الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة السابعة: قتل معاوية لحُجْر بن عدي
(1)
:
أما حُجْر نفسه: فقد اختلف العلماء في صحبته، فمنهم من عدَّه في الصحابة، كابن سعد، والزبيري، ومنهم من عدَّه في التابعين، وهم الأكثر، كالبخاري، وأبي حاتم الرازي، وغيرهما.
(2)
.
وقال ابن كثير: «ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وذكر له وفادة، ثم ذكره في الأولى من تابعي أهل الكوفة قال: وكان ثقة معروفا، ولم يرو عن غير علي شيئا.
وقال أبو أحمد العسكري: أكثر المحدثين لا يصححون له صحبة، شهد القادسية، وافتتح مرج عذراء، وشهد الجمل وصفِّين، وكان مع علي حجر الخير، وهو حجر بن عدي هذا، وحجر الشر، وهو حجر بن يزيد بن سلمة بن مرة»
(3)
.
وأما عن قصة مقتله: فقد ثبت عند أهل التاريخ أن معاوية رضي الله عنه أمر بقتله، ولم ينازع في ذلك أحد، لكن تفاصيل ذلك: وردت به أخبار ضعيفة، بل كثير منها واهي الإسناد
(4)
، ولذا فسأقتصر هنا على إيراد أصح ما وقفتُ عليه في قصته، مع ذكر أقوال العلماء في ذلك، لتبيين حجة معاوية رضي الله عنه في قتله.
البداية كانت بتعرض حُجر لزياد -والي معاوية على الكوفة- وهو على المنبر.
(1)
قال ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 227): "ويقال له: حجر الخير. ويقال له: حجر بن الأدبر. لأن أباه عديا طعن موليا فسمي الأدبر، ويكنى حجر بأبي عبد الرحمن، وهو من كندة من رؤساء أهل الكوفة".
(2)
الإصابة (2/ 485).
(3)
البداية والنهاية (11/ 228).
(4)
انظر: تاريخ الطبري (5/ 253 - 271)، مرويات خلافة معاوية (ص: 340).
فعن محمد بن سيرين، قال: «خطب زياد يوما في الجمعة، فأطال الخطبة وأخَّر الصلاة، فقال له حجر بن عدي: الصلاة! فمضى في خطبته، ثم قال: الصلاة! فمضى في خطبته، فلما خشي حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من الحصا، وثار إلى الصلاة وثار الناس معه، فلما رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره، وكثر عليه
(1)
.
فكتب إليه معاوية أن شده في الحديد، ثم احمله إليَّ، فلما أن جاء كتاب معاوية أراد قوم حجر أن يمنعوه، فقال: لا، ولكن سمع وطاعة، فشد في الحديد، ثم حمل إلى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له معاوية: أمير المؤمنين! أما والله لا أقيلك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه»
(2)
.
هذه الرواية بيَّنت سبب مقتل حجر، وأنه أظهر اعتراضا على زياد، ويبدو أنه لم تكن هذه المرة فقط، فلا يُتصوَّر أن يكتب زياد إلى معاوية، ويأمر بإرساله في الحديد، لموقف عابر، أو اعتراض قولي ظهر منه.
ولنا في خبر المسور بن مخرمة مع معاوية دلالة على ذلك، فقد تقدَّم أنه كان يطعن على معاوية والأئمة، ومع ذلك فمعاوية لم يتعرض له، وهو ما يؤكد لنا أن حُجرا لا بد أن يكون صدر منه ما فوق ذلك، لكن كثير من الروايات التي تتحدث عن أفعال حجر لا يستقيم إسنادها، ولذا لم أوردها.
كما أن هذه الرواية لا تذكر تفاصيل ما وقع بين معاوية وحجر عند قدومه عليه، لكن ذكرت رواية أخرى كيف أن معاوية تأنَّى في ذلك، واستشار الناس، وهو ما يتناسب مع عقل وحلم معاوية.
(1)
قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/ 531): "وهو -أي: ابن زياد- الذي سعى في قتل حجر بن عَدِي ومن معه، وكلام كل من وقفت على كلامه من أهل العلم مصرح بأن زيادا تحامل عليه".
(2)
إسناده حسن إلى ابن سيرين: أخرجه الطبري في تاريخه (5/ 256 - 257)، وفي سنده مخلد بن الحسن، لا بأس به، كما في التقريب (6528).
فعن إسماعيل بن عياش، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم قال: «لما بُعث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان؛ استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير ومنهم الساكت، فدخل معاوية إلى منزله، فلما صلَّى الظهر قام في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق، ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول:{سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} ، فقال معاوية: أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم، ورمى بها ما بين عيني معاوية.
ثم قام المنادي فنادى: أين أبو مسلم الخولاني؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقتنا أدركناك، وإن سبقناك نظرناك، ثم جلس.
ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مخمر الشرعبي، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت وإن تعفو فقد أحسنت.
فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين! رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة، وإن تعفوا فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين! لا تطع فينا من كان غشوما لنفسه، ظلوما بالليل، نؤوما عن عمل الآخرة، يا أمير المؤمنين! إن الدنيا قد انخشعت أوتادها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها، ثم جلس.
فقلتُ (أي ابن عياش) لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضا، واستحيى بعضا، وكان فيمن قتل: حجر بن عدي بن الأدبر»
(1)
.
إذن فمعاوية رضي الله عنه استشار، ثم اجتهد، وأدَّاه هذا إلى قتل البعض، وترك الآخرين، وكان يخشى من ترك الجميع أن يكثر الشر والفساد، وتُسال الدماء، وقد أفصح عن تخوفه هذا في لقائه بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
(2)
.
(1)
إسناده حسن: أخرجه أحمد في مسائله (960 - رواية ابنه صالح)، وفي سنده إسماعيل بن عياش، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، كما في التقريب (473)، وروايته هنا عن أهل بلده، فشرحبيل شيخه شامي، وهو صدوق فيه لين، كما في التقريب (2771).
(2)
أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 230)، وفي سنده عبيد الله بن أبي زياد، لم أستطع تحديده، وهناك اثنان بهذا الاسم، وهما من طبقة قريبة، أحدهما: الرصافي، صدوق، والآخر: القداح، ليس بالقوي، كما في التقريب (4291، 4292).
وفي رواية أخرى: عن أيوب السختياني، عن عبد الله بن أبي مليكة أو غيره
(1)
(2)
.
فالخلاصة: أن هذا أمر اجتهد فيه معاوية، فإن أصاب: فله أجران، وإن أخطأ: فقد أخطأ أسامة بن زيد قبل ذلك في قتل الرجل الذي قتل المسلمين، ثم نطق بالشهادتين قبل أن يقتله أسامة
(3)
.
(1)
الشك من إسماعيل بن إبراهيم بن علية، الراوي عن أيوب.
(2)
في إسناده ضعف: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 229)، وفي سنده أبو عبد الله البلخي، الحسين بن محمد بن خسرو، شيخ ابن عساكر، قال عنه الحافظ في لسان الميزان (3/ 208): وترجمه أبو سعد بن السمعاني في ذيل بغداد فقال: البلخي السمسار أبو عبد الله، مفيد بغداد في عصره سمع الكثير. وسألت أبا القاسم -يعني: ابن عساكر- عنه؛ فقال: سمع الكثير، غير أنه ما كان يعرف شيئا. وسألت ابن ناصر عنه؛ فقال: كان فيه لين، وكان حاطب ليل ويذهب إلى الاعتزال".
(3)
أخرج البخاري (4269)، ومسلم (96) عن أسامة بن زيد قال:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذا، قال: فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم".
قال ابن العربي: «فإن قيل: قَتَلَ حُجر بن عدي -وهو من الصحابة
(1)
مشهور بالخير- صبرًا أسيرًا، قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول: قتله ظلمًا، وقائل يقول: قتله حقًا
(2)
.
فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله؛ قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادَّعى أنه بالظلم فعليه الدليل. ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لُعن فيه معاوية، وهذه مدينة السلام، دار خلافة بني العباس -وبينهم وبين بني أمية ما لا يخفى على الناس- مكتوبٌ على أبواب مساجدها: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم.
(1)
تقدَّم النزاع في إثبات صحبته، وأن الأكثرين على عدم ثبوتها.
(2)
قال الشيخ محب الدين الخطيب في حاشيته على الكتاب عند هذا الموضع: "فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعا بعاطفة الحزبية.
والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه.
ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد؛ فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية، كانت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب.
والواقع أن معاوية كان فيه من حلم عثمان وسجاياه، إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان وما جر إليه تمادي الذين اجترأوا عليه".