الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قلت: وما تحكم به شريعة الإنصاف أن الأمر بين تَضْيِيْقِ الحنفية وتوسيعِ البخاري فينبغي أن يُعْتَبَر بالجهلِ أكثر مما اعْتَبَرَ به الحنفية رحمهم الله تعالى، وأن لا يُوَسَّع فيه كما وَسَّعَ البخاري رحمه الله تعالى. ثم إن الحنفية عدُّوه عذرًا عند ذكر عوارض الأهلية في أصول الفقه، وأَخْمَلُوا ذكرَه في كتب الفقه، والأحاديث مشحونة بكونه عذرًا. فكان المناسب أن يستعملوه في فقههم ويَعْتَبِرونه عُذْرًا في مسائلهم أيضًا، لا سيما في عهده صلى الله عليه وسلم فإنه كان زمان انعقاد الشريعة، والقومُ أُمِيُّون إذ ذاك وكم من أشياء تُتَحَمَّل في الابتداء ولا تُتَحَمَّل فيما بعد، وليس هذا تغييرُ مسألةٍ مِنِّي بل هو تغييرُ تَعْبِيرٍ وعنوانٍ، فإنه لو عَمَّمْتَ اعتبارَ الجهل في ظَرْفٍ فقد قَصَرْتَه على عهده صلى الله عليه وسلم من طرفٍ آخر، فصارَ مآلُهُ أنه غير مُعْتَبَر بعدَه صلى الله عليه وسلم إلا بقدرِ ما اعتبره فقهاؤُنا.
وهذه الواقعة واقعة عهده صلى الله عليه وسلم فلو اعتبرناه عذرًا ونفينا عنه الجزاء والإثم لا يكون خلافًا للمذهب فإن مسألة إيجاب الجزاء على من خالف الترتيب لمن كان بعد عهدِهِ صلى الله عليه وسلم ولا تجري على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وإنما كان الصحابة في عهد النبوة فالمسائل المبسوطةُ في فقهنا لمن أراد اقتداء الإمام الهُمَام لا للصحابة الكرام. نعم فيه نفع وهو أنه لا نحتاج في الحديث إلى تأويل، ونخرج عنه كَفَافًا.
ونِعْمَ ما قال الغزالي رحمه الله تعالى: أن الخبر الواحد كان نَاسِخًا للقاطعِ في زمنه صلى الله عليه وسلم لأنه كان عندهم ذريعة التحقيق، ولذا تَحوَّلوا إلى بيت الله يخبر الواحد فإنّه كان عندهم خبره من قبل وكان الزمان زمان الرسالة، فأمكن تحقيقه أيضًا. أما فيما بعده فلا سبيل إلى تحقيق الخبر وتَثْبِيْتِهِ فيبقى ظَنِّيًا فلا يكون ناسخًا، فكما فَصَّل الغزالي رحمه الله تعالى في نسخ القاطع بِخَبَرِ الواحدِ وفَرَّقَ بين عهده صلى الله عليه وسلم وبعدَ عَهدِهِ، كذلك فَصَّلْتُ في عبرةِ الجهلِ. وهذا تَصَرُّفٌ عقليٌّ اعتبرناه لنستريح عن الجواب والله أعلم بالصواب.
25 - باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ
84 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ فِى حَجَّتِهِ فَقَالَ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِىَ، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ وَلَا حَرَجَ. قَالَ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ وَلَا حَرَجَ. أطرافه 1721، 1722، 1723، 1734، 1735، 6666 - تحفة 5999
85 -
حَدَّثَنَا الْمَكِّىُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ أَخْبَرَنَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِى سُفْيَانَ عَنْ سَالِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ» . قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْهَرْجُ فَقَالَ هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ الْقَتْلَ. أطرافه 1036، 1412، 3608، 3609، 4635، 4636، 6037، 6506، 6935، 7061، 7115، 7121 - تحفة 12912
يعني به أن الإشارة هل هي معتبرةٌ أم لا؟ فالمصنِّف رحمه الله تعالى جعل الإشارة والكلام في باب الطلاق سواء، وعَرَضَ إلينا بعدم اعتبارِها.
قلت: إنما ننكر الإشارة في المعاملات والحُكْم دون الأمور الأُخَر، ولم يأت المصنِّف رحمه الله تعالى بشيء يدلُّ على عِبْرَتِهَا في الحُكْم، وما ذكره ليس من باب الحُكْم بل من باب الفتوى فلو اعتمد أحدٌ على أحدٍ فذا جائز له، وإن أراد أن يُلْزِمَ عليه حجةً فكلا. والبخاري يجعلها حجةً في أبوابٍ شتّى كما سيجيء، وما استُدِلَّ به كلِّه في الأمور البَيْنِية دون الحُكْم فلا تقومُ حجةٌ علينا. وفي:«الأشباه والنظائر» أنه لو قال رجلٌ لجماعةٍ: من كان منكم طلْقَ امرأتَهُ فَلْيَنْكُسُ رأسه فَنَكَسُوا رؤوسهم، لا تَطْلُقُ امرأةُ واحدٍ منهم؛ وهذا لأن الإشارة لم تعد حجة عندنا.
86 -
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ أَتَيْتُ عَائِشَةَ وَهِىَ تُصَلِّى فَقُلْتُ مَا شَأْنُ النَّاسِ فَأَشَارَتْ إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ، فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ. قُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا، أَىْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلَاّنِى الْغَشْىُ، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِى الْمَاءَ، فَحَمِدَ اللَّهَ عز وجل النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ «مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَاّ رَأَيْتُهُ فِى مَقَامِى حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، فَأُوحِىَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِى قُبُورِكُمْ، مِثْلَ - أَوْ قَرِيبًا لَا أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ - أَوِ الْمُوقِنُ لَا أَدْرِى بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ. ثَلَاثًا، فَيُقَالُ نَمْ صَالِحًا، قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ - أَوِ الْمُرْتَابُ لَا أَدْرِى أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ لَا أَدْرِى، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ» . أطرافه 184، 922، 1053، 1054، 1061، 1235، 1373، 2519، 2520، 7287 - تحفة 15750 - 32/ 1
86 -
قوله: (أسماء) الأخت الكبيرة لعائشة رضي الله تعالى عنها.
قوله: (الكسوف) في السنة التاسعة بعد الهجرة يوم تُوفي إبراهيم عليه السلام.
قوله: (وهي تصلي) قال الحافظ رضي الله تعالى عنه: أنها اقْتَدَتْ من حُجْرَتها. قلت: وهذا الاقتداء صحيح عندنا أيضًا فإنه يكفي لِصِحَّةِ الاقتداء علم انتقالات الإمام، ولكن لا أدري مِنْ أين أخذه الحافظ رحمه الله تعالى. غير أني رأيتُ في «المُدَوَّنَةِ» أن أمهاتِ المؤمنين كُنَّ يقتدينَ يومَ الجمعة مِنْ حُجْرِهِنَّ.
قوله: (فقالت: سبحان الله) والذِّكر عندنا ليس بمفسِدٍ بحال، وظاهرُ عباراتِهم تُشْعِر بأن الذِّكْرَ بأي لسان كان، فإنه لا يُفْسِد الصلاة. وينبغي عندي أن يَقْتَصِر عدمُ الفسادِ على العربية والفارسية فقط. نعم يكره في بعض الأحوال.
قوله: (فجعلتُ أَصُبُّ
…
إلخ) فعُلِم أن الصلاةَ لا تُفْسِدُ من مثلِ هذا العمل القليل. واعلم أن الغَشْيَ في القلب، والجنون والإغماء في الرأس.
قوله: (إلا أريته) وفي واقعةٍ أُخرى أنه رأى الجنة والنار ممثَّلَتَين في الجدار، والرؤية في
كلا الموضعين من رؤية عالَمِ المِثَال. وفيه الكمية دون المادية كَشَبَحِ المرآة، فالعوالم متعدِّدة وهو رب العَالَمِيْن، كما أن الوجود متعدد عند الفلاسفة خارجي وذهني. وأنكر المتكلمون الثاني، نعم عندهم نحوٌ آخر من الوجودِ يسمّى بالتقديري وعند الدَّوَّاني نحوٌ آخر يسمى الدهري. فكذا عالم المثال أيضًا نحوٌ من الوجود. ثم إن عالمَ المثال ليس اسمًا للحيِّز، بل هو اسم لنوعٍ من الموجودات، فأمكن أن يكونَ في هذا الحيِّز أشياء من عالم المثال. ثم اعلم أن ما يَرَوُنَه الأولياء من الأشياء قبل وجودها في العالم لها أيضًا نحو من الوجود، كما أن أبا يزيد البِسَطامي رحمه الله تعالى لما مرَّ من جانب مدرسةٍ وهَبَّتْ ريحٌ قال: إني أجد منها ريحَ عبدٍ من عباد الله، فنشأ منه الشيخ أبو الحسن الخرقاني. وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم «إني أجد نفس الرحمن من اليمن» فنشأ منه الأويس القرني. فهذا أيضًا نحوٌ من الوجود وذكر الشيخ الأكبر أن الشيء إذا نزل من العرش فلا يمرّ بموضعٍ إلا ويأخذ حُكْمه وما من شيءٍ، يَنْزِل على الأرض إلا ويكونُ على السماء الدنيا قبل نزوله بسنة.
قلت: وهذا من أمور الغيب لا يعلمها إلا الله، ولكني أُسَلِّم أن الأشياء تنزل من السماء لما في الحديث أن البلأَ ينزل من المساء ويَعْرِجُ الدعاء من الأرض فلا يَزالُ يدافِعُ أحدُهُما الآخرَ إلى يوم القيامة فلا يَنْزِلُ هذا ولا يَعْرِج هَذا بل يبقى معلقًا أبد الدهر.
قوله: (المسيح) أصله عِبْري من «الماشيح» أي المبارك وليس عربيًا، فاشتقاق أمثالِ تلك من العربية لا يَصِحّ. قيل: إن لقب الدجال المَسِّيْح بتشديد السين. قلت: بل لقبهما هو المسيح، ووجه الاشتراك في اللقَّب أن كلاهما قد أخبرا عن مَجِيْئِهِمَا في الكتب السّالِفة، فلما جاء المسيح المبارك جعله اليهود مسيحَ الضَّلالة والدجَّال وصاروا له أعداءً والعياذ بالله. ولما يَخْرُج الدجَّال يجعلونَه المسيحَ المباركَ. ولذا يكون أكثر اتباعه اليهود فجاء الاشتراك لهذا، ولذا ترى في الأحاديث المسيحَ مقيدًا بالدجّال تارةً والضلالةِ تارةً وبلفظِ الهُدى أخرى؛ ليحصلَ التمييزُ بينهما. وراجع الفوائد للشاه عبد القادر رحمه الله تعالى فإنه أشار إليه.
قوله: (بهذا الرجل) إشارة إلى الحاضر في الذهن، كما في تنوير الحوالك شرح الموطأ لمالك رحمه الله تعالى للسيوطي رحمه الله تعالى.
قوله: (نم صالحا) يُستفاد منه أن القبورَ معطَّلةٌ عن الأعمال مع أن كثيرًا من الأعمال قد ثبتت في القبور كالأذان والإقامة عند الدارمي، وقراءة القرآن عند الترمذي، والحج عند البخاري، وراجع له «شرح الصدور» للسيوطي رحمه الله تعالى.
وهكذا في القرآن إيهام الجانبين ففي سورة يس: {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] وهذا يدل على أنه لا إحساس في القبر وكلُّهم نائِمون. وفي آيةٍ أخرى {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] فهذه تدل بخلافه، والوجه فيه عندي: أن حالَ البرزخ تختلف على حسب اختلاف عمل العاملين في حياتهم، فمنهم نائمون في قبورهم، ومنهم متلذِّذون فيه، وإنما عُبِّرتْ الحياةُ البرزَخِيَّة بالنوم لأنه لم يكن له لفظ في لغة العرب يؤدي مؤدَّاه، ويصرِّح عن معناه وضعًا، فاختير اللفظُ الموضوعُ لنظيره تفهيمًا، فلا شيء أشبه بالحياة البَرْزَخِيَّة من النوم. ولذا جاء في
الحديث «النوم أخ الموت» فالنوم أشبه الأشياء بالموت، ولذا أَدْخَلَ القرآنُ النومَ والموتَ تحت لفظٍ واحدٍ وهو التَّوَفِي، ثم فرق بينهما فدل على أن فيهما بعضُ اشتراك وبعض امتياز قال الله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} [الزمر: 42] إلخ
(1)
، والحاصل أن البَرْزَخَ اسم لانقطاع حياة هذا العالمَ وابتداءِ حياةٍ أخرى وكذلك النوم فيه أيضًا نوعُ انقطاعٍ عن هذا العالم.
قوله: (أما المنافق أو المرتاب) هكذا في أكثر الروايات، وفي البعض «أو الكافر» ونُسْخَةٌ فيه «والكافر» بدون الترديد.
ومن ههنا قام البحث في أن السؤال مخصوص بالمنافق أو يُسأل الكافر المجاهر أيضًا؟ ومقتضى تلك النُّسخة أن يكونَ السؤال عن المنافق والكافر كليهما. وتَعرَّضَ إليه السيوطيّ في «شرح الصدور»
(2)
فقيل: إن السؤال يختص بمن تَزَيّا بِزَيِّهِ ويَدَّعي الإسلام ويلتبس به. أما الكافرُ
(1)
وللشيخ الإمام صاحب هذه الأمالي رحمه الله تعالى تحقيق في هذه الآية بخلاف هذا في رسالته (تحية الإسلام) فلتراجع (من المصحح).
(2)
قال السيوطي: قال ابن عبد البر: لا يكونُ السؤال إلّا لمؤمن أو منافقٍ كان منسوبًا إلى دين الإِسلام بظاهرِ الشهادة، بخلاف الكافر فلا يُسأل. قال السيوطي رحمه الله: وأما التصريح في بعض الأحاديث بالكافر فالمراد به المنافق، فإنه لم يجمع بينهما في حديث، وإنما ورد في بعضها المنافق وفي بعضها الكافر بدل المنافق. قلت: وقد ردّ عليه بعض المحققين في شرحه على "العقائد" وقد أجاد وفيه، ونصه هذا: وأما المنافق والكافر فيقال له: "ما كنتَ تقولُ في هذا الرجل، فيقول: لا أدري كنتُ أقولُ ما يقول الناس"
…
الحديث. حيث جمع بين المنافق والكافر بواو العطف، والأصل في العطف المتغايرة، فيدل على أن كلًا من المنافق والكافر الذي لم ينطق بالكلمة وقد بلغته الدعوة يسأل، ويؤيده قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27] حيث ذكر الظالمين في مقابلة الذين آمنوا، والظالم يعم الكَافر والمنافق. وقول تعالى:{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] فقد أخرج الطبراني في "الأوسط" بسند حسن وابن حبان في "صحيحه" وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "وأما الكافر فيقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي كان فيكم وما تشهد به؟ فلا يهتدي لاسمه، إلى أن قال: فيضيقُ عليه قبرُه حتى يختلف أضَلاعه، فذلك قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} .. الحديث فإن من أعرض عن ذكر الله لا يختص بالمنافق، بل يعم كلُّ من بلغتُه دعوةُ الإِسلام ولم يُصدِّق، مع أن الحديث بلفظ: "وأما الكافر" الشامل للمنافق وغيره فتخصيصه بأهل الشك من أهل القبلة كما نقله السيوطي رحمه الله عن حماد بن سلمة وأبي عمر الضرير - لا موجبَ له ويزيده، تأييدًا قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} [الحج: 31] الآية، فقد أخرج الإمام أحمد رحمه الله بسند رجاله رجال الصحيح والحاكم وصححه وغيرهما من حديث البراء الطويل رفعه: "وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا إلى أن قال: فيقول: الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، ثم يطرح روحه طرحًا ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} فيعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك، فيقول: هاه هاه لا أدري: الحديث فإن الآية بلفظ: "الكافر" وأَما ما رواه البخاري في باب خفق النعال من حديث أنس مرفوعًا بلفظ: "وأمنا الكافر أو المنافق" فلا ينافي رواية الواو، لأن الترديد إما للشك أو لمنع الخلو، فإن كان الأول فالمحفوظ "أما الكافر" فهو صريح في المقصود "أو المنافق" فلا دلالة في الحديث على الانحصار فيه، إذ غايته إفراد المنافق بالذكر، وهو لا ينافي أن =
المجاهر فلا التِبَاس فلا سؤال فإنه للتمييز. وقيل: إن الكافرَ أَوْلى بالسؤال. والتَّرْدِيد في
= يسأل غيره من الكفار، وإن كان الثاني جاز الجمع بينهما بالسؤال تحقيقًا لمنع الخلو.
وعلى التقديرين لا منافاة بين الروايتين، ومنه يظهر أن اعتراض السيوطي رحمه الله تعالى على القُرطبي وابن القيم رحمهما الله تعالى لم يقع في محله، حيث قال في "شرح الصدور": قال ابن عبد البر: لا يكون السؤالُ إلَّا لمؤمن أو منافق كان منسوبًا إلى دين الإسلام بظاهر الشهادة، بخلاف الكافر فلا يُسأل وخالفه القُرطبي وابن القيم وقالا: أحاديث السؤال فيها التصريح بأَنَ الكافر المنافق يسألان. قلت: ما قالاه ممنوع فإنه لم يجمع بينهما في شيء من الأحاديث وإنما ورد في بعضها ذكر المنافق، وفي بعضها بدله الكافر، وهو محمول على أن المراد به المنافق بدليل قوله في حديث أسماء، وأما المنافق أو المرتاب ولم يذكر الكافر. انتهى.
وقال: وذلك لما تبين أن حديث أنس رضي الله عنه في الصحيح فيه الجمع بين المنافق والكافر بالواو العاطفة، وهو أول حديث أورده السيوطي في باب فتنة القبر وسؤال المَلَكين في كتابه "شرح الصدور" ولكن الله تعالى يقول:{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56] ولا دليل في حديث أسماءَ على حمل الكافر على المنافق، إذ ليس فيه إلّا الترديد بين المنافق والمرتاب، فإن قلنا: إن الترديد للشك وإن المنافقَ والمرتابَ متساويان، فغايته أن يكون كرواية الترمذي في إفراد المنافق بالذكر، ولا دليل في ذلك على انحصار السؤال فيه لما مر، وإن قلنا بأن المرتاب أعم لجواز أن بعضَ من بلغتهُ دعوةُ الإِسلام ولم ينطق بالكلمةِ لا يكونُ جازمًا بالتكذيب. وإن قلنا إن الترديد لمنع الخلو فالأمر واضح، إذ غاية ما فيه الترديد بين المنافق وبين الكافر المرتاب، وقد تبيَّن أن إفرادَ المنافقِ بالذكر لا يدل على انحصارِ السؤالِ فيه، فكيف إذا ذكر معه بعض الكفار.
ثم السؤالُ عند السيوطي رحمه الله ليس وجه الحكمة فيه منحصرًا في امتحان المسلم الخالص من المنافق حتى يكون موجبًا لحمل الكافر على المنافق، فإنه قال في رسالته التي سماها:"الثريا بإظهار ما كان خفيا": إنما المقصود من السؤال أمور: أحدها إظهارُ شرفِ النبي صلى الله عليه وسلم وخصوصيَّتهِ ومزيته على سائر الأنبياء، فإن سؤال القبر إنما جُعل تعظيمًا له وخصوصية شرفٍ، بأن الميت يُسأل عنه في قبره، انتهى.
وهذا جار في كل من بلغتهُ دعوة الإسلامُ وقد جرى عليه السيوطي رحمه الله تعالى في تكملة "تفسير الجلال المحلي" حيث قال في قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} هو كلمة التوحيد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] في القبر لما يسألهم الملكان عن ربهم، وعن دينهم وعن نبيهم، يُجيبون بالصواب كما في حديث الشيخين:"ويُضِلُّ الله الظالمينَ" الكفار فلا يهتدون للجواب بالصواب، بل يقولون: لا ندري، كما في الحديث.
وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في "فتح الباري" في باب ما جاء في عذاب القبر: قوله: وأما المنافق والكافر في هذه الطريق بواو العطف، وقد تقدم في باب خفق النعال، وأما الكافر أو المنافق بالشك وساق رواياتٍ مختلفة لفظًا، فقال: وفي رواية أبي داود: وإن الكافر إذا وضع وكذا لابن حِبَان من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وكذا في حديث البراء الطويل، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد: وإن كان كافرًا أو منافقًا بالشك، وكذا في حديث أسماء، فإن كان فاجرًا أو كافرًا، وفي الصحيحين من حديثها: وأما المنافق أو المرتاب، وفي حديث جابر عند عبد الرزاق وحديث أبي هريرة عند الترمذي: وأما المنافق، وفي حديث عائشة عند أحمد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما: وإن كان من أهل الشك، ثم قال: فاختلفت هذه الروايات لفظًا وهي مجتمعة على كل من الكافر والمنافق يُسأل ففيه تعقب على من زعم أن السؤالَ إنما يقع على من يدَّعي الإيمانَ إن محِقًّا وإن مبَّطِلًا.
ومستندهم في ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عبيد بن عُمير أحد كبار التابعين قال: إنما يفتن رجلان مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يُسأل عن محمد ولا يعرفه صلى الله عليه وسلم، وهذا موقوف، والأحاديث النَّاصة على أن الكافر يُسأل مرفوعةٌ مع كثرة طُرقها الصحيحة، فهي أولى بالقُبُول، وجَزَمَ الترمذي الحكيم بأن الكافرَ يُسأل. انتهى.