم قال له أخوه: إنما جئنا من المدينة نضرب أكبادها من أجل كلمات قال: ما جئت إلا
لكلمات، قال: فأمر لهم بجوائزهم، قال: وخرج لعمرو، مثله»
(1)
.
ولما دخلت الوفود على معاوية، لم يشأ هو أن يبدأهم، فترك ذلك لبعض أصحابه، ليفتحوا هم الحديث عن البيعة والخلافة؛ فقوبل ذلك بترحابٍ ورضا، إلا ما كان من الأحنف بن قيس.
قال أبو الحسن المدائني: «ثم جلس معاوية في أصحابه، وأذن للوفود فدخلوا عليه، وقد تقدّم إلى أصحابه أن يقولوا في يزيد، فكان أول من تكلم الضحاك بن قيس؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه لا بد للناس من والٍ بعدك، والأنفس يُغدى عليها ويُراح، وإن الله قال:{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، ولا ندري ما يختلف به العصران، ويزيد ابن أمير المؤمنين في حسن معدنه وقصد سيرته، من أفضلنا حلما، وأحكمنا علما، فولّه عهدك، واجعله لنا علما بعدك، فإنا قد بلونا الجماعة والألفة، فوجدناها أحقن للدماء، وآمن للسبل، وخيرا في العاقبة والآجلة.
ثم تكلم الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين، أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسرّه وعلانيته، ومدخله ومخرجه، فإن كنت تعلمه لله رضا، ولهذه الأمة؛ فلا تشاور الناس فيه، وإن كنت تعلم منه غير ذلك؛ فلا تزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.
قال: فتفرق الناس ولم يذكروا إلا كلام الأحنف، ثم بايع الناس ليزيد بن معاوية»
(2)
.
(1)
إسناده صحيح إلى ابن سيرين: أخرجه أبو يعلى (7174)، وقال الهيثمي في المجمع (7/ 249):"رجاله رجال الصحيح".
(2)
المصدر السابق (5/ 118 - 119).