المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة السابعة: قتل معاوية لحجر بن عدي - فتح المنان بسيرة أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان

[أحمد الجابري]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌منهج العمل في الأبحاث

- ‌من نماذج الرواة:

- ‌ محمد بن عمر الواقدي:

- ‌ سيف بن عمر التميمي:

- ‌ أبو الحسن علي بن محمد المدائني:

- ‌ أبو مِخنف لوط بن يحيى:

- ‌ محمد بن إسحاق بن يسار المدني:

- ‌منهج العمل في الكتاب:

- ‌الفصل الأول مُعاويةُ رضي الله عنه قبل الخِلافة

- ‌اسمُهُ ونسبُهُ وكنيتُهُ ولقبُهُ:

- ‌مولده:

- ‌اهتمام أمِّه به، وتنبُّؤها بنبوغه:

- ‌صِفَتُه الخَلْقية:

- ‌زوجاتُه وأولادُه

- ‌إسلامُهُ:

- ‌القول الأول: أنَّه أسلم عام الفتح:

- ‌القول الثاني: أنَّه أسلم عام القضيَّة (الحديبية):

- ‌القول الثالث: أنَّه أسلم قُبَيْل الفتح (بعد الحديبية، وقبل الفتح):

- ‌معاوية رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌أولاً: مع النبي صلى الله عليه وسلم في جهاده:

- ‌ثانياً: مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم في نُسُكه:

- ‌ثالثاً: كتابتُه الوحي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌رابعاً: روايتُه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌معاوية مع أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنهما

- ‌معاوية مع عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما

- ‌عمرُ يولِّي معاويةَ الشام:

- ‌تهنئةُ النَّاس هند بولاية معاوية:

- ‌كِتَابُ عمر إلى معاوية:

- ‌ثناءُ عمر على معاوية:

- ‌فتوحاتُ معاوية في عهد عمر:

- ‌معاوية مع عثمان بن عفَّان رضي الله عنهما

- ‌فتوحات معاوية وغزواته في عهد عثمان:

- ‌معاويةُ يرفع أمر الخلافات إلى عثمان بن عفَّان:

- ‌معاوية وفتنة مَقْتَل عثمان رضي الله عنه

- ‌بداية ظهور الفتنة بالكوفة، ونَفْيُ المتكلمين إلى الشام عند معاوية:

- ‌تفاقُم المِحنة، واستدعاء عثمان معاوية:

- ‌وصول الخبر إلى معاوية:

- ‌معاوية مع عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما

- ‌انقسام الصحابة والناس بعد مقتل عثمان رضي الله عنه

- ‌تلخيصٌ لما حدث في معركة الجمل (سنة 36 هـ)

- ‌الرسائل بين عليٍّ ومعاويةَ رضي الله عنهما:

- ‌موقعة صفِّين (سنة 37 هـ)

- ‌تعداد الجيشين:

- ‌النزاع على الماء:

- ‌المراسلات بين علي ومعاوية:

- ‌تنظيم الجيوش وبداية القتال:

- ‌مَقْتلُ عمَّار بن ياسر رضي الله عنه، وظهورُ جيش عليٍّ على أهل الشام:

- ‌ردُّ العلماء تأويل معاوية رضي الله عنه وأهلِ الشام للحديث:

- ‌ليلة الهرير، وآخر أيام القتال:

- ‌توقُّف القتال والدعوة إلى التحكيم:

- ‌مرويَّاتُ قصة التحكيم:

- ‌خُلاصة الكلام في قصة التحكيم:

- ‌موقفٌ حميدٌ لمعاوية مع ملك الروم حال الفتنة:

- ‌عدد الصحابة الذين شهدوا صفِّين:

- ‌فأمَّا الصحابة البدريُّون (من شهدوا بدراً):

- ‌موقف أهل السنَّة مما وقع بين عليٍّ ومعاوية رضي الله عنهما:

- ‌أيُّ الطائفتين كان أدنى إلى الحق

- ‌هل أصاب عليٌّ رضي الله عنه الحقَّ كاملاً بهذا القتال

- ‌إعذار أهل السنة لمعاوية رضي الله عنه ومن معه، وإمساكهم عن الكلام فيهم:

- ‌معركة النَّهْرَوَان

- ‌التخطيط لقتل عليٍّ، ومعاوية، وعمرو رضي الله عنهم

- ‌استقبال معاوية خبر مقتل عليٍّ:

- ‌الفصل الثاني معاوية رضي الله عنه والخلافة

- ‌خلافة الحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌دعوة معاوية للصلح، وتنازل الحسن عن الخلافة:

- ‌كيف سيقنع الحسن هؤلاء العشرات من الآلاف خلفه بهذا الصلح والتنازل، وقد اشتعلت في قلوب الكثيرين منهم جذوة الغضب، ونار الانتقام

- ‌عام الجماعة:

- ‌فوائد من قصة الصلح بين الحسن ومعاوية:

- ‌ أهم نتائج هذا الصلح

- ‌معاوية رضي الله عنه: خليفةٌ أم مَلِكٌ

- ‌أولاً: معنى الملك العَضوض:

- ‌خروج الخوارج على معاوية:

- ‌الفتوحات في خلافة معاوية:

- ‌أهم الولاة والعمال الذين استعملهم معاوية رضي الله عنه، أو عزلهم:

- ‌معاوية يعهد بالخلافة لابنه يزيد من بعده:

- ‌الخطوة الأولى: معاوية يفكر في الأمر، ويستشير فيه بعض خواصِّه:

- ‌الخطوة الثانية: أخذ معاوية البيعة ليزيد من أهل الشام:

- ‌الخطوة الثالثة: استدعاء معاوية الوفود من الأمصار لأخذ البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة الرابعة: الكتابة إلى أهل المدينة بطلب البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة الخامسة: قدوم معاوية المدينة بنفسه، وطلبه البيعة ليزيد:

- ‌الخطوة السادسة: لقاء معاوية مع المعترضين على بيعة يزيد:

- ‌الخلاصة في بيعة يزيد:

- ‌أسباب اعتراض بعض الصحابة على بيعة يزيد:

- ‌دوافع ترشيح معاوية لابنه يزيد للخلافة بعده:

- ‌1 - الحفاظ على وحدة الأمة، والخوف عليها من الاختلاف والنزاع:

- ‌2 - حبُّ معاوية لابنه، وتوسُّمه فيه النجابة الدنيوية:

- ‌الجواب عن أدلة المعترضين على تولية معاوية ليزيد من بعده:

- ‌إذن لماذا اعترض البعض على عهد معاوية بالخلافة ليزيد من بعده

- ‌هل كان معاوية مصيبا في عهده ليزيد بالخلافة من بعده

- ‌مرضه وفاته:

- ‌وصيته قبل موته:

- ‌موضع مقبرته:

- ‌عمره، وتاريخ وفاته:

- ‌مدة ملكه:

- ‌نقش خاتمه:

- ‌حزن الصحابة لموته:

- ‌ممَّا قيل فيه من رثاء

- ‌صفاته وأخلاقه:

- ‌1 - الحرص على السُنَّة (تَعلُّماً، وتطبيقاً، وأَمراً ونَشْراً):

- ‌2 - ستر الناس، والعفو والتجاوز عنهم:

- ‌3 - الحلم والأناة:

- ‌4 - التواضع:

- ‌5 - الخشية من الله:

- ‌6 - العدل:

- ‌الفصل الثالث مناقبه، وثناء العلماء عليه

- ‌أولاً: مناقبه وفضائله:

- ‌ثانياً: ثناء الصحابة رضي الله عنه والسلف عليه:

- ‌ أبو بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم

- ‌ علي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌ أبو الدرداء رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن عباس رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن الزبير رضي الله عنه

- ‌ عبد الله بن عمر رضي الله عنه

- ‌ المسور بن مخرمة رضي الله عنه

- ‌ مجاهد بن جبر:

- ‌ محمد بن سيرين:

- ‌ محمد بن شهاب الزهري:

- ‌ أبو إسحاق السبيعي:

- ‌ سفيان الثوري:

- ‌ الفضيل بن عياض:

- ‌ شيخ الإسلام ابن تيْميَّة:

- ‌ الذهبي:

- ‌ ابن كثير:

- ‌المفاضلة بين معاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز:

- ‌أقوال السلف فيمن سبَّ معاوية رضي الله عنه

- ‌ عمر بن عبد العزيز:

- ‌ الحسن البصري:

- ‌ الإمام مالك:

- ‌ الإمام أحمد:

- ‌ شيخ الإسلام ابن تيْميَّة:

- ‌الفصل الرابع شبهاتٌ وردُود

- ‌الشُّبهة الأولى: الأحاديث الواردة في ذم معاوية رضي الله عنه

- ‌أ- حديث: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه -وفي لفظ: فارجموه

- ‌ب- حديث عبادة بن الصامت مرفوعا: «سيلي أموركم بعدي رجال يعرفونكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى، فلا تعتلوا بربكم»

- ‌جـ- حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كنتُ ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب، قال فجاء فحطأني حطأة(1)، وقال: اذهب وادع لي معاوية. قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية. قال: فجئت فقلت:

- ‌د- عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، وهو غائب،…، قالت: فلما حللتُ ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان، وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو جهم، فلا يضع عصاه عن عاتقه، وأما معاوية ف

- ‌الشبهة الثانية: تعامل معاوية رضي الله عنه بالربا:

- ‌الشبهة الثالثة: بيع معاوية رضي الله عنه الأصنام:

- ‌الشبهة الرابعة: سمُّ معاوية للحسن بن علي رضي الله عنه

- ‌الشبهة الخامسة: قتل معاوية لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد:

- ‌الشبهة السادسة: قتل معاوية للأشتر مالك بن الحارث النخعي:

- ‌الشبهة السابعة: قتل معاوية لحُجْر بن عدي

- ‌الشبهة الثامنة: لعنُ وسبُّ معاوية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه

- ‌الشبهة التاسعة: محاولة معاوية نقل منبر النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام:

- ‌الشبهة العاشرة: استلحاق معاوية رضي الله عنه زياد بن أبيه:

- ‌جريدة المصادر والمراجع

الفصل: ‌الشبهة السابعة: قتل معاوية لحجر بن عدي

‌الشبهة السابعة: قتل معاوية لحُجْر بن عدي

(1)

:

أما حُجْر نفسه: فقد اختلف العلماء في صحبته، فمنهم من عدَّه في الصحابة، كابن سعد، والزبيري، ومنهم من عدَّه في التابعين، وهم الأكثر، كالبخاري، وأبي حاتم الرازي، وغيرهما.

قال الحافظ ابن حجر: «أما البُخارِيّ، وابن أبي حاتم، عَن أَبيه، وخليفة بن خيَّاط، وابن حبان فذكروه في التابعين، وكذا ذكره ابن سَعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة، فإما أن يكون ظنه آخر، وإما أن يكون ذهل»

(2)

.

وقال ابن كثير: «ذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة من الصحابة، وذكر له وفادة، ثم ذكره في الأولى من تابعي أهل الكوفة قال: وكان ثقة معروفا، ولم يرو عن غير علي شيئا.

وقال أبو أحمد العسكري: أكثر المحدثين لا يصححون له صحبة، شهد القادسية، وافتتح مرج عذراء، وشهد الجمل وصفِّين، وكان مع علي حجر الخير، وهو حجر بن عدي هذا، وحجر الشر، وهو حجر بن يزيد بن سلمة بن مرة»

(3)

.

وأما عن قصة مقتله: فقد ثبت عند أهل التاريخ أن معاوية رضي الله عنه أمر بقتله، ولم ينازع في ذلك أحد، لكن تفاصيل ذلك: وردت به أخبار ضعيفة، بل كثير منها واهي الإسناد

(4)

، ولذا فسأقتصر هنا على إيراد أصح ما وقفتُ عليه في قصته، مع ذكر أقوال العلماء في ذلك، لتبيين حجة معاوية رضي الله عنه في قتله.

البداية كانت بتعرض حُجر لزياد -والي معاوية على الكوفة- وهو على المنبر.

(1)

قال ابن كثير في البداية والنهاية (11/ 227): "ويقال له: حجر الخير. ويقال له: حجر بن الأدبر. لأن أباه عديا طعن موليا فسمي الأدبر، ويكنى حجر بأبي عبد الرحمن، وهو من كندة من رؤساء أهل الكوفة".

(2)

الإصابة (2/ 485).

(3)

البداية والنهاية (11/ 228).

(4)

انظر: تاريخ الطبري (5/ 253 - 271)، مرويات خلافة معاوية (ص: 340).

ص: 279

فعن محمد بن سيرين، قال: «خطب زياد يوما في الجمعة، فأطال الخطبة وأخَّر الصلاة، فقال له حجر بن عدي: الصلاة! فمضى في خطبته، ثم قال: الصلاة! فمضى في خطبته، فلما خشي حجر فوت الصلاة ضرب بيده إلى كف من الحصا، وثار إلى الصلاة وثار الناس معه، فلما رأى ذلك زياد نزل فصلى بالناس، فلما فرغ من صلاته كتب إلى معاوية في أمره، وكثر عليه

(1)

.

فكتب إليه معاوية أن شده في الحديد، ثم احمله إليَّ، فلما أن جاء كتاب معاوية أراد قوم حجر أن يمنعوه، فقال: لا، ولكن سمع وطاعة، فشد في الحديد، ثم حمل إلى معاوية، فلما دخل عليه قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له معاوية: أمير المؤمنين! أما والله لا أقيلك ولا أستقيلك، أخرجوه فاضربوا عنقه»

(2)

.

هذه الرواية بيَّنت سبب مقتل حجر، وأنه أظهر اعتراضا على زياد، ويبدو أنه لم تكن هذه المرة فقط، فلا يُتصوَّر أن يكتب زياد إلى معاوية، ويأمر بإرساله في الحديد، لموقف عابر، أو اعتراض قولي ظهر منه.

ولنا في خبر المسور بن مخرمة مع معاوية دلالة على ذلك، فقد تقدَّم أنه كان يطعن على معاوية والأئمة، ومع ذلك فمعاوية لم يتعرض له، وهو ما يؤكد لنا أن حُجرا لا بد أن يكون صدر منه ما فوق ذلك، لكن كثير من الروايات التي تتحدث عن أفعال حجر لا يستقيم إسنادها، ولذا لم أوردها.

كما أن هذه الرواية لا تذكر تفاصيل ما وقع بين معاوية وحجر عند قدومه عليه، لكن ذكرت رواية أخرى كيف أن معاوية تأنَّى في ذلك، واستشار الناس، وهو ما يتناسب مع عقل وحلم معاوية.

(1)

قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان (3/ 531): "وهو -أي: ابن زياد- الذي سعى في قتل حجر بن عَدِي ومن معه، وكلام كل من وقفت على كلامه من أهل العلم مصرح بأن زيادا تحامل عليه".

(2)

إسناده حسن إلى ابن سيرين: أخرجه الطبري في تاريخه (5/ 256 - 257)، وفي سنده مخلد بن الحسن، لا بأس به، كما في التقريب (6528).

ص: 280

فعن إسماعيل بن عياش، قال: حدثني شرحبيل بن مسلم قال: «لما بُعث بحجر بن عدي بن الأدبر وأصحابه من العراق إلى معاوية بن أبي سفيان؛ استشار الناس في قتلهم، فمنهم المشير ومنهم الساكت، فدخل معاوية إلى منزله، فلما صلَّى الظهر قام في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه ثم جلس على منبره، فقام المنادي فنادى: أين عمرو بن الأسود العنسي؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ألا إنا بحصن من الله حصين لم نؤمر بتركه، وقولك يا أمير المؤمنين في أهل العراق، ألا وأنت الراعي ونحن الرعية، ألا وأنت أعلمنا بدائهم وأقدرنا على دوائهم، وإنما علينا أن نقول:{سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} ، فقال معاوية: أما عمرو بن الأسود فقد تبرأ إلينا من دمائهم، ورمى بها ما بين عيني معاوية.

ثم قام المنادي فنادى: أين أبو مسلم الخولاني؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فلا والله ما أبغضناك منذ أحببناك، ولا عصيناك منذ أطعناك، ولا فارقناك منذ جامعناك، ولا نكثنا بيعتنا منذ بايعناك، سيوفنا على عواتقنا إن أمرتنا أطعناك، وإن دعوتنا أجبناك، وإن سبقتنا أدركناك، وإن سبقناك نظرناك، ثم جلس.

ثم قام المنادي فقال: أين عبد الله بن مخمر الشرعبي، فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: وقولك يا أمير المؤمنين في هذه العصابة من أهل العراق، إن تعاقبهم فقد أصبت وإن تعفو فقد أحسنت.

فقام المنادي فنادى: أين عبد الله بن أسد القسري؟ فقام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أمير المؤمنين! رعيتك وولايتك وأهل طاعتك، إن تعاقبهم فقد جنوا أنفسهم العقوبة، وإن تعفوا فإن العفو أقرب للتقوى، يا أمير المؤمنين! لا تطع فينا من كان غشوما لنفسه، ظلوما بالليل، نؤوما عن عمل الآخرة، يا أمير المؤمنين! إن الدنيا قد انخشعت أوتادها، ومالت بها عمادها، وأحبها أصحابها، واقترب منها ميعادها، ثم جلس.

ص: 281

فقلتُ (أي ابن عياش) لشرحبيل: فكيف صنع؟ قال: قتل بعضا، واستحيى بعضا، وكان فيمن قتل: حجر بن عدي بن الأدبر»

(1)

.

إذن فمعاوية رضي الله عنه استشار، ثم اجتهد، وأدَّاه هذا إلى قتل البعض، وترك الآخرين، وكان يخشى من ترك الجميع أن يكثر الشر والفساد، وتُسال الدماء، وقد أفصح عن تخوفه هذا في لقائه بأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

فعن ابن أبي مليكة: «أن معاوية جاء يستأذن على عائشة، فأبت أن تأذن له، فخرج غلام لها يُقال له ذكوان، قال: ويحك، أدخلني على عائشة، فإنها قد غضبت عليَّ، فلم يزل بها غلامها حتى أذنت له، وكان أطوع مني عندها، فلما دخل عليها قال: أمتاه! فيما وجدت عليَّ يرحمك الله؟ قالت: وجدتُ عليك في شأن حجر وأصحابه أنك قتلتهم، فقال لها: وأما حجر وأصحابه: فإني تخوَّفتُ أمراً وخشيت فتنة تكون تُهراق فيها الدماء، وتُستحل فيها المحارم، وأنت تخافيني، دعيني والله يفعل بي ما يشاء، قالت: تركتك والله، تركتك والله، تركتك والله»

(2)

.

(1)

إسناده حسن: أخرجه أحمد في مسائله (960 - رواية ابنه صالح)، وفي سنده إسماعيل بن عياش، صدوق في روايته عن أهل بلده، مخلط في غيرهم، كما في التقريب (473)، وروايته هنا عن أهل بلده، فشرحبيل شيخه شامي، وهو صدوق فيه لين، كما في التقريب (2771).

(2)

أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 230)، وفي سنده عبيد الله بن أبي زياد، لم أستطع تحديده، وهناك اثنان بهذا الاسم، وهما من طبقة قريبة، أحدهما: الرصافي، صدوق، والآخر: القداح، ليس بالقوي، كما في التقريب (4291، 4292).

ص: 282

وفي رواية أخرى: عن أيوب السختياني، عن عبد الله بن أبي مليكة أو غيره

(1)

: «لما قدم معاوية دخل على عائشة، فقالت: أقتلتَ حُجرا؟! قال: يا أم المؤمنين! إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس خير من استحيائه في فسادهم»

(2)

.

فالخلاصة: أن هذا أمر اجتهد فيه معاوية، فإن أصاب: فله أجران، وإن أخطأ: فقد أخطأ أسامة بن زيد قبل ذلك في قتل الرجل الذي قتل المسلمين، ثم نطق بالشهادتين قبل أن يقتله أسامة

(3)

.

(1)

الشك من إسماعيل بن إبراهيم بن علية، الراوي عن أيوب.

(2)

في إسناده ضعف: أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق (12/ 229)، وفي سنده أبو عبد الله البلخي، الحسين بن محمد بن خسرو، شيخ ابن عساكر، قال عنه الحافظ في لسان الميزان (3/ 208): وترجمه أبو سعد بن السمعاني في ذيل بغداد فقال: البلخي السمسار أبو عبد الله، مفيد بغداد في عصره سمع الكثير. وسألت أبا القاسم -يعني: ابن عساكر- عنه؛ فقال: سمع الكثير، غير أنه ما كان يعرف شيئا. وسألت ابن ناصر عنه؛ فقال: كان فيه لين، وكان حاطب ليل ويذهب إلى الاعتزال".

(3)

أخرج البخاري (4269)، ومسلم (96) عن أسامة بن زيد قال:"بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفَّ عنه الأنصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته، قال: فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال: قلت: يا رسول الله، إنما كان متعوذا، قال: فقال: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ قال: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم".

ص: 283

قال ابن العربي: «فإن قيل: قَتَلَ حُجر بن عدي -وهو من الصحابة

(1)

مشهور بالخير- صبرًا أسيرًا، قلنا: علمنا قتل حجر كلنا، واختلفنا: فقائل يقول: قتله ظلمًا، وقائل يقول: قتله حقًا

(2)

.

فإن قيل: الأصل قتله ظلمًا إلا إذا ثبت عليه ما يوجب قتله؛ قلنا: الأصل أن قتل الإمام بالحق، فمن ادَّعى أنه بالظلم فعليه الدليل. ولو كان ظلمًا محضًا لما بقي بيت إلا لُعن فيه معاوية، وهذه مدينة السلام، دار خلافة بني العباس -وبينهم وبين بني أمية ما لا يخفى على الناس- مكتوبٌ على أبواب مساجدها: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم معاوية خال المؤمنين رضي الله عنهم.

(1)

تقدَّم النزاع في إثبات صحبته، وأن الأكثرين على عدم ثبوتها.

(2)

قال الشيخ محب الدين الخطيب في حاشيته على الكتاب عند هذا الموضع: "فالذين يريدون أن معاوية قتله بحق يقولون: ما من حكومة في الدنيا تعاقب بأقل من ذلك من يحصب أميره وهو قائم يخطب على المنبر في المسجد الجامع، مندفعا بعاطفة الحزبية.

والذين يعارضونهم يذكرون فضائل حجر ويقولون: كان ينبغي لمعاوية أن لا يخرج عن سجيته من الحلم وسعة الصدر لمخالفيه.

ويجيبهم الآخرون بأن معاوية يملك الحلم وسعة الصدر عند البغي عليه في شخصه، فأما البغي على الجماعة في شخص حاكمها وهو على منبر المسجد؛ فهو ما لا يملك معاوية أن يتسامح فيه، ولا سيما في مثل الكوفة التي أخرجت العدد الأكبر من أهل الفتنة الذين بغوا على عثمان بسبب مثل هذا التسامح، فكبدوا الأمة من دمائها وسمعتها وسلامة قلوبها ومواقف جهادها تضحيات غالية، كانت في غنى عنها لو أن هيبة الدولة حفظت بتأديب عدد قليل من أهل الرعونة والطيش في الوقت المناسب.

والواقع أن معاوية كان فيه من حلم عثمان وسجاياه، إلا أنه في مواقف الحكم كان يتبصر في عاقبة عثمان وما جر إليه تمادي الذين اجترأوا عليه".

ص: 284