الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أولاً: معنى الملك العَضوض:
قال ابن الأثير: «ثم يكون مُلكٌ عَضوض، أي: يصيب الرعية فيه عسف وظلم، كأنهم يعضون فيه عضا. والعضوض: من أبنية المبالغة»
(1)
.
وقال ابن منظور: «وملك عَضوض: شديد فيه عسف وعنف»
(2)
.
وأما على رواية: ملوك عُضوض:
فقد قال الخطابي: «العُضوض: جمع عِض، وهو: الرجل الخبيث الشرس الخلق»
(3)
.
ثانياً: نص الحديث الصحيح، وبيان اللفظ الضعيف:
فعن سعيد بن جمهان، عن سفينة رضي الله عنه قال:«سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الخلافة ثلاثون عاما، ثم يكون بعد ذلك الملك. قال سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين»
(4)
.
وهذا الحديث صحَّحه الإمام أحمد، وكان يقول به، ويردُّ على من ضعَّفه.
قال المرُّوذي: «ذكرت لأبي عبد الله حديث سفينة، فصححه، وقال: هو صحيح.
قلت: إنهم يطعنون في سعيد بن جمهان؟
فقال: سعيد بن جمهان ثقة، روى عنه غير واحد، منهم: حماد، وحشرج، والعوام.
قلت: إن عباس بن صالح حكى عن علي بن المديني، عن يحيى القطان أنه تكلم فيه؟ فغضب، وقال: باطل ما سمعت يحيى يتكلم فيه»
(5)
.
وعن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال:«سألت أبي عن الخلافة، فذكر المسألة، وسمعته يقول: والخلافة على ما روى سفينة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: الخلافة في أمتي ثلاثون سنة»
(6)
.
وسأل محمد بن الحكم الإمام أحمد عمن ضعَّف حديث سفينة من قبل سعيد بن جمهان، فقال:«بئس القول هذا، سعيد بن جمهان رجل معروف، روى عنه حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، والعوام، وعبد الوارث، وحشرج بن نباتة، هؤلاء خمسة أحفظ أنهم رووا عنه»
(7)
.
من خلال ما تقدَّم: تبين لنا أن لفظ الحديث الصحيح ليس فيه ذكر: «الملك العضوض» ! وإنما وردت هذه اللفظة في حديث آخر، إليك نصه والحكم عليه:
(1)
النهاية في غريب الحديث والأثر (3/ 253).
(2)
لسان العرب (7/ 191).
(3)
غريب الحديث للخطابي (1/ 250).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه أحمد (21919)، وأبو داود (4646، 4647)، والترمذي (2226)، والنسائي في الكبرى (8099).
(5)
المنتخب من العلل للخلال (ص: 217).
(6)
السنة للخلال (2/ 424).
(7)
السنة للخلال (2/ 428).
عن أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الله عز وجل بدأ هذا الأمر نبوة ورحمة، وكائنا خلافة ورحمة، وكائنا ملكا عضوضا، وكائنا عنوة وجبرية وفسادا في الأرض، يستحلون الفروج والخمور والحرير، وينصرون على ذلك ويرزقون أبدا حتى يلقوا الله»
(1)
.
وهذا ضعيف الإسناد، منكر المتن في بعض ألفاظه.
(2)
.
ولهذه اللفظة شاهد من حديث آخر؛ وهو:
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه الطيالسي (225)، وأبو يعلى (873)، والطبراني في الكبير (20/ رقم 91، 92)، والبيهقي (16630)، وفي سنده الليث بن أبي سليم، أكثر العلماء على عدم الاحتجاج بحديثه، وأجمل الحافظ الكلام فيه في التقريب (5685) بقوله:"صدوق اختلط جدا، ولم يتميز حديثه؛ فتُرك".
(2)
سلسلة الأحاديث الضعيفة (7/ 56).
(1)
إسناده ضعيف: أخرجه الطيالسي (439) -وعنه أحمد (18406) - والبزار (2796)؛ من طريق داود بن إبراهيم الواسطي (وانقلب عند البزار إلى: إبراهيم بن داود!)، عن حبيب بن سالم، عن النعمان؛ به.
وقد فرَّق العلماء بين داود بن إبراهيم الواسطي، وداود بن إبراهيم الذي يروي عن طاوس، كما في التاريخ الكبير للبخاري (3/ 236 - 237)، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم (3/ 406 - 407)، والضعفاء والمتروكون لابن الجوزي (1/ 260)، والمتفق والمفترق للخطيب (2/ 875، 877)، ولسان الميزان لابن حجر (3/ 392). وأما ابن حبان فقد جعلهما في الثقات (6/ 280) رجلا واحدا!
فأما صاحبنا -الواسطي- فلم يذكر فيه البخاري ولا ابن أبي حاتم جرحا ولا تعديلا، وإنما نقل ابن أبي حاتم توثيق الطيالسي له، وهو موجود في موطن هذا الحديث عند الطيالسي، وذكره ابن حجر في تعجيل المنفعة (1/ 505) وقال:"ذكره ابن حبان في الثقات".
وقال الذهبي في ديوان الضعفاء (ص: 124): "أما داود بن إبراهيم الواسطي، عن شعبة، وداود بن إبراهيم العنبري، عن عبدة بن سليمان، وداود بن إبراهيم عن الحسن بن شبيب، فليسوا بالمشهورين، ولا ضُعِّفوا".
إذا فليس ثم توثيق لصحابنا إلا من الطيالسي، وذكر ابن حبان له في الثقات، وقد تقدم أن ابن حبان جمعه براوٍ آخر.
وأما الطيالسي: فقد انفرد بتوثيقه، وكذا انفرد برواية هذا الحديث عنه.
قال الدارقطني -كما في أطراف الغرائب والأفراد (3/ 24) -: "تفرد به أبو داود الطيالسي، عن داود بن إبراهيم الواسطي، عن حبيب بن سالم، عن النعمان".
وأعلَّه البزار بشيء آخر؛ فقال عقبه: "هذا الحديث لا نعلم أحدا قال فيه: النعمان عن حذيفة إلا إبراهيم بن داود".
ومما يعلُّ هذه الرواية أيضا: أن للحديث طريقا آخر عن حذيفة بلفظ مختلف، أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده -كما في المطالب العالية (4337) - ومن طريقه الطبراني في الأوسط (6581)؛ من طريق زيد بن الحباب، ثنا العلاء بن المنهال الغنوي، حدثني مهند القيسي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم في نبوة ورحمة، وستكون خلافة ورحمة، ثم يكون كذا وكذا، ثم يكون ملكا عضوضا، يشربون الخمور، ويلبسون الحرير، وفي ذلك ينصرون إلى أن تقوم الساعة» .
قال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن العلاء بن المنهال إلا زيد بن الحباب".
قلتُ (أحمد): هذا إسناد ظاهره الحسن، أما زيد: فهو صدوق، كما في التقريب (2124)، والعلاء الراجح في حاله التوثيق، كما في التذييل على كتب الجرح والتعديل لطارق ناجي (ص: 205).
لكن يبدو -والله أعلم- أن أحد الرجلين دخل له حديث حذيفة في حديث أبي عبيدة، وعلى كل حال فالشاهد الذي نريده -مع ثبوت هذا السند- أن هناك مرحلةً وسطى بين الخلافة الراشدة، والملك العضوض، وهذا ما أشارت إليه رواية أخرى صحيحة الإسناد، كما سيأتي في الرواية القادمة من حديث ابن عباس.
وهذا الحديث في إسناده كلام يجعل الاحتجاج به متعذرا بعض الشيء، خاصَّةً في إثبات حكم متعلق بمن ثبت فضله، وقامت عدالته بيقين. ومع هذا: فحتى لو ثبتت هذه اللفظة، فقد أفادت بعض الروايات أن ثمة مرحلة وسطى بين الخلافة الراشدة، والملك العضوض؛ هي: مرحلة الملك والرحمة.
فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول هذا الأمر نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا ورحمة، ثم يكون إمارة ورحمة، ثم يتكادمون عليه تكادم الحمر فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان»
(1)
.
خلاصة المسألة:
أولاً: حديث «الخلافة ثلاثون سنة» صحيح الإسناد، وقد فسَّر سفينة رضي الله عنه رواي الحديث- هذه المدة بقوله:«أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر سنين، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي ست سنين» -كما تقدَّم-.
وهناك من العلماء من يجعل خلافة الحسن بن علي هي المتممة لهذه السنوات الثلاثين.
(1)
إسناده حسن: أخرجه الطبراني في الكبير (11/ رقم 11138)، من طريق موسى بن أعين، عن ابن شهاب (كذا في المطبوع، وسيرد التصحيح قريبا)، عن فطر بن خليفة، عن مجاهد، عن ابن عباس؛ به. وفي سنده فطر بن خليفة، صدوق، كما في التقريب (5441).
قال الهيثمي في مجمع الزوائد (5/ 190): "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
والحديث صحَّحه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (7/ 803، رقم: 3270)، وقال:"وهذا إسناد جيد، رجاله كلهم ثقات؛ غير سعيد بن حفص النفيلي، ففيه كلام يسير، وقد وثَّقه ابن حبان، وأخرج له في صحيحه ثلاثة أحاديث، والذهبي، والعسقلاني فقال: "صدوق تغير في آخر عمره". وأبو شهاب: هو موسى بن نافع الخياط، ووقع في الأصل: (ابن شهاب)! والتصحيح من المخطوطة (3/ 111/ 1) وكتب الرجال".
وانظر ما تقدم في الحاشية السابقة هنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيْميَّة: «فكان آخر الثلاثين: حين سلَّم سبطُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما الأمر إلى معاوية»
(1)
.
(2)
.
ثانياً: لم تثبت لفظة: «الملك العضوض» في هذا الحديث، وقد تقدَّم بيان ضعف أسانيدها.
ثالثاً: ورد ما يشهد لهذه اللفظة في حديث آخر، لكن في سنده تتمة هامة تبين المعنى، وتتفق مع ما وقع، وهي: قوله عليه الصلاة والسلام: «ثم يكون ملكاً ورحمة» ، بعد ذكره لفترة الخلافة، وتتنزل هذه على فترة حكم معاوية رضي الله عنه.
رابعاً: لا أعلم أحداً من العلماء أدخل معاوية في فترة الخلافة المعدودة في الحديث، وهو لا يتناسب مع المدة الزمنية المذكورة، لكنَّه معدود عندهم أول ملوك المسلمين، وأفضلهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيْميَّة: «وكان معاوية أول الملوك، وفيه ملك ورحمة، كما رُوِي في الحديث: ستكون خلافة نبوة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك وجبرية، ثم يكون ملك عضوض»
(3)
.
وقال أيضا: «ثم لما مات معاوية تولى ابنه يزيد هذا، وجرى بعد موت معاوية من الفتن والفرقة والاختلاف ما ظهر به مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: سيكون نبوة ورحمة، ثم يكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك عضوض.
(1)
جامع المسائل (3/ 82).
(2)
البداية والنهاية (11/ 134).
(3)
جامع المسائل (3/ 82). وانظر: مجموع الفتاوى (35/ 19).
فكانت نبوة النبي صلى الله عليه وسلم نبوة ورحمة، وكانت خلافة الخلفاء الراشدين خلافة نبوة ورحمة، وكانت إمارة معاوية ملكا ورحمة، وبعده وقع ملك عضوض»
(1)
.
وقال في موضع آخر: «واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك؛ كان ملكه ملكا ورحمة، كما جاء في الحديث: يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض.
وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يُعلم أنه كان خيرا من ملك غيره، وأما من قبله فكانوا خلفاء نبوة»
(2)
.
وقال الذهبي: «ومعاوية من خيار الملوك الذين غلب عدلهم على ظلمهم»
(3)
.
وقال ابن كثير: «فأيام معاوية أول الملك، فهو أول ملوك الإسلام وخيارهم»
(4)
.
وقال أيضاً: «والسنة أن يقال لمعاوية: ملك، ولا يقال له: خليفة، لحديث سفينة»
(5)
.
وقد رُوي عن معاوية رضي الله عنه نفسه أنه كان يقول: «أنا أول الملوك»
(6)
.
(1)
جامع المسائل (5/ 154).
(2)
مجموع الفتاوى (4/ 478).
(3)
سير أعلام النبلاء (3/ 159).
(4)
البداية والنهاية (11/ 143).
(5)
البداية والنهاية (11/ 439).
(6)
في سنده مقال: أخرجه ابن أبي شيبة (30714)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 177)، وفي سنده شيخ لم يُسمَّ، وهو الراوي عن معاوية. وله طريق آخر عند أبي خيثمة -كما في البداية والنهاية (11/ 439) - عن عبد الله بن شوذب قال:"كان معاوية يقول: أنا أول الملوك، وآخر خليفة". وسنده صحيح إلى ابن شوذب، لكنه مرسل، فهو لم يدرك معاوية. ولعل هذا الطريق يشد من أزر سابقه.