الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث مناقبه، وثناء العلماء عليه
أولاً: مناقبه وفضائله:
لا يكاد أحدٌ يفتح هذا الباب، باب مناقب معاوية رضي الله عنه وما ورد في فضله، إلا ويفجأه بعض الأقوال التي تسدُّ عليه الباب قبل أن يفتحه، وتقطع عليه الطريق قبل أن يبدأه! ومنها:
1 -
قول إمام من أئمة الحديث، وأحد أهم شيوخ الإمام البخاري، وهو إسحاق بن راهويه:«لا يصح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في فضل معاوية بن أبى سفيان شيء»
(1)
! وقد تابعه على هذا القول جماعةٌ بعده.
2 -
وقول الحافظ ابن حجر: «وقد ورد في فضائل معاوية رضي الله عنه أحاديث كثيرة، لكن ليس فيها ما يصح من طريق الإسناد»
(2)
.
3 -
وصنيع الإمام البخاري في صحيحه، حيث قال:«باب ذكر معاوية» ، ولم يقل:«فضائل أو مناقب معاوية» .
والجواب عن هذه الأقوال فيما يلي:
أولاً: أن مقولة إسحاق في ثبوتها عنه شكّ، فالإسناد إليه فيه ضعف
(3)
.
ثانياً: وإن ثبتت عنه، فهي وقول الحافظ ابن حجر، ومن سار على نهجهما؛ من قبيل الاجتهاد، وهذا يقابله اجتهاد علماء آخرين صحَّحوا بعض الأحاديث في فضائل معاوية، ومنهم:
أ- الإمام ابن أبي عاصم: حيث صنَّف كتابا في فضائل معاوية رضي الله عنه.
(1)
المغني عن الحفظ والكتاب لأبي حفص الموصلي (ص: 165)، سير أعلام النبلاء (3/ 132).
(2)
فتح الباري (7/ 104).
(3)
هذه المقولة أخرجها ابن الجوزي في الموضوعات (2/ 24)، والشوكاني في الفوائد المجموعة (ص: 407) -تعليقا-؛ من طريق الحاكم، قال: سمعتُ أبا العباس محمد بن يعقوب بن يوسف، يقول: سمعت أبي، يقول: سمعت إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول: الأثر المذكور.
وسقط من المطبوع في الفوائد ذكر والد محمد بن يعقوب.
ومحمد بن يعقوب أبو الفضل النيسابوري هذا: ترجم له الخطيب في تاريخ بغداد (14/ 287)، وكذلك ابن عساكر في تاريخ دمشق (74/ 180)، ولم يذكرا فيه جرحا ولا تعديلاً، فهو بمثابة مجهول الحال.
قال الحافظ ابن حجر: «وقد صنف ابن أبي عاصم جزءا في مناقبه، وكذلك أبو عمر غلام ثعلب
(1)
، وأبو بكر النقاش»
(2)
.
ب- الإمام الآجرِّي: حيث عقد فصلا في كتابه الشريعة بعنوان: «كتاب فضائل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه»
(3)
، ثم ساق تحته عدةَ أحاديث في فضل معاوية.
جـ- الحافظ اللالكائي: حيث عقد فصلا في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة بعنوان: «سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضائل أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما»
(4)
، ثم ساق تحته عدةَ أحاديث في فضل معاوية.
د- الحافظ ابن عساكر: حيث قال بعد إيراد مقولة إسحاق السابقة: «وأصح ما روي في فضل معاوية: حديث أبي حمزة عن ابن عباس أنه كاتب النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرجه مسلم في صحيحه، وبعده حديث العرباض: اللهم علمه الكتاب، وبعده حديث ابن أبي عميرة: اللهم اجعله هاديا مهديا»
(5)
.
ه- الإمام الذهبي: حيث ذكر أحاديث في فضل معاوية رضي الله عنه، وعقَّب بعد ذلك بقوله:«فهذه أحاديث مقاربة»
(6)
.
(1)
جاء في ترجمة محمد بن عبد الواحد، أبو عمر اللغوي الزاهد، المعروف بـ غلام ثعلب، المتوفي سنة 345 هـ، في طبقات الحنابلة (2/ 68):"أن الأشراف والكتَّاب وأهل الأدب كانوا يحضرون عنده ليسمعوا منه كتب ثعلب وغيرها، وكان له جزء قد جمع فيه الأحاديث التي تروى في فضائل معاوية، فكان لا يترك أحدا منهم يقرأ عليه شيئا حتى يبدأ بقراءة ذلك الجزء، ثم يقرأ بعده ما قصد له"!
(2)
فتح الباري (7/ 104).
(3)
الشريعة (5/ 2431).
(4)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (8/ 1524).
(5)
تاريخ دمشق (59/ 106)، وسيأتي تخريج هذه الأحاديث قريبا إن شاء الله.
(6)
سير أعلام النبلاء (3/ 127).
و- الحافظ ابن كثير: حيث قال بعد إيراد بعض الأحاديث في فضل معاوية، والتنبيه على بعض الضعيف:«واكتفينا بما أوردناه من الأحاديث الصحاح والحسان والمستجادات، عما سواها من الموضوعات والمنكرات»
(1)
.
ز- ابن حجر الهيتمي: حيث عقد فصلا في كتابه: تطهير الجنان، بعنوان:«الفصل الثاني: في فضائله ومناقبه وخصوصاته وعلومه واجتهاده»
(2)
.
حـ- علماء الحديث الذي صحَّحوا بعض الأحاديث في فضل معاوية رضي الله عنه، وسيأتي ذكر أسمائهم عند ذكر هذه الأحاديث إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: أن العلماء الذين نفوا صحة الأحاديث في فضل معاوية؛ إنما يعنون الأحاديث الخاصة، أما الأحاديث العامة في فضل الصحابة، فمعاوية رضي الله عنه داخل فيها بلا شكٍّ.
يقول الإمام ابن القيم -تعليقا على قول إسحاق السابق-: «ومراده ومراد من قال ذلك من أهل الحديث: أنه لم يصح حديث في مناقبه بخصوصه، وإلا فما صح عندهم في مناقب الصحابة على العموم، ومناقب قريش؛ فمعاوية رضي الله عنه داخل فيه»
(3)
.
وعلَّق الشيخ بكر أبو زيد على كلام ابن القيم بقوله: «لا يَغابُ عنك هذا القيد: على وجه الخصوص»
(4)
.
وقال الشيخ المعلمي -مُعلِّقا على كلام إسحاق ومن تابعه-: «هذا لا ينفي الأحاديث الصحيحة التي تشمله وغيره، ولا يقتضى أن يكون كل ما روي في فضله خاصة مجزوماً بوضعه»
(5)
.
رابعاً: أن عدم وجود أحاديث صحيحة في فضل معاوية -إن ثبت هذا- فهو فضيلة للصحابة كلهم عامة، ولمعاوية خاصة، فإنه مع كونه خليفة للمسلمين مدة عشرين عاما، لم يجامله أحد الصحابة بوضع حديث في فضله، ولم يضع هو لنفسه حديثا فيه منقبة له، وقد كان غيره من الصحابة يُحدث بأحاديث فيها فضائل لنفسه؛ فتُقبل منه ولا يُتهم بها.
(1)
البداية والنهاية (11/ 409).
(2)
تطهير الجنان (ص: 46).
(3)
المنار المنيف (ص: 116).
(4)
التحديث بما قيل لا يصح فيه حديث (ص: 142).
(5)
الأنوار الكاشفة (ص: 92).
يقول المعلمي اليماني: «أما الصحابة رضي الله عنهم: ففي هذه القضية برهان على أنه لا مجال لاتهام أحد منهم بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك أن معاوية كان عشرين سنة أميراً على الشام، وعشرين سنة خليفة، وكان في حزبه وفيمن يحتاج إليه جمع كثير من الصحابة، منهم كثير ممن أسلم يوم فتح مكة أوبعده، وفيهم جماعة من الأعراب، وكانت الدواعي إلى التعصب له والتزلف إليه متوفرة، فلو كان ثم مساغ لأن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم أحد لقيه وسمع منه مسلماً؛ لأقدم بعضهم على الكذب في فضل معاوية وجهر بذلك. أما أعيان التابعين: فينقل ذلك جماعة ممن يوثقهم أئمة السنة فيصح عندهم ضرورة.
فإذا لم يصح خبر واحد: ثبت صحة القول بأن الصحابة كلهم عدول في الرواية، وأنه لم يكن منهم أحد -مهما خفت منزلته، وقوي الباعث له- محتملاً منه أن يكذب على النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما معاوية فكذلك، فعلى فرض أنه كان يسمح بأن يقع كذب على النبي صلى الله عليه وسلم ما دام في فضيلة له، وأنه لم يطمع في أن يقع ذلك من أحد غيره ممن له صحبة، أو طمع ولكن لم يجده ترغيب ولا ترهيب في حمل أحد منهم على ذلك، فقد كان في وسعه أن يحدث هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حدَّث عدد كبير من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفضائل لأنفسهم، وقبلها منهم الناس، ورووها وصححها أئمة السنة.
ففي تلك القضية برهان على أن معاوية كان من الدين والأمانة بدرجة تمنعه من أن يفكر في أن يكذب، أو يحمل غيره على الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، مهما اشتدت حاجته إلى ذلك.
ومن تدبَّر هذا: علم أن عدم صحة حديث عند أهل الحديث في فضل معاوية؛ أدلُّ على فضله من أن تصح عندهم عدة أحاديث»
(1)
.
(1)
الأنوار الكاشفة (ص: 92 - 93).
خامساً: وأما صنيع الإمام البخاري في صحيحه؛ فإنه لا يدل على ما ذهبوا إليه، ذلك أنَّ البخاري قد ترجم لصحابة آخرين ممن اشتُهر الثناء عليهم، وعلم بالتواتر علو منزلتهم ومكانتهم، وبوَّب لهم بنفس التبويب؛ ومن هؤلاء: طلحة بن عبيد الله، وأسامة بن زيد، وعبد الله بن عباس، فنجد البخاري في صحيحه يقول:«باب ذكر طلحة بن عبيد الله» ، «باب ذكر أسامة بن زيد» ، «باب ذكر عبد الله بن عباس» .
يقول الشيخ عبد العزيز بن أحمد الفريهاري
(1)
(2)
.
واستنبط الحافظ ابن حجر معنىً آخر من الترجمة فقال: «عبَّر البخاري في هذه الترجمة بقوله: ذكر، ولم يقل: فضيلة، ولا منقبة؛ لكون الفضيلة لا تؤخذ من حديث الباب، لأن ظاهر شهادة ابن عباس له بالفقه والصحبة دالة على الفضل الكثير»
(3)
.
ومع هذا كله:
فمن الإنصاف أن نقول: إن هناك عدداً كبيراً من الأحاديث الباطلة والضعيفة والموضوعة قد رُوي في فضل معاوية، وكأن هؤلاء أرادوا أن يواجهوا الهجوم الشرس عليه، فوضعوا تلك الأحديث له، وهو رضي الله عنه لا حاجة له بها، فقد أغناه الله عن كل هذا.
يقول الإمام ابن القيم: «ومن ذلك ما وضعه بعض جهلة أهل السنة في فضائل معاوية ابن أبي سفيان»
(4)
.
وقال الحافظ ابن حجر في ترجمة إسحاق بن محمد بن إسحاق السوسي: «ذاك الجاهل الذي أتى بالموضوعات السمجة في فضائل معاوية، رواها عُبَيد الله السقطي عنه
(5)
، فهو المتهم بها أو شيوخه المجهولون»
(6)
.
(1)
توفي سنة 1239 هـ.
(2)
الناهية عن طعن أمير المؤمنين معاوية (ص: 68).
(3)
فتح الباري (7/ 104).
(4)
المنار المنيف (ص: 116).
(5)
له جزء مخطوط بعنوان: "فضائل أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان".
(6)
لسان الميزان (2/ 75).
وقد أكثر الحافظ ابن عساكر من ذكر هذه الأحاديث الباطلة في ترجمة معاوية رضي الله عنه في تاريخ دمشق، وانتقده العلماء على ذلك، مع أنه ليس المتهم بها، إنما فقط نقلها بأسانيدها، وَبَرِأَ من عهدتها.
قال الذهبي: «وقد ساق ابن عساكر في الترجمة أحاديث واهية وباطلة، طوَّل بها جدا»
(1)
.
وقال بعد أن ذكر طائفة منها: «فهذه الأحاديث ظاهرة الوضع، والله أعلم»
(2)
.
(3)
.
وقال في موطن آخر: «وقد أورد ابن عساكر بعد هذا أحاديث كثيرة موضوعة، والعجب منه -مع حفظه واطلاعه- كيف لا ينبه عليها وعلى نكارتها وضعف رجالها؟! والله الموفق للصواب»
(4)
.
وقال أيضا -بعد توهينه لحديث ذكره ابن عساكر في فضل معاوية-: «والعجب من الحافظ ابن عساكر مع جلالة قدره واطلاعه على صناعة الحديث أكثر من غيره من أبناء عصره - بل ومن تقدمه بدهر - كيف يورد في تاريخه هذا وأحاديث كثيرة من هذا النمط، ثم لا يبين حالها، ولا يشير إلى شيء من ذلك إشارة لا ظاهرة، ولا خفية؟! ومثل هذا الصنيع فيه نظر. والله أعلم»
(5)
.
قلتُ (أحمد): ولعلَّ عذر ابن عساكر رحمه الله في ذلك: أنه أسند كل قول إلى قائله، وكانت هذه عادة كثير من المحدِّثين، عملا بمقولة:«من أسند لك فقد أحالك» !
ونأتي الآن إلى بيت القصيد، وهو: الحديث عن فضائله ومناقبه، فنقول:
معاوية رضي الله عنه معدودٌ بلا شكٍّ في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر لا يحتاج إلى تدليل، لكننا نزيده تأكيدا بما يلي:
(1)
سير أعلام النبلاء (3/ 127).
(2)
المصدر السابق (3/ 131).
(3)
البداية والنهاية (11/ 409).
(4)
المصدر السابق (11/ 404).
(5)
البداية والنهاية (8/ 356).
- عن عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، قال:«أوتر معاوية بعد العشاء بركعة، وعنده مولى لابن عباس، فأتى ابن عباس فقال: دعه، فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
- وعن حمران بن أبان، يحدث عن معاوية، قال:«إنكم لتصلون صلاة لقد صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيناه يصليها، ولقد نهى عنهما -يعني: الركعتين بعد العصر-»
(2)
.
- وقام معاوية رضي الله عنه خطيباً ذات يوم، فقال:«ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه»
(3)
.
- وعن مهنا قال: «سألت أحمد عن معاوية بن أبي سفيان، فقال: له صحبة. قلت: من أين هو؟ قال: مكيٌّ قطن الشام»
(4)
.
إذن: فمعاوية رضي الله عنه من الصحابة بلا شك
(5)
، والآيات والأحاديث الواردة في فضل الصحابة والثناء عليهم على قسمين:
القسم الأول: آياتٌ وأحاديث عامَّة في فضل الصحابة جميعا رضي الله عنه، وهذه كثيرة معلومة، بل قد بلغت حد التواتر.
يقول شيخُ الإسلامِ ابنُ تيْميَّة -بعد ذكر بعض الأدلة الواردة في فضلهم-: «وهذه الأحاديث مستفيضةٌ، بل متواترةٌ في فضائل الصحابة والثناء عليهم وتفضيل قرنهم على من بعدهم من القرون، فالقدح فيهم قدح في القرآن والسنة»
(6)
.
وقد صَنِّف العلماء في ذلك الأمر قديما وحديثا
(7)
.
(1)
صحيح البخاري (3764).
(2)
صحيح البخاري (587).
(3)
صحيح مسلم (1587).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه الخلال في السنة (653).
(5)
وانظر للمزيد عن حدِّ الصحبة، وشروطها، وتعريفها: فتح الواحد العليِّ في الدفاع عن صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، للشيخ عبد الله السعد (ص: 18 - 39).
(6)
مجموع الفتاوى (4/ 430).
(7)
انظر: عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام رضي الله عنهم، لناصر بن علي (1/ 55 - 112).
وأكتفي في هذا المقام بذكر شاهدين من القرآن، لأن فيهما رداً ضمنياً على بعض من يطعنون في صحبة معاوية رضي الله عنه، وهما: قول الله تعالى:
فبعض من يطعنون في صحبة معاوية يتهمونه بأنه لا يدخل في النصوص الواردة في حق الصحابة، لأنه أسلم بعد الفتح
(1)
! وهذه الآية خير ردٍّ عليهم، فإن الله عز وجل وعد الطائفتين -من أسلم قبل الفتح، ومن أسلم بعد الفتح- الحسنى، وهي: الجنة
(2)
.
فهذه الآية نزلت في شأن المؤمنين الذين حاربوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، وكان منهم طائفة كثيرة من مسلمة الفتح، ومنهم معاوية رضي الله عنه.
(3)
.
(1)
وقد تقدَّم في صدر الكتاب ذكر الخلاف في وقت إسلامه.
(2)
تفسير الطبري (23/ 177).
(3)
مجموع الفتاوى (4/ 459).
القسم الثاني: ما ورد في شأن طائفة خاصَّة منهم، أو أفراد بأعيانهم، وهذا ما يعنينا في هذا المقام، لأنه محل البحث، وموطن النزاع.
وهذا القسم الثاني يمكن تقسيمه هو أيضا إلى صنفين من الأدلة:
الصنف الأول: ما ورد بخصوص طائفة معينة من الصحابة، ومعاوية رضي الله عنه داخل معهم، ومن ذلك:
أ- حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا
(1)
»، قالت أم حَرَام بنت ملحان -خالة أنس بن مالك-: قلتُ: يا رسول الله! أنا فيهم؟ قال: «أنت فيهم» ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم:«أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم» ، فقلت: أنا فيهم يا رسول الله؟ قال: «لا»
(2)
.
فهذا الجيش الذي غزا البحر كان معاوية منهم، بل هو أميرهم، فهو داخل في هذا النص وهذا الثواب، إن شاء الله تعالى
(3)
.
قال الحافظ ابن حجر: «قال المهلب: في هذا الحديث منقبة لمعاوية؛ لأنه أول من غزا البحر»
(4)
.
ب- حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وتكون بينهما مقتلة عظيمة ودعواهما واحدة»
(5)
.
فهذه شهادة نبوية لمعاوية ومن معه أنهم كطائفة علي بن أبي طالب ومن معه، على الإسلام والإيمان، ولهما دعوى واحدة.
قال النووي: «وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون، لا يخرجون بالقتال عن الإيمان ولا يفسقون»
(6)
.
(1)
أوجبوا: أي فعلوا فعلا وجبت لهم به الجنة، كما في فتح الباري (6/ 103).
(2)
متفق عليه: أخرجه البخاري (2924) -واللفظ له-، ومسلم (1912).
(3)
انظر بعض الشبهات حول هذا الحديث والرد عليها في: سل السنان (ص: 217 - 234).
(4)
فتح الباري (6/ 102).
(5)
متفق عليه: أخرجه البخاري (6935)، ومسلم (157)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(6)
شرح صحيح مسلم (7/ 168).
وقال ابن كثير: «فيه الحكم بإسلام الطائفتين: أهل الشام، وأهل العراق، لا كما يزعمه فرقة الرافضة، أهل الجهل والجور، من تكفيرهم أهل الشام»
(1)
.
ويتأكَّدُ هذا المعنى بالحديث القادم:
جـ- حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن حفيده الحسن بن علي: «ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»
(2)
.
فهذا تأكيد على إسلام معاوية ومن معه، وأنه لا يخرجهم ما صدر منهم عن دائرة الإسلام والإيمان.
(3)
.
د- عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته يقول:«إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» ، قال: ثم تكلم بكلام خفي عليَّ، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلهم من قريش»
(4)
.
وفي لفظ آخر للحديث: «لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة»
(5)
.
(1)
البداية والنهاية (10/ 563).
(2)
تقدَّم تخريجه.
(3)
فتح الباري (13/ 66).
(4)
متفق عليه: أخرجه البخاري (7222)، ومسلم (1821) -واللفظ له-.
(5)
سنن أبي داود (4280).
فظاهر هذا الحديث يدخل فيه معاوية رضي الله عنه، وذلك أنه قرشي وتولى الملك، وكان الدين في زمنه عزيزاً منيعاً، فهذا الحديث ينطبق عليه، خاصة في الرواية الأخرى:«لا يزال هذا الأمر -وفي رواية الإسلام- عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» . فظاهر هذه الرواية أن هذه العزة والمنعة من أول خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أبو بكر رضي الله عنه، إلى اثني عشر خليفة، فيكون معاوية داخلاً فيهم، وخاصة أنه بويع من جميع المسلمين، وسمي هذا العام بعام الجماعة كما هو معلوم
(1)
.
(2)
.
وقال الحافظ ابن حجر: «وإيضاح ذلك أن المراد بالاجتماع: انقياد الناس لبيعته، والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، إلى أن وقع أمر الحكمين في صفِّين فسمي معاوية يومئذ بالخلافة، ثم اجتمع الناس على معاوية عند صلح الحسن
…
»
(3)
.
الصنف الثاني: ما ورد في فضل معاوية رضي الله عنه خاصة، ومن ذلك:
- دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لمعاوية: «اللهم اجعله هاديا مهديا، واهد به»
(4)
.
(1)
فتح الواحد العلي (ص: 71).
(2)
إكمال المعلم (6/ 217).
(3)
فتح الباري (13/ 214).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه أحمد (17895)، والبخاري في التاريخ الكبير (7/ 327)، والترمذي (3842)، والخطيب في تاريخ بغداد (1/ 222)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (59/ 80 - 86)، وغيرهم، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة رضي الله عنه.
وهذا الحديث وإن كان قد تُكلِّم فيه
(1)
، إلا أن الراجح -والله أعلم- صحته، وقد صحَّحه جمعٌ من العلماء؛ منهم: الترمذي
(2)
، والجورقاني
(3)
، والذهبي
(4)
، وابن كثير
(5)
، والألباني
(6)
.
- ومن مناقبه الخاصَّة أيضاً: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اختاره ليكون أحد كتبة الوحي، وقد تقدَّم تفصيل ذلك وأدلته في الفصل الأول.
- ومن مناقبه: أنه خال المؤمنين، وصهر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:
(7)
.
(1)
وممن تصدَّى للردِّ عن الطعون في هذا الحديث: الشيخ الألباني في سلسلته الصحيحة (4/ 615 - 618)، والشيخ سعد السبيعي في كتابه سلِّ السنان (ص: 208 - 216)، فانظره هناك فإنه قد أجاد وأفاد.
(2)
فقد أخرج الحديث في جامعه، وقال عقبه:"هذا حديثٌ حسنٌ غريب".
(3)
قال عنه في الأباطيل والمناكير (1/ 242 - 243): "هذا حديثً حسن".
(4)
قال عن سنده في تلخيص العلل المتناهية (ص: 93): "وهذا سند قويّ".
(5)
أورد له طرقا في البداية والنهاية (11/ 406 - 409)، ثم ختمها بطريق منقطع وقال:"وهذا منقطع يقويه ما قبله".
وقال مثنيا على تتبع ابن عساكر لطرقه: "وقد اعتنى ابن عساكر بهذا الحديث، وأطنب فيه وأطيب وأطرب، وأفاد وأجاد، وأحسن الانتقاد، فرحمه الله، كم له من موطن قد برز فيه على غيره من الحفاظ والنقاد".
(6)
أورد الحديث في السلسة الصحيحة (4/ 618)، وقال عقب تخريجه وذكر طرقه:"وبالجملة فالحديث صحيح، وهذه الطرق تزيده قوة على قوة".
(7)
تنزيه خال المؤمنين معاوية بن أبي سفيان من الظلم والفسق في مطالبته بدم أمير المؤمنين عثمان (ص: 106).
وجديرٌ بالذكر هنا أن العلماء اختلفوا في هذه المسألة أعني: إطلاق خال المؤمنين على إخوة أمهات المؤمنين، بين مانع ومجيز.
قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4/ 369 - 370): "ولما كُنَّ -أي: زوجات النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الأمهات في حكم التحريم دون المحرمية؛ تنازع العلماء في إخوتهن: هل يقال لأحدهم خال المؤمنين؟ فقيل: يقال لأحدهم خال المؤمنين، وعلى هذا فهذا الحكم لا يختص بمعاوية، بل يدخل في ذلك عبد الرحمن ومحمد ولدا أبي بكر، وعبد الله وعبيد الله وعاصم أولاد عمر، ويدخل في ذلك عمرو بن الحارث بن أبي ضرار أخو جويرية بنت الحارث، ويدخل في ذلك عتبة بن أبي سفيان ويزيد بن أبي سفيان أخوا معاوية.
ومن علماء السنة من قال: لا يطلق على إخوة الأزواج أنهم أخوال المؤمنين; فإنه لو أطلق ذلك لأطلق على أخواتهن أنهن خالات المؤمنين. ولو كانوا أخوالا وخالات لحرُم على المؤمنين أن يتزوج أحدهم خالته، وحرم على المرأة أن تتزوج خالها.
وقد ثبت بالنص والإجماع أنه يجوز للمؤمنين والمؤمنات أن يتزوجوا أخواتهن وإخوتهن، كما تزوج العباس أم الفضل أخت ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، وولد له منها عبد الله والفضل وغيرهما، وكما تزوج عبد الله بن عمر وعبيد الله ومعاوية وعبد الرحمن بن أبي بكر ومحمد بن أبي بكر من تزوجوهن من المؤمنات. ولو كانوا أخوالا لهن لما جاز للمرأة أن تتزوج خالها.
قالوا: وكذلك لا يطلق على أمهاتهن أنهن جدات المؤمنين، ولا على آبائهن أنهم أجداد المؤمنين، لأنه لم يثبت في حق الأمهات جميع أحكام النسب، وإنما ثبت الحرمة والتحريم. وأحكام النسب تتبعض، كما يثبت بالرضاع التحريم والمحرمية، ولا يثبت بها سائر أحكام النسب، وهذا كله متفق عليه.
والذين أطلقوا على الواحد من أولئك أنه خال المؤمنين لم ينازعوا في هذه الأحكام، ولكن قصدوا بذلك الإطلاق أن لأحدهم مصاهرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية رضي الله عنه، كما اشتهر أنه كاتب الوحي، وقد كتب الوحي غيره، وأنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أردف غيره.
فهم لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به، بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه".
وقال الشيخ بكر أبو زيد في معجم المناهي اللفظية (ص: 240): في إطلاق ذلك على إخوان زوجات النبي صلى الله عليه وسلم قولان للعلماء: المنع، والجواز، وحكاهما الكرماني في شرح البخاري، ولم يرجح".
وانظر: تنزيه خال المؤمنين معاوي لأبي يعلى الفراء (ص: 106 - 110)، تهذيب الأسماء واللغات للنووي (1/ 41)، المنتقى من منهاج الاعتدال للذهبي (ص: 245).
(1)
.
وقال أبو بكر المرُّوذِي: «سمعت هارون بن عبد الله، يقول لأبي عبد الله -يعني: الإمام أحمد-: جاءني كتاب من الرقة أن قوما قالوا: لا نقول: معاوية خال المؤمنين، فغضب وقال: ما اعتراضهم في هذا الموضع؟! يجفون حتى يتوبوا»
(2)
.
ولما سئل الإمام أحمد عمَّن يقول: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي، ولا أقول إنه خال المؤمنين، فإنه أخذها بالسيف غصبا؟ قال:«هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ونبين أمرهم للناس»
(3)
.
وقال عبد الملك بن عبد الحميد الميموني: «قلتُ لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي؟ قال: بلى، قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم، له صهر ونسب.
قال: وسمعت ابن حنبل يقول: ما لهم ولمعاوية؟! نسأل الله العافية»
(4)
.
فإن قال قائل: قد كتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ غير معاوية، وكان هناك إخوة لأمهات المؤمنين قد يُطلق عليهم:«خال المؤمنين» غير معاوية، وكان هناك أصهار له غير معاوية؛ فما وجه اختصاصه بذلك؟
والجواب عن ذلك: أنهم «لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به، بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه.
(1)
السنة للخلال (657).
(2)
السنة للخلال (658).
(3)
إسناده صحيح: أخرجه الخلال في السنة (659).
(4)
إسناده صحيح: أخرجه الخلال في السنة (654).