الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوضوءَ والصلاتين أيضًا، ومرَّ عليه الشيخ ابن حجر المكي الشافعي في «شرح المشكاة» وحسَّنه. قلت: وفي إسناده راوٍ تُكِلِّمَ فيه.
وَجْهُ القِراءتين في آيةِ الوضوء
على نحو المذهب المختار بعد إمعانِ نظرٍ، وإِعمال فكرٍ، وحَذَاقةٍ في الفنون العربية.
قوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ} استدل بها الشيعة على جواز المسح بالأرجل على قراءة الجر، وهم لا يجوزون المسحَ على الخفين مع كونه مواترًا وتصدى لجوابهم علماءُ الأمة منهم: ابن الحَاجب والتَّفْتَازاني في أواخر «التلويح» وابن الهُمَام وآخرون.
وما فتح الله عليَّ في بيان وجه قراءة النصب: هو أن قوله وأرجلكم بالنصف مفعول معه وليس عطفًا، وفرق بين واو العطف والتي للمفعول معه، فإِن العطف لبيان شَرِكة المعطوفِ والمعطوفِ عليه في أمر، نحو جاءني زيد وعمر، ومعناه: أنهما مشتركان في المجيء. وإن قلنا: وعمرًا بالنصب فمعناه بيان مصاحبتهِ مع زيد في الجملة. أمَّا إنها في الفعل خاصة أو في أمر آخر، فأمر مَوْكُولٌ إلى الخارج على حد قولهم: إذا خلى وطبعه ولا يدل على الشركة أصلًا، وإن لزمتْ في بعض المواد فمِنْ تلقاءِ المادةِ لا من تلقاءِ المدلول. ثم المصاحبة معناها المقارنة: وهي قد تكون في الزمان كقولهم: جاء البَردُ والجُبَّاتَ بالنصب ليس معناه أن الجباتَ اشتركت في المجيء مع البرد وأن الجائي هو البرد والجبات، بل معناه أن الجائي هو البرد، ثم له مصاحبة مع الجبات مصاحبة زمانية. وأما إنه في المجيء أو الخياطة مثلًا فهو أمرٌ خارج عن مدلول المفعول معه.
والمعنى: جاءَ البردُ وخِيْطت الجُبَّات في زمانه، فصاحَبَها زمانًا، ولو كانت في الخياطة فجاء هذا وخيط هذا. وهذا أيضًا نوعٌ من المُصَاحبة. وقد تكون المصاحبة في المكان كقولهم: سرت والطريق، ليس معناه أن الطريق أيضًا سار كما سار المتكلم، فلا دَلالة فيه على الشَرِكة في الفعل، فإِنه لم يُسند السيرُ إليه، بل معناه أن السائر هو المتكلم، لكن الطريق قارنَهُ وصاحبهُ وبقي معه في آخر سيره، فكان مُصاحبًا له مصاحبةً مكانية. وقد تكون بهما نحو قولهم: سرت والنيل، إذا اعتبرت جريَ الماء معك ساعة.
وهناك أمثلة أخرى. منها قولهم: لو تركت الناقة وفَصِيلتَها لرضعتها، ليس معناه أن التركَ واقعٌ على الناقة والفصيلة كلتيهما، ليكون من باب العطف ولاشركة، بل معناه: لو تركت الناقة فقط وبقيت معها معاملة للفصيلة لرضعتها، كقوله تعالى:{ذَرْنِى وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)} [المدثر: 11] لا يريد الشركةَ في الفعل، بل معناه ذرني فقط ثم انظر ماذا أفعلُ بهم. ونحو قول الشاعر:
*وكنتُ ويحيى كَيَدي واحدٍ
…
نرمي جميعًا ونُرامي معًا
لا يريد الشاعرُ الشركةَ في الكون فإِنه ليس بشيء، بل معناه كنت ويحيى مصاحبًا معي، فالمراد هذا المجموع ثم كونهما كيدي واحد. وكقول الآخر:
*فكونوا أنتمُ وبني أبيكم
…
مكان الكُليتين من الطِّحال
وإنما قَطَعَه الشاعرُ عن إعراب ما قبله ونَصَبَهُ إعراضًا عن الشركة وإفادةً للمصاحبة كما قرره الرَّضي في قوله:
*للبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عيني
…
أحبُّ إليَّ من لُبْس الشُّفُوفِ
فإِنه صرَّح أن نصبَ المضارع للقطع عن العطف ولإِفادة المصاحبة، وهو «واو» الصرف عندهم لصرفه عن حقيقتها التي هي العطف، لأن الشاعر إنما أراد أن لُبْسَ العباءةُ مُصَاحبًا مع هذا أحبّ إليه، يعني هذا المجموع أحبّ إليه؛ ولا يريدُ أن هذا محبوبٌ وهذا أيضًا محبوب. ومرَّ عليه ابن هشام «في المغني» وقال: إن بعضهم أضافوا قِسمًا آخر وسمَّوه «واو» الصرف كما في الشعر للبس عباءة الخ. ثم قال: ولا حاجة إليه، فإِنَّا نقدرُ الناصبَ ونقول: ولَلُبسُ عَبَاءةٍ وأن تَقرَّ عيني
…
إلخ. قلت: وليس الأمرُ كما زعمه لفسادِ المعنى. والوجه ما ذَكَره الرَّضي.
ومن ههنا تبينَّ أن «الواو» في قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِى الاْرْضِ جَمِيعًا} [المائدة: 17] ليس للعطف. ومعناه: أن الله إن أراد أن يُهلِكَ المسيحَ ابن مريم مع كون أمه ومن في الأرض في حمايته لا يملكُ أحدٌ أن ينقذه من الله. وليس الإِهلاك ههنا واقعًا على هؤلاء جميعًا، لأن المقصود هو إظهارُ القُدرةِ على إهلاك مَنْ جُعل إلهًا من دون الله وافترى عليه بالألوهية، ولو كان هؤلاء أعضاد آله، لا إهلاكُ من في الأرض.
والفرق بين إهلاكِ المسيح عليه السلام في حال مُصَاحبةِ جميع مَنْ في الأرض وحمايتهم إياه وإهلاك جميع مَنْ في الأرض غير خفي، فإِن في الإهلاك الأول قوةً ليست في الثاني، فهو على حد قوله:{قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْءانِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء: 88] فعجزُهم في حال المظاهرة أبلغُ من عجزهم في غير هذا الحال، فكذلك إهلاكُ جميع مَنْ في الأرض، وإن كان دليلًا على قُدرته على إهلاكِهِ أيضًا، إلا أن إهلاكه، مصاحبًا جميع من في الأرض إياه، أدلُّ على قدرته من إهلاكه في غير هذا الحال، فإن القدرةَ في صورة إهلاك الجميع ضِمنني بخلافه في تلك الصورة.
والحاصل: أن المسوقَ له في هذا الموضع هو بيانُ إهلاك من اتخذوه إلهًا وهو يَتِم بالمفعول معه ما لا يتم بالعطف كما علمت. وعلى هذا صارت الآيةُ قاطعةً قاهرةً على من تفَّوَه بوفاة المسيح وتمسكِ بهذهِ الآية، ودلت كالشمس في رَابعة النهار على أنه لم يمت وأنه حيٌ بعد. وأنه تعالى لو أراد إهلاكَه لم يَمْنعه أحدٌ، فعُلِم أنه لم يَهلِك، ولو كان هَلَكَ لكان ذِكْرُ هلاكِهِ أحرى من بيان القدرة فقط. ولمَّا لم يذكره مع داعيةِ المقام، عُلِم أنه لم يهلكِ بعد، وإلا لكان هلاكُه أفحَم للنصارى.
ولكن الله سبحانه انتقل من بيان الهَلاك إلى بيان قدرتِهِ ثُمَّ صرَّحَ عليه في النساء وقال: {وَإِن مّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] فأعلن أنه لم يَمتُ ولو كان ماتَ لكرره في ردِّ الألوهية، مع أنَّه ذكر مخاضَ والدته وكونُه مولودًا كسائر الناس، إلا أن وِلادَتَه لما كانت بالنفخ على خلاف ولادة عامة الناس، نبَّه على هذا الأمر البديع، ليُعلِم أن الإِنسانَ لا
يصيرُ إلهًا بكونه منفوخًا ومخلوقًا من غير الطريق المعروف، إنما هو إله يخلق كيف يشاء. ولذا جاءت تحمِلُه على يديها ليراه الناسُ أنه وُلِد كما يولد الناس؛ فانظرْ كيف ذَكَرَ وِلادتَه على أتم تفصيل، ولم يذكر وفاته ولو إيماءً مع كونه أدلُّ وأقطعُ لحجة الخصم، فهذه الآية حجة قوية لا يأتيها الباطلُ من بين يديها ولا من خلفها إن شاء الله تعالى.
وإذا تحصَّلت الفرق بينهما، فاعلم أن قوله تعالى:{وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب مفعولٌ معه، وليس لإِفادة الشَّركة. والمعنى: أن للرجلِ معاملة مع مسح الرأس، أما إنها معاملةُ المسح أو الغسل فهو مسكوت عنه.
ثم أقول: إن «الواو» قد لا تكون للشركة في الحكم وتجيء للمصاحبة فقط مع اشتراكها في الإِعراب وأُسَمِّيها واو المعية. واستنبطته من كلام الرَّضي في قوله: لَلُبْس عبادةٍ
…
إلخ، وعلى هذا أمكنَ «الواو» في قراءة الجر أيضًا للمصاحبةِ دون إفادة الشركة. والحسنُ فيه أن الآيةَ جَعَلت الوجهَ واليدينِ في طرف، والرأس والرجل في طرف آخر، لأنهما نوعان يشتركان في بعض الأحكام ويختصانِ ببعضٍ آخر، كسقوط الرأس والرجل في التيمم. وأشار إليه ابن عباس رضي الله عنه، ولعله في «الفوز الكبير» أن الوجهَ واليدَ مغسولان ويُعتبران في التيمم، والرأسَ والرِّجلَ قد يسقطان في حكم الغسل، فلهذين حكمٌ ولهذين حكم، ولذا جُمعا في الآية عند بيان المسح.
وفي تذكرة قديمة عندي أن اليد والوجه مغسولان في الأقوال كلها، بخلاف الرجل والرأس، فإن الشريعةَ تفردت ببيان وظيفتهما. وانحل به ما تعسَّر عليهم من قول ثُمَامة عند البخاري: آمنت مع محمد صلى الله عليه وسلم فَفَهِمَ منه الشارحون أنه آمن معه مَعِيةً زمانية وليس بصادق، فاضطروا إلى التأويلات، ومراده أن ابتداءَ إيمانه قَارن وصَاحب مع بقاء إيمان محمد صلى الله عليه وسلم فصحت المعيةُ، ولهذا الضيق استُشكَلت عليهم آية آخرى وهي:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] وقالوا: إن «مع» يتعلق بالسعي لا بقوله: «بلغ» .
والحاصل: أن المعيةَ والمصاحبةَ تصدُقُ بالاقتران في الجملة، لا كما فهموه. وعند البخاري يكفيك الوجهَ والكفين بالنصب أيضًا من هذا الوادي، فإِنه مفعولٌ معه، فإِنه أدار الحكمَ على هذا المجموع ولم يُرد أن يحكمَ على كل واحدٍ على حدة.
ثم اعرف الفرق
(1)
بين قوله: {وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} وقولنا: وامسحوا رؤوسكم بدون الباء
(1)
قال الشيخ رضي الله عنه بعد نقل عبارة "بدائع الفوائد" الدالة على الفرق بين قولهم: قرأت سورة كذا وقولهم: قرأت بسورة كذا: إن المرادَ بالأول أنه قرأ هذا الشيء والمراد بالثاني أنه أوقعَ القراءة المعروفة المعهودة التي اشتهرت بهذا الاسم بين الناس، وعهدت أنها أي جنس بالإِتيان بهذه السورة، ووجهه أن قَرَأ في متعارف اللغة متعدٍّ بنفسه فإِذا نقلته الشريعةُ إلى عُرفها ولقَّبتْ به قراءة الصلاة، صار لازمًا، كان معنى قرأ على هذا فعلُ فعلِ القراءة، وهذا لا يحتاج إلى مفعول به، فلما أريدَ تعلقُه بسورة عُدِّيَ بالباء، مثل هذا في قوله:{وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] بالباء وقولك: مسحت رأس اليتيم، الأول على عُرف الشريعة، وهو إمرار اليد المبتلة على الشيء، فاقتضى ليلة، بخلاف الثاني فإنَّه على صرافة اللغة. انتهى بعبارته الشريفة.
وهو الظاهر، لأن المسح متعدٍ بنفسه ومثل قوله: أوتره وأوتر به، وقرأ الفاتحة وقرأ بالفاتحة. وتعرض إليه الزمخشري تحت قوله تعالى:{وَهُزّى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25] مع كون الهز متعديًا بنفسه. وسنقرر عليه الكلام مفصلًا إن شاء الله تعالى في باب الوتر. وجملة الفرق هاهنا أنه لو قيل: وامسحوا رؤوسكم لكفي إمرارُ اليد بدون الماء أيضًا عن عهدة المسح، لأنه لا تعتبر فيه البِلة لغةً، فإِذا اعتبرت فيه المعهودية الشريعية، وهي إمرار اليد المُبتلة، صار لازمًا واحتاج في تعديته إلى الباء.
وحينئذ معنى قوله: {وَامْسَحُواْ} أي افعلوا فعل المسح، يعني المسح المعهود، فاقتصر على ما كان باليد المبتلة. ولعل العربَ لمَّا لم يكونوا يعتمُّون في عامة أحوالهم، جاء القرآن على عرفهم إذ ذاك وقال:{وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ} ولم يتعرض إلى العِمَامة، ولذا عامةُ رواياتِ وضوئه صلى الله عليه وسلم خاليةٌ عن ذكر المسح على العِمامة، ومتى كان معتمًا تعرض هناك الراوي، كما عند أبي داود في بيان صفة المسح أنه مسح ولم يَنْقُض العِمامة.
ثم إنه لا إجمالَ في الآية عندي في باب المسح كما قرره علماؤنا. والإقتصار على الربع، إنما هو لأنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم دونه، ولو ثبت عنه صلى الله عليه وسلم دون الربُع لقلنا بفرضيته، وبفعله علمنا أن الفرضَ هو الربع، ولو كان الفرضُ هو الكلَّ لما تنزل إلى الربع، وكذلك لو كان الفرض دون الربع لتنزل عنه بيانًا للجواز، فإِذا اقتصر على الربع ثم لم يتنزل عنه، ثبت أن هذا القدرَ هو الفرضُ. ولا شكَّ أن مذهبنا هو الأحوط في هذا الباب، حتى أن بعض الشافعية أيضًا أَقرُّوا بذلك.
قوله: (قال أبو عبد الله)
…
إلخ وظني أن المصنف رحمه الله انتقلَ إلى بيان مسألةٍ أُصولية، وهي أن الزِّيادةَ بخبر الواحد تجوز. ولذا بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم قَدْر الفرض مع عدم ذكره في القرآن، وقد مر منا تحقيقه في المقدمة فراجعه.
وحاصل المسألة عندنا: أن الزيادةَ بالخبر إنما تمتنعُ في مرتبة الرُّكنية والشرطية، أما في مرتبة الوجوب أو الاستحباب فلا
(1)
، ولعل نظرَ الشافعية في أمثال هذه المواضع أن الحكم إذا كان قطعيًا بنفسه لا تؤثر فيه ظنية الطريق، فخبر الواحد وإن كان ظنيًا في نفسه إلا أنه طريقٌ لبلوغ الحكم القطعي إلينا فقط، فلا يكونُ مؤثرًا في الحكم. ونَظَر الحنفية أن خبرَالواحد وإنْ كان طريقًا لعلم الحكم، لكنه لازمٌ ولا انفكاك عن هذا الطريق الظني في تحصيل هذا الحكم القطعي. وإذا امتنع انفكاكُ طريق العلم عن الحكم وَجَبَ أن يُؤَثِّر فيه. ولم تصح مراعاة الحكم في نفسه، فظنية الطريق تسري إلى الحكم لا محَالة وتجعله ظنيًا البَّتة.
(1)
قلت: ورأيت في "العرف الشذى" في باب مهور النساء: أن الزيادة في مرتبة الركنية والشرطية أيضًا تجوز عند شيخي رضي الله عنه وإن لم يكتبُوه إلَّا في مرتبة الظن دون القطع. وهذا يبني على تحقيقه أن الأركانَ والشرائطَ أيضًا قد تكون ظنية.