الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تِبْنًا وماءً باردًا، واختار العلامة فيه التضمين، في «حاشية الكشاف» وأنكر عليه ابن كمال باشا، وقال: إنه وَهْمٌ توهم من عبارة «الكشاف» .
والمعنى عندي: الذين جعلوا الإيمان مبوأهم، ومقعدهم، كأن الإيمان أحاط بهم، وهؤلاء قاعدون فيه، كقوله:{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)} [القمر: 54 - 55] فالإيمان ظَرْفٌ، وهؤلاء مَظْرُوفُون، وهو كناية عن كمال دينهم، وفيه ترغيب للمهاجرين بحبهم، ولذا جعله الحديث من علامة الإيمان وفيه تنبيه على أن حب أهل ورد الرجل، والخلص من أحبائه، أيضًا ضروري وإن كانوا أجانب، فإن حبَّ أقاربِ النبي صلى الله عليه وسلم مما فُطِرَ عليه كل مسلم، يعلمه من فطرَتِهِ، أما حبُّ الأنصار الذين فدَوْه من أموالهم وأنفسهم، لكونهم أجانب قد يَذَهَل الذهنُ عن حبهم، فنبَّه على أن حبَّهم أيضًا من علامات الإيمان، لكونهم حَلُّوا منه محلَّ أهلِ البيت من الرجل، وفي الحديث:«من بر الولد إكرام أهل ولد أبيه» (بالمعنى).
11 - باب
18 -
حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ - رضى الله عنه - وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ «بَايِعُونِى عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِى الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ، فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ» . فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ. أطرافه 3892، 3893، 3999، 4894، 6784، 6801، 6873، 7055، 7199، 7213، 7468 - تحفة 5094
هذا بابٌ بلا ترجمة، وهو متعلقٌ بالأول، لأنه لما ذكر الأنصار أشار إلى سبب تلقُّبهم بالأنصار، وإنما لم يترجم به لأنه بصدد أمورِ الإيمان: وليس هذا من أمور الإيمان، فوضع الباب وحذف الترجمة، وذكر فيه حديث بيعة العقبة، وفي قوله:«بين أيديهن وأرجلهن» إشكال، ولا يظهرُ وجه التخصيص في حق الرجال. قال الخطابي: معناه لا تبتهوا الناس كفاحًا بعضكم يشاهد بعضًا، كما يقال: قلت كذا بين يدي فلان، وفيه وجوه أُخَر ذكروها في الشروح {فعوقب في الدنيا فهو كفارة له} استدل به من قال: إن الحدود كفارات.
بحثٌ نفيسٌ في أنَّ الحدودَ كفَّارَاتٌ أم لا
؟
وفي هذه المسألة معركة للقوم، ولم يتحقق عندي ما مذهب الحنفية بعد؟ ففي عامة كُتُب الأصول: أنها زواجر عندنا، وسواتر عند الشافعية. وفي «الدر المختار» تصريح بأن الحدود
ليست بكفارة عندنا وفي «رد المحتار» في الجنايات، من كتاب الحج عن «ملتقط الفتاوى» أنه لو جنى رجلٌ في الحج، وأدى الجزاءَ سقطَ عنه الإثم، بشرط أن لا يعتاد، فإن اعتاد بقي الإثم، وكذا صرح النسفي في «التيسير» من أنه لو أقيم عليه الحد ثم انزجر يكون الحدُّ كفارةٌ له، وإلا لا وفي الصيام من «الهداية» أيضًا إشارة إلى أن الكفارة ساترة، والكفارةُ والحدودُ من باب واحد. وفي التعزير من «البدائع» أيضًا تصريحٌ بأن الحدود كفارات.
وتكلم الطحاوي على مثل هذا الحديث في «مشكل الآثار» ولم يتكلم حَرْفًا بالخلاف، وكذا بحث العيني رحمه الله تعالى بحثًا، وسكت عن عدم كونها كفارات. وأقدمُ النقولِ فيه ما في الطبقات الشافعية من مناظرة الطَّالْقَاني الحنفي مع أبي الطيب وصرح فيها: أن الحدود كفارات، وهذا الطالقاني من علماء المئة الرابعة، تلميذ للقُدُوري. فلعل ما في كتب الأصول يُبنى على المسامحة، فالاختلاف إنما كان في الأنظار، فجعلوه اختلافًا في المسألة، فنظرَ الحنفية أنها نزلت للزجر، وإن اشتملت على الستر أيضًا، ونظر الشافعية أنها للستر بالذات، وإن حصل منها الزجر أيضًا. قلت: إن كان الأمرُ كما علمت، فالأصوبُ نظر الحنفية، وإليه يرشد القرآن، وغير واحد من الأحاديث، كما لا يخفى، ثم إنهم لما قرروا الخلاف ومشى عليه الشارحون أيضًا، وإن كان بحثُ الحافظين في هذا المقام كالبحث العلمي والتفتيش المقامي، لا كالانتصار للمذهب، لكنه مع ذلك اشتهر الخلاف، حتى نقل في كتب الأصول أيضًا.
فاعلم: أن هذا الحديث وإن دل على كون الحدود كفارات، لكن يعارضُهُ ما رواه الحاكم وصححه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا أدري الحدود كفارات أم لا؟» وادّعى الحافظ رحمه الله تعالى أن حديث الحاكم متقدم، وحديث الباب متأخر، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم توقف في أول أمره، ثم جزم بكونها كفارات، ويرد عليه أن حديث عُبادة كيف يكون متأخرًا مع أن بيعة العقبة إنما هي في مكة قبل الهجرة، وحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عند الحاكم متأخر عنه، لأنه أسلمَ السنة السابعة بعد الهجرة النبوية، وفيه تصريح بالسماع، فدل على أنه سمعه بنفسه في السنة السابعة. وأجاب عنه الحافظ رحمه الله تعالى أن هذه بيعة أخرى، بعد فتح مكة، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عْبادة رضي الله تعالى عنه حضر البيعتين معًا، وكانت بيعة العقبة من أجل ما يتمدح به، فكان يذكرها إذا حدث تنويهًا بسابقيته.
وحاصله: أن ذكر ليلة العقبة ههنا لتعريف حاله، لا لأن تلك البيعة كانت فيها، فجاز أن يكونَ حديثُ أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مقدمًا وحديث عُبادة رضي الله تعالى عنه متأخرًا. وعارضه العيني رحمه الله تعالى وقال: بل هي البيعةُ التي وقعت بمكة، والقرينة عليه أن فيه لفظ:«العصابة» وهو لا يطلق على ما زاد على الأربعين، وفي لفظ:«الرهط» وهو لأقل منه، فدل على قلة الرجال، في تلك البيعة؛ فلو كانت تلك ما كانت بعد فتح مكة، لاشترك فيها ألوفٌ من الناس، لشيوع الإسلام إذ ذاك، فهذه قرينة واضحة على أنها هي التي كانت بمكة، وحينئذٍ لا يحتاج إلى ما أوّل به الحافظ رحمه الله تعالى أيضًا، من أن ذكر الليلة لتعريف
الحال، ويبقى الحديث على ظاهره. واستدل الحافظ رحمه الله تعالى على تأخر تلك البيعة لقرينة أخرى، وقال: ويقوي أنها وقعت بعد فتح مكة، بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة وهي قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] إلخ، ونزول هذه الآية متأخرٌ بعد قصة الحديبية، بلا خلاف. والدليل عليه ما عند مسلم عن عُبادة في هذا الحديث:«أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء» قال الحافظ: بعد سرد الأحاديث: إن هذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية، بل بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، وعارضه الشيخ العيني رحمه الله تعالى، بروايات في البيعة الأولى، وفيها هذه الألفاظ أيضًا، فلم يكن دليلًا على أنها بعد نزول الممتحنة، وإن اشتركت الألفاظ.
أقول: لا شك أن التبادر إلى الحافظ رحمه الله تعالى، فإن ألفاظَ الحديث كأنها مأخوذة من سورة الممتحنة. وأجاب الشيخ بوجه آخر أيضًا وقال: ما الدليل على أن المراد من العقوبة هي الحدود؟ لم لا يجوز أن يكونَ المرادُ منه المصائب
(1)
الأخرى كما في الحديث: «أن الشوكة يشاكها الرجل أيضًا كفارة» ، وحينئذٍ يخرج الحديث عن موضع النزاع. واعترض عليه الحافظ رحمه الله تعالى إن هذه المصائب لا دخل فيها للستر، فما معنى قوله:«فستره الله» إلخ، فإنما هي معاملة الرجل في نفسه. قلت: ومن المصائب ما يُشهر بين الناس كاشتهار القبائح والخزي، فيحتاج إلى الستر في مثل هذه، وحينئذٍ صح التقابل، واستقام قوله:«ثم ستره الله» . ثم رأيت حديثًا في «كنز العمال» عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفيه: «فأقيم الحد» فهو كفارة له، فهذا صريح في أن المراد منه الحدود، دون المصائب، ولكن في إسناده تردد وأسقطه ابن عَدِي، وعندي فيه اضطراب أيضًا.
ثم أقول إن الستر على نحوين: الستر عند الناس، وهو في الحدود، والستر عند الله، وهو بالمغفرة، والإغماض عنه، فالسترُ بهذا المعنى يصح في المصائب أيضًا، ويصح التقابل، وحينئذٍ حاصله أن من أصاب من ذلك شيئًا ثم غَفَرَ الله له في الدنيا فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه يوم القيامة أيضًا وإن شاء عاقبه. فإن قلت: ما الفرقُ بين الحدود والمصائب، حيث اخْتُلِف في تكفير الحدود دون المصائب، فإنها مكفرات اتفاقًا. قلت: الفرق عندي أن الحدود إنما تقام بأسباب ظاهرة كالزنا والسرقة، بخلافِ المصائبِ، فإنها بأسباب سماوية، ولا تجيءُ بأسباب ظاهرة، فإنك إن ضُرِبت الحد، تعلم أنك فعلت موجبُهُ، فلا يسعُ لك أن تقول: لم رجمتُ أو لم قطعت يدي؟ بخلاف ما شكيت أو مرضت لا تدري ما موجبه، فيسع لك السؤال عنه.
(1)
قال الحافظ ابن رجب: قوله فعوقب به يعم العقوبات الشرعية، ويشمل العقوبات القدرية، كالمصائب، والأسقام، والآلام، فإن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يصيب المسلم نصب ولا هم ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه". اهـ. مختصرًا كذا في عقيدة السفاريني ص 320 ج 1.
وهذا كمن ضرب عبده لا عن سبب ظاهر، جاز له أن يقول لسيده: لم ضربتني. فلما كانت تلك المصائبُ لا عن أسباب ظاهرة، بل عن أسباب سماوية، ويسعُ السؤالُ عنها بحَسَب الظاهر، جعلَهَا اللَّهُ سبحانه كفارةً رحمةً، على عباده ومِنَةً عليهم، فكأنه جواب عن قولك: لم ابتليتني بتلك البلية قبل سؤالك عنها، بخلاف ما إذا حُدّ رجلٌ فإنه ليس له أن يسألَ عنه من أول الأمر، فجاز أن يكون كفارةً، وجاز أن لا يكون كفارة، ولا يتأتَّى فيه سؤالٍ: لِمَ. وهو ظاهر.
وقال مولانا شيخ الهند رحمه الله تعالى في وجه الفرق: إن المصائبَ وإن كانت كفارةً، إلا أنه لا تتعينُ أنها لأي معصية، بخلاف الحدود، فإنها كفارةٌ لما حُدّ له على التعيين عند من يراه كفارة، فالرجم كفارة للزنا الذي أتى به، وقَطْعُ اليد، كفارة للسرقة التي ارتكبها بخلاف المصائب، فإنها لا يُدرى بكونها كفارة لمعصية على التعيين.
ثم لي تذكرةٌ مستقلةٌ في الجمع بين حديثي عُبادة رضي الله عنه وأبي هريرة رضي الله عنه بحيث يَصِح الحديثان من غير احتياج إلى النسخ، وحاصله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمُ حكمَ الحدود من حيث العموم، ولم يكن نَزَلَ فيها شيء خاص، فلم يكن يعلم حكمُها من حيث الخصوص، أما علمه من جهة العموم، فمما نزل عليه في تكفير المصائب مطلقًا، والحدُّ أيضًا مصيبةٌ بحسَب الظاهر، فينبغي أن تكون كفارةً، كما أن سائر المصائب كذلك، فكأن الحدود اندرجت تحت هذا العموم. ولما لم يكن نَزَلَ عليه شيءٌ في الحدود خاصة، والقرآن أيضًا لم يصرح فيها بشيء، توقفَ النبي صلى الله عليه وسلم وقال:«لا أدري الحدود كفارات أم لا؟» أي لا أدري من حيث الخصوص. ونظيرُهُ أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر في باب الزكاة فقال: «لم ينزل علي فيه شيء، غير تلك الآية الجامعة، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}» فذكر القانونَ وبيَّن حكمه من حيث العموم، ونفى عن حكم جزئي، كذلك ههنا، فحديث عُبادة رضي الله عنه نظرًا إلى العمومات، وحديث أبي هريرة في التوقف نظرًا إلى خصوصِ الحُكم.
واعلم أن في حديث الحاكم بعد قوله المذكور زيادة وهي: «لا أدري التبع كان مؤمنًا أم لا؟ ولا أدري خضر كان نبيًا أم لا؟» وقد كنتُ متحيرًا في مراده، فإنه صلى الله عليه وسلم متى ادّعى علم جميعِ الأشياء لنفسه، فإنه إن كان لا يعلم هذه الأشياء، فقد كان لا يعلمُ كثيرًا من الأشياء غيرها، فما معنى نفي علم هذه الأشياء خاصة؟ فلما راجعت القرآن بدا لي مراده، وهو أنّ القرآنَ ذكرَ الحدود ولم يتعرض إلى كونها كفارة في موضع. وكذا ذكر التبع، وخَضِرٌ عليه السلام، ولم يتعرض إلى إيمانهما فتبيَّن أنه يريدُ نفيَ علمه عما ذُكر في القرآن. أعني أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان لا يدري غير واحد من الأشياء، ولكنه خصص هذه بنفي العلم، لكونها مذكورة في القرآن، ثم لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم تفاصيلها، فكأنه يريد أن كثيرًا من الأشياء، وإن كنتُ لا أدريها، ولكن لا علم لي على وجه التفصيل ببعض ما ذكر في القرآن أيضًا، كالتبع، وخضر،
والحدود فإنها مع كونها مذكورة في القرآن، لا أدريها بتفاصيلها، فخصَّها بالذكر لهذا المعنى. واستدل
(1)
المدرسون بما في الطحاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بلص اعترف اعترافًا، ولم يوجد معه المتاع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أخالُك سَرْقت» ، قال: بلى يا رسول الله، فأمر به فقُطِعَ، ثم جيءَ به، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «استغفر الله وتُبْ إليه» ثم قال:«اللهم تُب عليه» ، فلو كان الحدُّ ساترًا كما قال به الشافعية، لما احتاج إلى الاستغفار بعده، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالاستغفار.
فعلم منه أن الحدودَ أصلُهَا للزجر، وإنما يصير ساترًا بعد لحوقِ التوبةِ.
قلت: وقوله صلى الله عليه وسلم «وتب إليه» يحتمل معنيين: الأول: «وتب إليه» ، أي في الحالة الراهنة، ليصيرَ الحدُّ كفارةٌ لذنبك، وحينئذٍ يتم الاستدلال لأنه دل على أن الحدَّ لم يصر كفارةٌ بعد، والثاني: معناه في الاستقبال، بأن لا تفعله ثانيًا، كما يقال للصبيان عند التأديب: تب تب، لا يكون معناه إلا الانزجارُ عنه في الاستقبال، وحينئذٍ يخرجُ عما نحن فيه ولا يتم الاستدلال، والظاهر هو الأول.
واعترض عليه الحافظ أن اشتراط التوبة للتكفير، مذهب المعتزلة، لا مذهب أهل السنة والجماعة. قلت: كلا، بل المغفرةُ قبل التوبة وتحت الاختيار، وبعدها موعودةٌ، فظهر الفرق. ثم إن البغوي من الشافعية أيضًا قائل به. يعني أن الحدودَ عنده أيضًا سواترُ بشرط التوبة.
وأصل البحث في القرآن، فرأيت جماعةً من المفسرين اختاروا التكفير، وجماعة أخرى يختارون أنها زواجر، ويُستفاد من صنيعهم أنهم يأخذونه من القرآن على طريق الاستنباط، وليس عندهم مذهبٌ منقح، ولذا لا يذكرون مذاهبهم، بل يبحثون كبحث العلماء. أقول: وتفحصتُ القرآنَ لذلك، وما رأيتُ في موضعٍ أنه ذكر الحدود ثم وعدَ بكونها كفارة، فمن نَظَرَ إلى عدم ذكر الوعد، ادّعى أنها ليست كفارة، ومن نظر إلى أنهم إذا أُقيمَ عليهم مثلُ هذه العقوبات
(1)
قلت وقد سنح لي أوان درس "المشكاة": أنّ قولَه: فهو كفارة له، ليس حكمًا، بل أمرٌ مرجو من رحمة الله، أي إذا أقيم عليه الحد فقد يرجى من الله سبحانه أن يجعلَها كفارةً له، ويدل عليه ما رواه الترمذيُّ عن علي رضي الله عنه مرفوعًا:"من أصاب حدًا فعَجَّلَ عقوبَتَهُ في الدنيا، فالله أعدلُ من أن يُثَنِّيَ على عبده العقوبةَ في الآخرة، ومن أصاب حدًا فستَرَهُ الله عليه، وعفا عنه، فالله أكرمُ من أن يعودَ إلى شيء قد عَفَا عنه". فهذا الحديث مشيرٌ إلى أن كونَ الحد كفارة، ليس بحكم، ولكنه أمر مرجو نظرًا إلى عدله تعالى، كما أنه مرجو في حال ستره أيضًا، نظرًا إلى كرمِهِ تعالى، ومعلوم أنه لا يقول أحد بكونه كفارة في حال الستر، إنما الاختلافُ بعد إقامةِ الحد، ثم الجزاء ههنا "فالله أعدل".
وفي حديث البخاري: "فهو كفارةٌ له" مع اتحاد الشرط، فهو بمعنى واحد، ومعنى التكفير: هو أن الله يُرجى منه العفو والكفارة، وكذلك الجزاء في الجملة الثانية. متعدد مع اتحاد الشرط، وهما أيضًا راجعان إلى معنى واحد، فالكفارة في كلتا الصورتين أمرٌ مرجوٌ، لا محكوم به قطعًا والله أعلم بحقيقة الحال.
ثم بدا لي: أن قوله: "لا أدري الحدود كفارة أم لا" كقوله صلى الله عليه وسلم: "والله لا أدري وأنا رسول الله ما يُفعل بي ولا بكم" مع كونه عالمًا له بوجه، وكقوله تعالى:{وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} فاعلمه.
الشديدة كالرجم والقطع، فينبغي أن تكون مكفراتٌ أيضًا، ذهب يدّعي أنهامكفرات. وكبيرُ نزاعِهم في قوله تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] إلخ، وفيه تصريحٌ بعد ذكر حدِّهم: أن لهم في الآخرة عذاب عظيم، فكأنهم لم يرتفع عنهم العذابُ بعد إقامة الحد أيضًا، وهذا يُشعر بعدم كونها مكفرات. ولهذا جَزَمَ البغوي بعدم كون الحدود مكفرات
(1)
.
قلت: ولي فيه تردد
(2)
، لأنهم اختلفوا في شأن نزولها ففي الصحيحين: أنها نزلت في العُرَنيين، ومعلوم أنهم كانوا ارتدُّوا بعد إسلامهم، وحينئذٍ فالآية خارجةٌ عن موضع النزاع، لأن المسألةَ إنما كانت في المسلمين. أما التكفيرُ في حق الكفار، فلم يقل به أحد. وقيل: الآية في قُطَّاع الطريق، وإليه ذهب الجمهور، وهو المنقولُ عن مالك رحمه الله تعالى. وحينئذٍ يتمُ الاستدلال، لأن قطعَ الطريق يمكن من المسلمين أيضًا.
قلت: والآية عندي في حق العُرنيين، إلا أن الآية لم تأخذ ارتِدَادهم، وكفرهم في العنوان، بل أدارت الحكم على وصفِ قطعِ الطريق، فيدور الحكمُ أيضًا على قطع الطريق. ولا يقتصرُ على المرتدين والكفار فقط. ومع ذلك أقول: إن استدلال البغوي ضعيفٌ، لأني أجدُ المعصية الواحدة تختلف شدَّةً وخفة، باعتبارٍ حال الفاعلين. وهذا معقول، فقد تكونُ المعصيةُ من المؤمن، ويخف العقاب عليها رعايةً لإيمانه، وتكون تلك المعصيةُ بعينها من الكفار، ويُزاد في عقوبته لحال كفره. وعليه جرى العرفُ فيما بيننا أيضًا، فلا نؤاخذُ حبيبنَا على أمرٍ ارتكبه، كما نؤاخذُ به عدونَا على ذلك الأمر بعينِهِ. وحينئذٍ يمكن أن يكونَ ذكرُ العذاب في الآخر جرى لحالِ كفرهم، فإن المعصيةَ تزدادُ شَنَاعَةً بحسَبَ الفاعلين، فقطعُ الطريقِ من المسلمين شنيعٌ، وهو من المرتدينَ أشنع. فيمكن أن يكون جَرَى ذكرُ العذاب لحالِ الفاعلين، لا لحال الفعل.
(1)
وذكر ابن جرير الطبري في هذه المسألة اختلافًا بين الناس، ورجح أن إقامةَ الحدِّ بمجرده كفارة، ووَهَن القول بخلاف ذلك جدًا. قال الحافظ رجب: وقد رُوي عن سعيد بن المسيب وصفوان بن سليم أن إقامة الحد ليس بكفارة، ولا بد معه من التوبة. ورجحه طائفة من المتأخرين، منهم: البغوي وأبو عبد الله بن تيمية رحمه الله تعالى في تفسيريهما، وهو قول أبي محمد بن حَزْم. والأول قول مجاهد، وزيد بن أسلم، والثوري والإمام أحمد رحمه الله تعالى. اهـ عقيدة السفاريني ص 320 ج 1.
(2)
قال الطحاوي رحمه الله تعالى في "مشكل الآثار" بعد ما أخرج عن ابن عباس أن الآية {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] نزلت في المشركين، ثم أخرجَ قصة العُرَنيين عن أنس رضي الله عنه ثم قال: إن الحديثَ الأول من هذين الحديثين يدلُ على أن الحكمَ المذكورَ فيه في المشركين إذا فعلوا هذه الأفعال، لا فيمن سواهم. وفي الحديث الثاني أن العقوبة في ذلك كانت عند أنس رضي الله عنه بكفر، إذ كانت تلك الأفعالُ مع الرِّدة لا مع الإسلام. ثم ذكرَ ما هو الوجهُ عنده فقال: إن قوله تعالى المذكور فيه جزاءٌ لمن أصاب تلك الأشياء، التي تلك العقوبات عقوبات لها، وقد تكونُ تلك الأشياء ممن ينتحلُ الإسلام وممن سواهم، فوجب استعمالُ ما في هذه الآية على من يكون منه هذه المحاربة، والسعي المذكورُ فيه إلى يوم القيامة، من أهلِ الملة الباقين على الإسلام، ومن أهل الملة الخارجين عن الإسلام إلى غيره، ومن أهل الذمة الباقين على ذمتهم، ومن أهل الذمة الخارجين عن ذمتهم، كما دخل أهلُ هذه الفرق جميعًا في الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} إلخ". انتهى. مختصرًا ص 317 ج 1.
وعلى هذا لا دليلَ في الآية على أن المسلمَ لو فعل ذلك، والعياذُ باللَّه، ثم حُدّ حدَّه، كان له عذابٌ في الآخرة أيضًا، لأنه ليس جزاء للفعل. على هذا التقدير، بل الشَّنَاعة في الجزاءِ بشناعةُ الفاعلين. وهذا موضعٌ مشكلٌ جدًا يتحير فيه الناظر، فإنّ الآية تكونُ عامّةً بحكمِهَا، ثم تشتملُ على بعض أوصاف المورد، فيحدث التردد، هل هي معتبرةٌ في الحكم أيضًا أم لا، فيعتبرُهَا واحدًا ويُجرى الحكمَ على المجموع، ويقطعُ عنها النظرَ آخر، ويزعمُ أن تلك الأوصافَ مخصوصةٌ بالمورد، ويأخذ الحكمُ العام، ويُعدِّيه إلى غيره، مما ليس فيه هذه الأوصاف، وهذا مما يتعسرُ جدًا، وكثيرًا ما يقع في القرآن مثل ذلك، فإنه يُبيِّن حكمًا عامًا، ويومي إلى الوقائع أيضًا ليبقى له ارتباط بالموضع والمورد أيضًا، فإذا ركب عبارةً تعطي حكمًا عامًا مع الإيماءات إلى الوقائع تعسر إدارة الحكم على بعضها، وترك بعضها، وإدارة الحكم على المجموع، فاعلمه فإنه مهمٌ جدًا.
وهناك آية أخرى تتعلقُ بموضوعنا: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] ومعناه عندي: أن إيجابَ الصيام عليه ليخافَ ويقلعَ عنه في المستقبل، ويندم ولا يعود إليه ثانيًا، وحينئذٍ تكون تلك الصيام مغفرة له، لا أن مجردَ الصيام مغفرة له. وآية أخرى:{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، وقوله تعالى:{فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ} قال التفتازاني في المطول: إن التنوين في المسند على الأصل، فلا تحتاج إلى نكتة، أقول: إلا تنوين المنعوت، فإنها لا تخلو عن نكتة، بخلاف التنوين في المُسند إليه، فإنها لما كانت على خلافِ الأصل، لا تخلو عن نكتة مطلقًا، فالتنوين في المسند المنعوت كما في قوله:
*صح أن الوزير بدر منير
…
إذ تواري كما توارى البدور
وفي المُسْنَد إليه، كما في قول عمرو بن أبي ربيعة المخزومي.
*وغابت قمير كنت أرجو غيابها
…
وروح وريحان ونوم وسمر
وعلى هذا التنوين في قوله: {كَفَّارَةٌ لَّهُ} يفيد أن في الحدودِ تكفيرًا ما، فإن التنوينَ فيه ليس حشوًا، على أن لفظَ الكفارة يدلَ على الستر، لا على التطهير كل التطهير، فلا دلالة في الحديث على أن الحدودَ مكفراتٌ بالكلية، بل على أن فيها شيئًا من التكفير والستر، ولعل الحنفية أيضًا لا ينكرونه
(1)
.
تنبيه: واعلم أنه لا ينبغي أن يُبحثَ في الحديث عن المعاني الثواني، والمزايا، وأن يدارَ عليها المسائل، فإن الحق عندي: أن لفظَ الحديث ليس بحجةً في هذا الباب، لفشو الروايةِ بالمعنى، فلا يتعين أنه من لفظه صلى الله عليه وسلم أو من تلقاء الراوي، فينبغي أن تؤخذَ الأحكامُ من القدر
(1)
وإنما قالوا: إنها للزجر كما يدل عليه ما في "المشكاة" عن جابر رحمه الله تعالى: أن سارقًا لما جيء به في المرة الرابعة أمر به أن يقتلَ، لأن المقصودَ من إجراءِ الحد كان الانزجار، ولما لم ينزجر، أمر بقتله، وتطهيرِ الأرض من وجوده.